قوله تعالى : { وإذا مس الإنسان الضر } ، الجهد والشدة ، { دعانا لجنبه } ، أي : على جنبه مضطجعا ، { أو قاعدا أو قائما } ، يريد في جميع حالاته ، لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات . { فلما كشفنا } ، دفعنا { عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } ، أي استمر على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر ، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء ، كأنه لم يدعنا إلى ضر مسه أي : لم يطلب منا كشف ضر مسه . { كذلك زين للمسرفين } المجاوزين الحد في الكفر والمعصية ، { ما كانوا يعملون } ، من العصيان . قال ابن جريج : كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون من الدعاء عند البلاء وترك الشكر عند الرخاء . وقيل : معناه كما زين لكم أعمالكم زين للمسرفين الذين كانوا من قبلكم أعمالهم .
ثم صور - سبحانه - طبيعة الإِنسان في حالتي العسر واليسر فقال : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ .
والمس : اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإِحساس والإِصابة .
والضر : ما يصيب الإِنسان من سوء الحال في نفسه أو بدنه أو غيرهما مما يحبه ويشتهيه .
والمعنى : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر } عن طريق المرض أو الفقر أو غيرها { دَعَانَا } بإلحاح وتضرع لكي نكشفه عنه ، فهو تارة يدعونا وهو مضطجع على جنبه ، وتارة يدعونا وهو قاعد ، وتارة يدعونا وهو قائم على قدميه .
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ } وما أصابه من سوء { مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ } أي : مضى واستمر في غفلته الأولى حتى لكأنه لم تنزل به كروب ، ولم يسبق له أن دعانا بإلحاح لكشفها .
وخص - سبحانه - هذه الأحوال بالذكر ، لعدم خلو الإِنسان عنها في العادة .
وقيل : يصح أن يراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار ، لأنها قد تكون خفيفة فيدعو الله وهو قائم ، وقد تكون متوسطة فيدعوه وهو قاعد ، وقد تكون ثقيلة فيدعوه وهو نائم .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : " فإن قلت : فما فائدة ذكر هذه الأحوال ؟
قلت : معناه أن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر ، فهو يدعونا في حالاته كلها ، سواء أكان منبطحا عاجزاً عن النهوض ، أم كان قاعداً لا يقدر على القيام ، أم كان قائما لا يطيق المشي .
ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشد حالا وهو صاحب الفراش ، ومنهم من هو أخف ، وهو القادر على القعود ، ومنهم المستطيع للقيام ، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء ، لأن الإِنسان للجنس . . .
وفي التعبير بالمس إشارة إلى أن ما أصابه من ضر حتى لو كان يسيراً فإنه لا يترك الدعاء والابتهال إلى الله بأن يكشفه عنه .
وقوله : { لجنبه } في موضع الحال من فاعل { دعانا } و { أو } لتنويع الأحوال ، أو لأصناف المضار .
والتعبير بقوله - سبحانه { مر } يمثل أدق تصوير لطبيعة الإِنسان الذي يدعو الله عند البلاء ، وينساه عند الرخاء ، فهو في حالة البلاء يدعو الله في كل الأحوال ، فإذا ما انكشف عنه البلاء مر واندفع في تيار الحياة . يدون كابح ، ولا زاجر ، ولا مبالاة ، وبدون توقف ليتدبر أو ليعتبر . .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى : كما زين لهذا الإِنسان الدعاء عند البلاء والإِعراض عند الرخاء ، زين لهؤلاء المسرفين المتجاوزين لحدود الله ، ما كانوا يعملونه من إعراض عن ذكره ، ومن غفلة عن حكمته وعن سننه في كونه .
قال الآلوسى : " وفى الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ويهرع إليه في الشدة ، واللائق بحال العاقل التضرع إلى مولاه في السراء والضراء .
فإن ذلك أرجى للإِجابة . ففي الحديث الشريف : " تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة " .
وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال : ادع الله يوم سرائك يستجيب لك يوم ضرائك .
وفى حديث للترمذي عن أبى هريرة ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإِسناد " من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكروب ، فليكثر من الدعاء عن الرخاء " .
وقال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : " وقد ذم الله - تعالى - من هذه طريقته وصفته في الدعاء . أما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك ، - لأنه يدعو الله في الشدة والرخاء - ، وفي الحديث الشريف : " عجباً لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له : إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ، وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا مَسّ الإِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرّهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىَ ضُرّ مّسّهُ كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا أصاب الإنسان الشدّة والجهد دَعانا لِجَنْبِهِ يقول : استغاث بنا في كشف ذلك عنه ، لجنبه : يعني مضطجعا لجنبه . أوْ قاعِدا أوْ قائما الحال التي يكون بها عند نزول ذلك الضرّ به . فَلَمّا كَشَفْنا عَنْه ضُرّهُ يقول : فلما فرّجنا عنه الجهد الذي أصابه ، مرّ كأنْ لَمْ يَدعُنَا إلى ضُرّ مَسّهُ يقول : استمرّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضرّ ، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء ، أو تناساه ، وترك الشكر لربه الذي فرّج عنه ما كان قد نزل به من البلاء حين استعاذ به ، وعاد للشرك ودعوى الاَلهة والأوثان أربابا معه . يقول تعالى ذكره : كذلكَ زُيّنَ للْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يقول : كما زين لهذا الإنسان الذي وصفنا صفته استمراره على كفره بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضرّ ، كذلك زين للذين أسرفوا في الكذب على الله وعلى أنبيائه ، فتجاوزوا في القول فيهم إلى غير ما أذن الله لهم به ، ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : دَعانا لِجَنْبهِ قال : مضطجعا .
عطف على جملة { ولو يعجل الله للناس الشر } [ يونس : 11 ] الآية ، لأن الغرض الأهم من كلتيهما هو الاعتبار بذميم أحوال المشركين تفظيعاً لحالهم وتحذيراً من الوقوع في أمثالها بقرينة تنهية هذه الآية بجملة { كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } . فلما بُين في الآية السابقة وجه تأخير عذاببِ الاستئصال عنهم وإرجاء جزائهم إلى الآخرة بُين في هذه الآية حالهم عندما يمسهم شيء من الضر وعندما يُكشف الضر عنهم .
فالإنسان مراد به الجنس ، والتعريف باللام يفيد الاستغراق العرفي ، أي الإنسان الكافر ، لأن جمهور الناس حينئذٍ كافرون ، إذ كان المسلمون قبل الهجرة لا يعْدُون بضعة وسبعين رجلاً مع نسائهم وأبنائهم الذين هم تبع لهم . وبهذا الاعتبار يكون المنظور إليهم في هذا الحكم هم الكافرون ، كما في قوله تعالى : { ويقول الإنسان أئذا ما مِت لسَوف أخرج حيا } [ مريم : 66 ] وقوله : { يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسوّاك } [ الانفطار : 6 ، 7 ] . ويأخذ المسلمون من هذا الحكم ما يناسب مقدار ما في آحادهم من بقايا هذه الحال الجاهلية فيفيق كلٌّ من غفلته .
وعدل عن الإتيان بالضمير الراجع إلى ( الناس ) من قوله : { ولو يجعل الله للناس الشر } [ يونس : 11 ] لأن في ذكر لفظ الإنسان إيماء إلى التذكير بنعمة الله عليهم إذ جعلهم ، من أشرف الأنواع الموجودة على الأرض . ومن المفسرين من جعل اللام في الإنسان للعهد وجعل المراد به أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي ، واسمه مُهَشِّم ، وكان مشركاً ، وكان أصابه مرض . والضر تقدم في قوله : { وإن يمسسك الله بضر } في سورة { الأنعام : 17 ] .
والدعاء : هنا الطلب والسؤال بتضرع .
