محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

24 – سورة النور :

سميت به لاشتمالها على ما أمكن من بيان النور الإلهي ، بالتمثيل المفيد كمال المعرفة الممكنة لنوع الإنسان ، مع مقدماتها ، وهي أعظم مقاصد القرآن – قاله المهايمي ، وهي مدنية . وقال القرطبي : إن آية {[1]} : { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم } إلخ مكية . وهي أربع وستون آية .

بسم الله الرحمن الرحيم

( 1 ) { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .

{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا } خبر محذوف . أي هذه السورة . والتنكير للتفخيم { وَفَرَضْنَاهَا } أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا { وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي تتذكرونها فتعملون بموجبها . قال الإمام ابن تيمية رحمه الله ، في تفسير هذه الآيات : هذه السورة فرضها تعالى بالبينات والتقدير والحدود ، التي من يتعد حلالها إلى الحرام فقد ظلم نفسه . ومن قرب من حرامها فقد اعتدى وتعدى الحدود . وبين فيها فرض العقوبة وآية الجلد وفريضة الشهادة على الزنى وفريضة شهادة المتلاعنين . كل منهما يشهد أربع شهادات بالله . ونهى فيها عن تعدي حدود الله في الفروج والأعراض والعورات وطاعة ذي السلطان . سواء كان في منزله أو ولايته . ولا يخرج ولا يدخل إلا بإذنه . إذ الحقوق نوعان : نوع لله فلا يتعدى حدوده ، ونوع للعباد فيه أمر فلا يفعل إلا بإذن المالك ، فليس لأحد أن يفعل شيئا في حق غيره إلا بإذن الله وإن لم يأذن المالك فإذن الله هو الأصل ، وإذن المالك حيث أذن الله وجعل له الإذن فيه . ولهذا ضمنها الاستئذان في المساكن والمطاعم وفي الأمور الجامعة . كالصلاة والجهاد ونحوهما . ووسطها بذكر النور الذي هو مادة كل خير وصلاح كل شيء . وهو ينشأ عن امتثال أمر الله واجتناب نهيه ، وعن الصبر على ذلك . فإنه ضياء فإن حفظ الحدود بتقوى الله ، يجعل لصاحبه نورا . كما قال تعالى ( {[5583]} : { اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به . . . } الآية فضد النور الظلمة ، ولهذا عقب ذكر النور وأعمال المؤمنين بأعمال الكفار . وأهل البدع والضلال . فقال {[5584]} : { والذين كفروا أعمالهم كسراب } الآية ، إلى قوله {[5585]} : { أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج . . . } الآية وكذلك الظلم ظلمات يوم القيامة . وظلم العبد نفسه من الظلم . فإن للسيئة ظلمة في القلب ، وسوادا في الوجه ، ووهنا في البدن ، ونقصا في الرزق ، وبغضا في قلوب الخلق . كما روي ذلك عن ابن عباس . يوضحه أن الله ضرب مثل إيمان المؤمنين بالنور ، وأعمال الكفار بالظلمة . والإيمان اسم جامع لكل ما يحبه الله . والكفر اسم جامع لكل ما يبغضه ، وإن كان لا يكفر العبد إذا كان معه أصل الإيمان وبعض فروع الكفر من المعاصي . كما لا يصير مؤمنا إذا كان معه بعض فروع الإيمان . ولغض البصر اختصاص بالنور كما في حديث أبي هريرة الذي صححه الترمذي {[5586]} : ( إن العبد إذا أذنب ) . . . الحديث . وفيه : ( فذلك الران الذي ذكر الله ) . وفي ( الصحيح ) {[5587]} : ( إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ) . والغين حجاب رقيق أرق من الغيم ، فأخبر أنه يستغفر ليزيل الغين ، فلا يكون نكتة سوداء . كما أنها إذا أزيلت لا تصير رينا . وقال حذيفة : ( إن الإيمان يبدو في القلب لمظة بيضاء . فكلما ازداد العبد إيمانا ، ازداد قلبه بياضا ) ، وفي خطبة الإمام أحمد ، في الرد على الزنادقة : الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى . يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى . . . . . . إلخ . وقد قرن الله سبحانه بين الهدى والضلال بما يشبه هذا كقوله تعالى {[5588]} : { وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور } وقال {[5589]} : { مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع } وقال {[5590]} : { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } الآيات .

وهذا النور يكون للمؤمن في الدنيا على حسن عمله واعتقاده ، يظهر في الآخرة ، كما قال تعالى {[5591]} : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات } إلى قوله : { وبئس المصير } فأخبر سبحانه أن المنافقين يفقدون النور الذي كان المؤمنون يمشون به ، ويطلبون الاقتباس من نورهم ، فيحجبون عن ذلك بحجاب يضرب بينهم . كما أنهم في الدنيا لما فقدوا النور {[5592]} : { كمثل الذي استوقد نارا } الآية .


[1]:(4 النساء 15 و 16).
[5583]:(57 الحديد 28).
[5584]:(24 النور 39).
[5585]:(24 النور 40).
[5586]:أخرجه في: 44 – كتاب التفسير، سورة المطففين، حدثنا قتيبة، حدثنا الليث.
[5587]:أخرجه مسلم في: 48 – كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث 41 (طبعتنا).
[5588]:(35 فاطر 19 و 20).
[5589]:(11 هود 24).
[5590]:(2 البقرة 17).
[5591]:(57 الحديد 12 و 15).
[5592]:(2 البقرة 17).