المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سور النور هذه السورة كلها مدنية . {[1]}

بسم الله الرحمن الرحيم .

قوله { سورة } قرأ الجمهور ، «سورةٌ » بالرفع ، وقرأ عيسى بن عمر ومجاهد «سورةً » بالنصب ، وروي ذلك أيضاً عن عمر بن عبد العزيز وعن أبي الدرداء{[8559]} ، فوجه الرفع خبر ابتداء مضمر تقديره هذه سورة ، أو ابتداء وخبره مقدم تقديره فيما يتلى عليكم ، ويحتمل أن يكون قوله «سورة » ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة ، فحسن الابتداء لذلك ويكون الخبر في قول : { الزانية } وفيما بعد ذلك ، والمعنى السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا ، إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم ولكن يلحق هذا القول : إن كون الابتداء هو الخبر ليس بالبين إلا أن نقدر الخبر في السورة بأسرها وهذا بعيد في القياس{[8560]} ، وقول الشاعر «فارس ما تركوه » ، ووجه النصب إضمار فعل قدره بعضهم اتلوا سورة أو نحوه ، وجعله بعضهم أنزلنا { سورة أنزلناها }{[8561]} ، وقال الفراء هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه{[8562]} ، وقرأ جمهور الناس «وفرضناها » بتخفيف الراء ، ومعناه الإثبات والإيجاب بأبلغ وجوهه إذ هو مشبه بالفرض في الأجرام ، وقرأ مجاهد وغيره وأبو عمرو وابن كثير وعمر بن عبد العزيز وابن مسعود «وفرّضناها » بشد الراء ومعناه جعلناها فرائض فرائض ، فمن حيث تردد ذلك ضعّف الفعل للمبالغة والتكثير{[8563]} ، وقرأ الأعمش «وفرضناها لكم » ، وحكى الزهراوي عن بعض العلماء أنه قال كل ما السورة من أمر ونهي فرض لا حض بهذه اللفظة ، و «الآيات البينات » أمثالها ومواعظها وأحكامها ، وقال الزهراوي المعنى ليس فيها مشكل تأويلها موافق لظاهرها .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تحكم ، وقوله { لعلكم } أي على توقع البشر ورجائهم .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[8559]:في بعض النسخ: "وعن أبي الدرداء"، وأبو الدرداء اسمه عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري، مشهور بكنيته، وقيل: اسمه عامر، وعويمر لقب، وهو صحابي جليل، كان عابدا، مات في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه، أما أم الدرداء فهي زوجه، واسمها هجيمة، وقيل: جهيمة الأوصابية الدمشقية، قال عنها الحافظ العسقلاني: "ثقة، فقيهة، ماتت سنة إحدى وثمانين".
[8560]:نقل أبو حيان في البحر المحيط هذه الفقرة عن ابن عطية مع اختلاف في بعض الألفاظ عما هنا؛ إذ جاء فيه "إلا أن يكون المبتدأ ليس بالبين أنه خبر، إلا أن يقدر الخبر في السورة كلها"، ومعنى هذا أن قوله تعالى: {الزانية والزاني} وهو مبتدأ ومعطوف عليه ليس بالبين أنه خبر عن المبتدأ الأول وهو قوله تعالى: [سورة]، لكن لو قدرنا أن الخبر في السورة كلها لأصبح الأمر بينا واضحا. وقد جاء في كثير من النسخ زيادة عما هنا قوله: وقول الشاعر: "فارس ما تركوه" فقد جاز الابتداء بالنكرة هنا لأنها وصفت بصفة أخرجتها عن حد النكرة المحضة وجاء الخبر بعد ذلك، فأي تخصيص للنكرة يجعلها صالحة للابتداء.
[8561]:فيكون من باب اشتغال الفعل عن الفاعل بضميره، ولا محل هنا لجملة [أنزلناها] لأنها جملة مفسرة، بخلاف الوجه الأول فإن [أنزلناها] في محل نصب على أنها صفة لقوله سبحانه: [سورة]، ولكن يترتب على القول بالاشتغال الابتداء بالنكرة من غير مسوغ، إلا إذا قدرنا لها صفة بحيث يكون التقدير: سورة عظيمة.
[8562]:وقيل: إنها منصوبة على الإغراء، أي: "دونك سورة"، قال ذلك الزمخشري في الكشاف، وقد رده أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط وقال: إنه لا يجوز حذف أداة الإغراء.
[8563]:وقد يكون التضعيف لبيان أن الله أنزلها قطعا قطعا أو نجما نجما، لأن الفرض هو القطع. قال ذلك القرطبي.