واللام في قوله : لجنبه } بمعنى ( على ) كقوله تعالى : { يخرون لِلأذقان } [ الإسراء : 109 ] وقوله : { وتلَّه للجبين } [ الصافات : 103 ] . ألا ترى أنه جاء في موضع اللام حرف ( على ) في قوله تعالى : { فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جُنوبكم } [ النساء : 103 ] وقوله : { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } [ آل عمران : 190 ] ونحوه قول جابر بن جني التغلبي :
تناولَه بالرمح ثم انثنى به *** فخَرَّ صريعاً لليدين وللفم
أي على اليدين وعلى الفم ، وهو متولد من معنى الاختصاص الذي هو أعم معاني اللام ، لأن الاختصاص بالشيء يقع بكيفيات كثيرة منها استعلاؤه عليه .
وإنما سلك هنا حرف الاختصاص للإشارة إلى أن الجنب مختص بالدعاء عند الضر ومتصل به فبالأولى غيره . وهذا الاستعمال منظور إليه في بيت جابر والآيتين الأخريين كما يظهر بالتأمل ، فهذا وجه الفرق بين الاستعمالين .
وموضع المجرور في موضع الحال ، ولذلك عطف { أو قاعداً أو قائماً } بالنصب . وإنما جعل الجنب مجروراً باللام ولم ينصب فيقال مثلاً مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً لتمثيل التمكن من حالة الراحة بذكر شق من جسده لأن ذلك أظهر في تمكنه ، كما كان ذكر الإعطاء في الآيتين الأخريين وبيت جابر أظهر في تمثيل الحالة بحيث جمع فيها بين ذكر الأعضاء وذكر الأفعال الدالة على أصل المعنى للدلالة على أنه يدعو الله في أندر الأحوال ملابَسَةً للدعاء ، وهي حالة تطلب الراحة وملازمة السكون .
ولذلك ابتدىء بذكر الجنب ، وأما زيادة قوله : { أو قاعداً أو قائماً } فلقصد تعميم الأحوال وتكميلها ، لأن المقام مقام الإطناب لزيادة تمثيل الأحوال ، أي دعانا في سائر الأحوال لا يلهيه عن دعائنا شيء .
والجنب : واحد الجنوب . وتقدم في قوله : { فتكوى بها جباههم وجنوبهم } في سورة [ براءة : 35 ] .
والقيام : الانتصاب . وتقدم في قوله : { وإذا أظلم عليهم قاموا } في سورة [ البقرة : 20 ] .
و ( إذا ) هٌّا لمجرد الظرفية وتوقيتتِ جوابها بشرطها ، وليست للاستقبال كما هو غالب أحوالها لأن المقصود هنا حكاية حال المشركين في دعائهم الله عند الاضطرار وإعراضهم عنه إلى عبادة آلهتهم عند الرخاء ، بقرينة قوله : { كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } إذ جعلها حالاً للمسرفين . وإذ عبر عن عملهم بلفظ { كانوا } الدال على أنه عملهم في ماضي أزمانهم ، ولذلك جيء في شرطها وجوابها وما عطف عليهما بأفعال المضي لأن كون ذلك حالهم فيما مضى أدخلُ في تسجيله عليهم مما لو فرض ذلك من حالهم في المستقبل إذ لعل فيهم من يتعظ بهذه الآية فيقطع عن عمله هذا أو يساق إلى النظر في الحقيقة .
ولهذا فرع عليه جملة : { فلما كشفنا عنه ضره مرَّ } لأن هذا التفريع هو المقصود من الكلام إذ الحالة الأولى وهي المفرع عليها حالة محمودة لولا ما يعقبها .
والكشف : حقيقته إظهار شيء عليه ساتر أو غطاء . وشاع إطلاقه على مطلق الإزالة . إما على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق ، وإما على طريقة الاستعارة بتشبيه المزال بشيء ساتر لشيء .
