معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

قوله تعالى : { والذين تبوؤوا الدار والإيمان } وهم الأنصار تبوؤا الدار توطنوا الدار ، أي : المدينة ، اتخذوها دار الهجرة والإيمان ، { من قبلهم } أي أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين . ونظم الآية : والذين تبوؤا الدار من قبلهم أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم ، وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان تبوء . { يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة } حزازة وغيظاً وحسداً ، { مما أوتوا } أي مما أعطى المهاجرين دونهم من الفيء ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار فطابت أنفس الأنصار بذلك ، { ويؤثرون على أنفسهم } أي يؤثرون على إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم ، { ولو كان بهم خصاصة } فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون ، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الله بن داود عن فضل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستضافه فبعث إلى نسائه هل عندكن من شيء ؟ فقلن ما معناه : إلا الماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يضم أو يضيف هذا ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، فانطلق به إلى امرأته فقال : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ما عندنا إلا قوت الصبيان ، فقال : هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك ، إذا أرادوا عشاءً ، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ، ونومت صبيانها ، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته ، فجعلا يريانه أنهما يأكلان ، فباتا طاويين ، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما ، فأنزل الله عز وجل : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحكم بن نافع ، أنبأنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل ، قال : لا ، فقالوا : تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة ، قالوا : سمعنا وأطعنا .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان عن يحيى بن سعد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : " دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين ، فقالوا : لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ، فإنه سيصيبكم أثرة بعدي " . وروي عن ابن عباس قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ، فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها ، فأنزل الله عز وجل :{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } " . والشح في كلام العرب : البخل ومنع الفضل . وفرق العلماء بين الشح والبخل . روي أن رجلاً قال لعبد الله بن مسعود : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، فقال : وما ذاك ؟ قال : أسمع الله يقول : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وأنا رجل شحيح ، لا يكاد يخرج من يدي شيء ، فقال عبد الله : ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله عز وجل في القرآن ، ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل . وقال ابن عمر : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له . وقال سعيد بن جبير : الشح هو أخذ الحرام ومنع الزكاة . وقيل : الشح هو الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم . قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ، ولم يدعه الشح إلى أن يمنع شيئاً من شيء أمره الله به فقد وقاه شح نفسه .

أخبرنا الإمام محمد بن أبي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو سعيد خلف ابن عبد الرحمن بن أبي نزار ، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن حزاز الفهندري ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق السعدي ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا القعنبي ، حدثنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن القاسم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنبأنا أبي وشعيب قالا : أنبأنا الليث عن يزيد بن الهادي عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن يزيد عن القعقاع هو ابن اللجلاج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

ثم مدح - سبحانه - بعد ذلك الأنصار ، الذين يحبون من هاجر إليهم فقال : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } .

والجملة الكريمة معطوفة على { الْمُهَاجِرِينَ } أو مبتدأ وخبره : { يُحِبُّونَ } والتبوؤ : النزول فى المكان ، ومنه المباءة للمنزل الذى ينزل فيه الإنسان .

والمراد بالدار : المدينة المنورة ، وأل للعهد . أى : الدار المعهودة المعروفة وهى دار الهجرة .

وقوله : { والإيمان } منصوب بفعل مقدر ، أى : وأخلصوا الإيمان .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى عطف الإيمان على الدار ، ولا يقال : تبوأوا الإيمان ؟

قلت معناه : تبوأوا الدار وأخلصوا الإيمان . كقوله : علفتها تبنا وماء باردا .

أى : وجعلوا الإيمان مستقرا ومتوطنا لهم ، لتمكنهم منه ، واستقامتهم عليه ، كما جعلوا المدينة كذلك .

أو أراد : دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف فى الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ، ووضع المضاف إليه مقامه . .

أو سمى المدينة - لأنها دار الهجرة ، ومكان ظهور الإيمان - بالإيمان . .

وقوله : { مِن قَبْلِهِمْ } أى : من قبل المهاجرين ، وهو متعلق بقوله { تَبَوَّءُوا } .

