فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النور

هي مدنية ، وآياتها أربع وستون آية أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا : أنزلت سورة النور بالمدينة . أخرج الحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عائشة مرفوعاً : «لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة : يعني النساء ، وعلموهن الغزل وسورة النور » . أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «علموا رجالكم سورة المائدة ، وعلموا نساءكم سورة النور » وهو مرسل . وأخرج أبو عبيد في فضائله عن حارثة بن مضرب قال : كتب إلينا عمر بن الخطاب أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور .

السورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة ، ولذلك سميت السورة من القرآن سورة ، ومنه قول زهير :

ألم تر أن الله أعطاك سورة *** ترى كل ملك دونها يتذبذب

أي منزلة ، قرأ الجمهور { سورة } بالرفع وفيه وجهان : أحدهما : أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف أي هذه سورة ، ورجحه الزجاج ، والفراء ، والمبرد ، قالوا : لأنها نكرة ، ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع . والوجه الثاني أن يكون مبتدأ وجاز الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة بقوله { أنزلناها } والخبر { الزانية والزاني } ويكون المعنى : السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا ، إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها مبدأ ومختم ، وهذا معنى صحيح ، ولا وجه لما قاله الأولون من تعليل المنع من الابتداء بها كونها نكرة فهي نكرة مخصصة بالصفة ، وهو مجمع على جواز الابتداء بها . وقيل : هي مبتدأ محذوف الخبر على تقدير : فيما أوحينا إليك سورة ، وردّ بأن مقتضى المقام ببيان شأن هذه السورة الكريمة ، لا بيان أن في جملة ما أوحي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم سورة شأنها كذا وكذا . وقرأ الحسن بن عبد العزيز ، وعيسى الثقفي ، وعيسى الكوفي ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وطلحة بن مصرف بالنصب ، وفيه أوجه : الأوّل أنها منصوبة بفعل مقدّر غير مفسر بما بعده ، تقديره اتل سورة ، أو اقرأ سورة . والثاني أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده على ما قيل في باب اشتغال الفعل عن الفاعل بضميره : أي أنزلنا سورة أنزلناها ، فلا محل ل { أنزلناها } هاهنا ؛ لأنها جملة مفسرة ، بخلاف الوجه الذي قبله فإنها في محل نصب على أنها صفة لسورة . الوجه الثالث : أنها منصوبة على الإغراء أي : دونك سورة ، قاله صاحب الكشّاف . ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء . الرابع : أنها منصوبة على الحال من ضمير { أنزلناها } ، قال الفراء : هي حال من الهاء والألف ، والحال من المكنى يجوز أن تتقدّم عليه ، وعلى هذا فالضمير في { أنزلناها } ليس عائداً على { سورة } ، بل على الأحكام ، كأنه قيل : أنزلنا الأحكام حال كونها سورة من سور القرآن . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو { وفرّضناها } بالتشديد ، وقرأ الباقون بالتخفيف . قال أبو عمرو : { فرّضناها } بالتشديد : أي قطعناها في الإنزال نجماً نجماً ، والفرض القطع ، ويجوز أن يكون التشديد للتكثير ، أو للمبالغة ، ومعنى التخفيف : أوجبناها ، وجعلناها مقطوعاً بها ، وقيل : ألزمناكم العمل بها ، وقيل : قدّرنا ما فيها من الحدود ، والفرض : التقدير ، ومنه { إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان } [ القصص : 85 ] .

{ وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَات } أي : أنزلنا في غضونها وتضاعيفها ، ومعنى كونها بينات : أنها واضحة الدلالة على مدلولها ، وتكرير { أنزلنا } لكمال العناية بإنزال هذه السورة ، لما اشتملت عليه من الأحكام .

/خ3