والمرور : هنا مجازي بمعنى استبدال حالة بغيرها . شُبه الاستبدال بالانتقال من مكان إلى آخر لأن الانتقال استبدال ، أي انتقل إلى حال كحَال من لم يسبق له دعاؤُنا ، أي نسي حالة اضطراره واحتياجه إلينا فصار كأنه لم يقع في ذلك الاحتياج .
و ( كأنْ ) مخففة كأنَّ ، واسمها ضمير الشأن حذف على ما هو الغالب . وعدي الدعاء بحرف ( إلى ) في قوله : { إلى ضر } دون اللام كما هو الغالب في نحو قوله :
على طريقة الاستعارة التبعية بتشبيه الضر بالعدو المفاجىء الذي يدعو إلى من فاجأه ناصراً إلى دفعه . وجَعْل ( إلى ) بمعنى اللام بُعد عن بلاغة هذا النظم وخلط للاعتبارات البلاغية .
وجملة : { كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } تذييل يعم ما تقدم وغيره ، أي هكذا التزيين الشيطاني زين لهم ما كانوا يعملون من أعمالهم في ماضي أزمانهم في الدعاء وغيره من ضلالاتهم .
وتقدم القول في معنى مَوقع ( كذلك ) في أمثال هذه الآية عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } في سورة [ البقرة : 143 ] وقوله : { كذلك زينا لكل أمة عملهم } في سورة [ الأنعام : 108 ] ، فالإشارة إلى التزيين المستفاد هنا وهو تزيين إعراضهم عن دعاء الله في حالة الرخاء ، أي مثلَ هذا التزيين العجيب زين لكل مُسرف عمله .
والإسراف : الإفراط والإكثار في شيء غير محمود . فالمراد بالمسرفين هنا الكافرون . واختير لفظ { المسرفين } لدلالته على مبالغتهم في كفرهم ، فالتعريف في المسرفين للاستغراق ليشمل المتحدث عنهم وغيرهم .
وأسند فعل التزيين إلى المجهول لأن المسلمين يعلمون أن المزين للمسرفين خواطرهم الشيطانية ، فقد أسند فعل التزيين إلى الشيطان غيرَ مرة ، أو لأن معرفة المزين لهم غيرُ مهمة ههنا وإنما المهم الاعتبار والاتعاظ باستحسانهم أعمالهم الذميمة استحساناً شنيطاً .
والمعنى أن شأن الأعمال الذميمة القبيحة إذا تكررت من أصحابها أن تصير لهم دُربة تُحسن عندهم قبائحها فلا يكادون يشعرون بقبحها فكيف يقلعون عنها كما قيل :
يقضى على المرء في أيام محنته *** حتى يَرى حسناً ما ليس بالحسن
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا مس الإنسان الضر} يعني المرض بلاء أو شدة...
{دعانا لجنبه}، يعني لمضجعه في مرضه، {أو} دعانا {قاعدا أو قائما} كل ذلك لما كان،
{فلما كشفنا عنه ضره}، وعوفي من مرضه، {مر} يعني استمر، أي أعرض عن الدعاء، {كأن لم يدعنا إلى ضر مسه}، ولا يزال يدعونا ما احتاج إلى ربه، فإذا أعطي حاجته أمسك عن الدعاء، قال الله تعالى عند ذلك: استغنى عبدي،
{كذلك}، يعني هكذا {زين للمسرفين ما كانوا يعملون} من أعمالهم السيئة، يعني الدعاء في الشدة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا أصاب الإنسان الشدّة والجهد "دَعانا لِجَنْبِهِ "يقول: استغاث بنا في كشف ذلك عنه، "لجنبه": يعني مضطجعا لجنبه، "أوْ قاعِدا أوْ قائما" الحال التي يكون بها عند نزول ذلك الضرّ به. "فَلَمّا كَشَفْنا عَنْه ضُرّهُ" يقول: فلما فرّجنا عنه الجهد الذي أصابه، "مرّ كأنْ لَمْ يَدعُنَا إلى ضُرّ مَسّهُ" يقول: استمرّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضرّ، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء، أو تناساه، وترك الشكر لربه الذي فرّج عنه ما كان قد نزل به من البلاء حين استعاذ به، وعاد للشرك ودعوى الآلهة والأوثان أربابا معه. يقول تعالى ذكره: "كذلكَ زُيّنَ للْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ" يقول: كما زين لهذا الإنسان الذي وصفنا صفته استمراره على كفره بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضرّ، كذلك زين للذين أسرفوا في الكذب على الله وعلى أنبيائه، فتجاوزوا في القول فيهم إلى غير ما أذن الله لهم به، ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... (دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) ليس على إرادة حقيقة الجنب والقعود والقيام، ولكن على الدعاء في كل حال، أي يدعوه الكفرة لما عرفوا أن الذين كانوا يعبدون من دون الله لا يملكون دفع ما حل بهم من الشدائد والمضار أقبلوا على الله بالتضرع والدعاء إليه في كشف ذلك عنهم.