وقوله : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } خبر لمبتدأ ، أو حال من الذين تبوأوا الدار .

أى : هذه هى صفات المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم .

. . وهذا هو جزاؤهم .

أما الذين سكنوا دار الهجرة وهى المدينة المنورة ، من قبل المهاجرين ، وأخلصوا إيمانهم وعبادتهم لله - تعالى- ، فإن من صفاتهم أنهم يحبون إخوانهم الذين هاجروا إليهم حبا شديدا ، لأن الإيمان ربط قلوبهم برباط المودة والمحبة . وقوله : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } صفة أخرى من صفات الأنصار .

ومعنى : { يَجِدُونَ } هنا : يحسون ويعلمون ، والضمير للأنصار ، وفى قوله { أُوتُواْ } للمهاجرين . والحاجة فى الأصل : اسم مصدر بمعنى الاحتياج ، أى الافتقار إلى الشىء .

والمراد بها هنا : المأرب أو الرغبة الناشئة عن التطلع إلى ما منحه النبى - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين دون الأنصار ، من فىء أو غيره .

أى : أن من صفات الأنصار - أيضا - أنهم لا تتطلع نفوسهم إلى شىء مما أعطى للمهاجرين من الفىء أو غيره ، لأن المحبة التى ربطت قلوب الأنصار بالمهاجرين ، جعلت الأنصار يرتفعون عن التشوف إلى شىء مما أعطاه النبى - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين وحدهم . . .

ثم وصفهم - سبحانه - بصفة ثالثة كريمة فقال : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . . } .

والإيثار معناه : أن يؤثر الإنسان غيره على نفسه ، على سبيل الإكرام والنفع ، والخصاصة : شدة الحاجة ، وأصلها من خصاص البيت ، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتحات .

أى : أن من صفات الأنصار أنهم كانوا يقدمون فى النفع إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ، ولو كانوا فى حاجة ماسة ، وفقر واضح ، إلى ما يقدمونه لإخوانهم المهاجرين .

ولقد ضرب الأنصار - رضى الله عنهم - أروع الأمثال وأسماها فى هذا المضمار ، ومن ذلك ما رواه الشيخان والترمذى والنسائى وغيرهم عن أبى هريرة قال : " أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أصابنى الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله " ؟ فقام رجل من الأنصار - وفى رواية أنه أبو طلحة - فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب به إلى أهله ، فقال لامرأته : أكرمى ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : والله ما عندى إلا قوت الصيبة ! ! قال : إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم ، وتعالى فأطفئى السراج ، ونطوى بطوننا الليلة لضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعلت .

ثم غدا الضيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة " وأنزل الله فيهما : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . . } . "

وقوله - سبحانه - : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } تذييل قصد به حض الناس على التحلى بفضيلة السخاء والكرم .

والشح : يرى بعضهم أنه بمعنى البخل ، ويرى آخرون أن الشح غريزة فى النفس تحملها على الإمساك والتقتير ، وأما البخل فهو المنع ذاته ، فكأن البخل أثر من آثار الشح .

قال صاحب الكشاف : " الشح " - بالضم والكسر قد قرئ بهما - : اللؤم ، وأن تكون نفس المرء كزة حريصة على المنع كما قال الشاعر :

يمارس نفسا بين جنبيه كَزَّةً . . . إذا هَمَّ بالمعروف قالت له مهلا

وقد أضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهو المنع نفسه ، ومنه قوله - تعالى - : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح . . } أى : ومن يوق - بتوفيق الله وفضله - شح نفسه وحرصها على الإمساك ، فيخالفها فيما تأمره به من المنع والتقتير . فأولئك الذين يخالفونها هم المفلحون ، الفائزون برضا الله - عز وجل - .

ومن الأحاديث التى وردت فى النهى عن الشح ، ما أخرجه مسلم - فى صحيحه - عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

6

والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .

وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات ، وبلغت إلى آفاق ، لولا أنها وقعت بالفعل ، لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق . .

والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم . . أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم ، وتسكن إليه أرواحهم ، ويثوبون إليه ويطمئنون له ، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .

( يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين ! ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع ، ومن مال يختصون به كهذا الفيء ، فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا . ولا يقول : حسدا ولا ضيقا . إنما يقول : ( شيئا ) . مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم ، فلا تجد شيئا أصلا .

( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . . والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا .

( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) . . فهذا الشح . شح النفس . هو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه ، فقد وقي هذا المعوق عن الخير ، فانطلق إليه معطيا باذلا كريما . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .

يقول تعالى ذكره : { وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ والإيمَانَ }يقول : اتخذوا المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فابتنوها منازل ، وَالإيمَانَ بالله ورسوله { مِنْ قَبْلِهِمْ }يعني : من قبل المهاجرين ، { يُحِبّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ } : يحبون من ترك منزله ، وانتقل إليهم من غيرهم ، وعُنِي بذلك الأنصار يحبون المهاجرين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ }قال : الأنصار نعت . قال محمد بن عمرو : سفاطة أنفسهم . وقال الحارث : سخاوة أنفسهم عند ما روى عنهم من ذلك ، وإيثارهم إياهم ولم يصب الأنصار من ذلك الفيء شيء .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مِنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا } يقول : مما أعطوا إخوانهم هذا الحيّ من الأنصار ، أسلموا في ديارهم ، فابتنوا المساجد والمسجد ، قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأحسن الله عليهم الثناء في ذلك وهاتان الطائفتان الأوّلتان من هذه الآية ، أخذتا بفضلهما ، ومضتا على مَهَلهما ، وأثبت الله حظهما في الفيء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله الله عزّ وجلّ : وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ قال : هؤلاء الأنصار يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين .

وقوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا } يقول جلّ ثناؤه : ولا يجد الذين تبوّءوا الدار من قبلهم ، وهم الأنصار في صدورهم حاجة ، يعني حسدا مما أوتوا ، يعني مما أوتي المهاجرين من الفيء ، وذلك لما ذُكر لنا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأوّلين دون الأنصار ، إلا رجلين من الأنصار ، أعطاهما لفقرهما ، وإنما فعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، أنه حدّث أنّ بني النضير خَلّوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار ، إلا أن سهل بن حُنَيف وأبا دُجانة سِماك بن خَرَشة ذكرا فقرا ، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُتُوا }المهاجرون . قال ، وتكلم في ذلك يعني أموالَ بني النضير بعضُ من تكلّم من الأنصار ، فعاتبهم الله عزّ وجلّ في ذلك فقال : { وَما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ اللّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم : «إنّ إخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا الأمْوَالَ والأولاد وَخَرَجُوا إلَيْكُمْ » فقالوا : أموالنا بينهم قطائع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أوَ غَيْرَ ذَلِكَ ؟ » قالوا : وما ذلك يا رسول الله ؟ قال : «هُمْ قَوْمٌ لا يَعْرِفُونَ العَمَلَ فَتَكْفُونهُمْ وَتُقاسِمُونَهُمْ الثّمَرَ » ، فقالوا : نعم يا رسول الله .

وبنحو الذي قلنا في قوله وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا سليمان أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أوتُوا }قال : الحسد .

قال : ثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن حاجَةً فِي صُدُورِهِمْ قال : حسدا في صدورهم .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أبو رجاء عن الحسن ، مثله .