ثم أخبر عن سفههم وشدة تعنتهم وعودهم إلى الخلال التي كانوا عليها من قبل، فقال: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) يقول، والله أعلم: (مر كأن لم يدعنا) قد نسينا في الرخاء كأن لم يعرفنا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا امتُحِنَ العبدُ وأصابه الضُّرُّ أزعجته الحالُ إلى أَنْ يرومَ التخلُّصَ مما ناله، فيعلمَ أنَّ غيْر الله لا يُنْجِيه، فتحمله الضرورةَ على صِدْق الالتجاءِ إلى الله، فإذا كَشَفَ اللَّهُ عنه ما يدعو لأَجْلِهِ شَغَلَتْه راحةُ الخلاصِ عن تلك الحالة، وزَايَلَه ذلك الالتياع، وصار كأنه لم يكن في بلاءِ قط...
ويقال بلاءُ يُلْجِئُك إلى الانتصاب بين يَدَيْ معبودِك أجدى من عطاءٍ ينْسِيك ويكفيك عنه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... فإن قلت: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟ قلت: معناه أنّ المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضرّ، فهو يدعونا في حالاته كلها -إن كان مضطجعاً عاجز النهض متخاذل النوء، أو كان قاعداً لا يقدر على القيام، أو كان قائماً لا يطيق المشي، والمضطرب- إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها والمسحة بتمامها. ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشدّ حالاً وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخفّ وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء لأنّ الإنسان للجنس. {مَرَّ} أي مضى على طريقته الأولى قبل مسّ الضرّ، ونسي حال الجهد. أو مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه، كأنه لا عهد له به، {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا}، كأنه لم يدعنا...
{كذلك} مثل ذلك التزيين {زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} زين الشيطان بوسوسته أو الله بخذلانه وتخليته {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية أيضاً عتاب على سوء الخلق من بعض الناس، ومضمنه النهي عن مثل هذا، والأمر بالتسليم إلى الله تعالى والضراعة إليه في كل حال والعلم بأن الخير والشر منه لا رب غيره..
{الضر} لفظ لجميع الأمراض، والرزايا في النفس والمال والأحبة هذا قول اللغويين، وقيل هو مختص برازيا البدن، الهزال والمرض، وقوله {مر} يقتضي أن نزولها في الكفار ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر أو عاص، فمعنى الآية {مر} في إشراكه بالله وقلة توكله عليه...
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجهان:
الأول: أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك ولقضى عليه، فبين في هذه الآية ما يدل على غاية ضعفه ونهاية عجزه، ليكون ذلك مؤكدا لما ذكره من أنه لو أنزل عليه العذاب لمات.
الثاني: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب، ثم بين في هذه الآية أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال، لأنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه، فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه وفي دفعه عنه وذلك يدل على أنه ليس صادقا في هذا الطلب.