وقوله : { وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ }يقول تعالى ذكر : وهو يصف الأنصار الذين تبوّءُوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين ، { وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهمْ }يقول : ويعطون المهاجرين أموالهم إيثارا لهم بها على أنفسهم ، { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }يقول : ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم . والخَصاصة مصدر ، وهي أيضا اسم ، وهو كلّ ما تخلّلته ببصرك كالكوّة والفرجة في الحائط ، تجمع خَصاصات وخِصاص ، كمال قال الراجز :

*** قَدْ عَلِمَ المَقاتِلاتُ هَجّا ***

*** والنّاظراتُ مِنْ خَصَاصٍ لَمْجا ***

*** لأَوْرِيَنْها دُلَجا أوْ مُنْجَا ***

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليضيفه ، فلم يكن عنده ما يضيفه ، فقال : «ألا رجلٌ يضيفُ هذا رَحِمَهُ اللّهُ ؟ » فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نوّمي الصبية ، وأطفئي المصباح وأريه بأنك تأكلين معه واتركيه لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت فنزلت : { وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن فضيل ، عن غزوان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، أن رجلاً من الأنصار بات به ضيف ، فلم يكن عند إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نَوّمي الصّبْية وأطفئي المصباح ، وقرّبي للضيف ما عندك ، قال : فنزلت هذه الآية وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ .

يقول تعالى ذكره : من وقاه الله شحّ نفسه فأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ المخلّدُونَ في الجنة . والشحّ في كلام العرب : البخل ، ومنع الفضل من المال ومنه قول عمرو بن كلثوم :

تَرَى اللّحِزَ الشّحيحَ إذَا أُمِرّتْ *** عَلَيْهِ لِمَالِهِ فِيها مُهينا

يعني بالشحيح : البخيل ، يقال : إنه لشحيح بين الشحّ والشحّ ، وفيه شحة شديدة وشحاحة . وأما العلماء فإنهم يرون أن الشحّ في هذا الموضع إنما هو أكل أموال الناس بغير حقّ .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا المسعودي ، عن أشعث ، عن أبي الشعثاء ، عن أبيه ، قال : أتى رجل ابن مسعود فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك ؟ قال : أسمع الله يقول : وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء ، قال : ليس ذاك بالشحّ الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشحّ أن تأكل مال أخيك ظلما ، ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل .

حدثني يحيى بن إبراهيم ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن جامع ، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود ، فقال يا أبا عبد الرحمن ، إني أخشى أن تكون أصابتني هذه الآية : { وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ }والله ما أعطي شيئا أستطيع منعه ، قال : ليس ذلك بالشحّ ، إنما الشحّ أن تأكل مال أخيك بغير حقه ، ولكن ذلك البخل .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جُبَير ، عن أبي الهياج الأسدي ، قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلاً يقول : اللهمّ قني شحّ نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إني إذا وقيت شحّ نفسي لم أسرق ، ولم أزن ، ولم أفعل شيئا ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف .

حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، قال : حدثنا مجمع بن جارية الأنصاري ، عن عمه يزيد بن جارية الأنصاري ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «بَرِىءَ مِنَ الشّحّ مَنْ أدّى الزّكاةَ ، وَقَرَى الضّيْفَ ، وأعْطَى في النّائِبَةِ » .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا زياد بن يونس أبو سلامة ، عن نافع بن عمر المكي ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبد الله بن عمر ، قال : إن نجوت من ثلاث طمعت أن أنجو . قال عبد الله بن صفوان ما هنّ أنبيك فيهنّ ، قال : أخرج المال العظيم ، فأخرجه ضرارا ، ثم أقول : أقرض ربي هذه الليلة ، ثم تعود نفسي فيه حتى أعيده من حيث أخرجته ، وإن نجوت من شأن عثمان ، قال ابن صفوان : أما عثمان فقُتل يوم قُتل ، وأنت تحبّ قتله وترضاه ، فأنت ممن قتله وأما أنت فرجل لم يقك الله شحّ نفسك ، قال : صدقت .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ : { وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ }قال : من وقى شحّ نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئا ، ولم يقربه ، ولم يدعه الشحّ أن يحبس من الحلال شيئا ، فهو من المفلحين ، كما قال الله عزّ وجلّ .

وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ }قال : من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله عزّ وجلّ عنه ، ولم يدعه الشحّ على أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به ، فقد وقاه الله شحّ نفسه ، فهو من المفلحين .