المسألة الثانية: المقصود من هذه الآية، بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء، قليل الشكر عند وجدان النعماء والآلاء، فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء مضطجعا أو قائما أو قاعدا مجتهدا في ذلك الدعاء طالبا من الله تعالى إزالة تلك المحنة، وتبديلها بالنعمة والمنحة، فإذا كشف تعالى عنه ذلك بالعافية أعرض عن الشكر، ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام، وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالى لكشف ضره، وذلك يدل على ضعف طبيعة الإنسان وشدة استيلاء الغفلة والشهوة عليه، وإنما ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على أن هذه الطريقة مذمومة، بل الواجب على الإنسان العاقل أن يكون صابرا عند نزول البلاء شاكرا عند الفوز بالنعماء، ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة... واعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة، وجب عليه رعاية أمور:
فأولها: أن يكون راضيا بقضاء الله تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه. وإنما وجب عليه ذلك لأنه تعالى مالك على الإطلاق وملك بالاستحقاق. فله أن يفعل في ملكه وملكه ما شاء كما يشاء، ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق وهو منزه عن فعل الباطل والعبث، فكل ما فعله فهو حكمة وصواب، وإذا كان كذلك فحينئذ يعلم أنه تعالى إن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل، وإن أزالها عنه فهو فضل، وحينئذ يجب عليه الصبر والسكوت وترك القلق والاضطراب.
وثانيها: أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر الله تعالى والثناء عليه بدلا عن الدعاء كان أفضل، لقوله عليه السلام حكاية عن رب العزة « من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» ولأن الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق، والاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظ النفس، ولا شك أن الأول أفضل، ثم إن اشتغل بالدعاء وجب أن يشترط فيه أن يكون إزالته صلاحا في الدين، وبالجملة فإنه يجب أن يكون الدين راجحا عنده على الدنيا.
وثالثها: أنه سبحانه إذا أزال عنه تلك البلية فإنه يجب عليه أن يبالغ في الشكر وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء، وأحوال الشدة والرخاء، فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء. وههنا مقام آخر أعلى وأفضل مما ذكرناه، وهو أن أهل التحقيق قالوا: إن من كان في وقت وجدان النعمة مشغولا بالنعمة لا بالمنعم كان عند البلية مشغولا بالبلاء لا بالمبلي، ومثل هذا الشخص يكون أبدا في البلاء، أما في وقت البلاء فلا شك أنه يكون في البلاء، وأما في وقت حصول النعماء فإن خوفه من زوالها يكون أشد أنواع البلاء، فإن النعمة كلما كانت أكمل وألذ وأقوى وأفضل، كان خوف زوالها أشد إيذاء وأقوى إيحاشا، فثبت أن من كان مشغولا بالنعمة كان أبدا في لجة البلية. أما من كان في وقت النعمة مشغولا بالمنعم، لزم أن يكون في وقت البلاء مشغولا بالمبلي. وإذا كان المنعم والمبلي واحدا، كان نظره أبدا على مطلوب واحد، وكان مطلوبه منزها عن التغير مقدسا عن التبدل ومن كان كذلك كان في وقت البلاء وفي وقت النعماء، غرقا في بحر السعادات، واصلا إلى أقصى الكمالات، وهذا النوع من البيان بحر لا ساحل له، ومن أراد أن يصل إليه فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر.
المسألة الثالثة: اختلفوا في {الإنسان} في قوله: {وإذا مس الإنسان الضر} فقال بعضهم: إنه الكافر، ومنهم من بالغ وقال: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان، فالمراد هو الكافر، وهذا باطل، لأن قوله: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه فأما من أوتى كتابه بيمينه} لا شبهة في أن المؤمن داخل فيه، وكذلك قوله: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} وقوله: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} وقوله: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} فالذي قالوه بعيد، بل الحق أن نقول: اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام حكمه أنه إذا حصل هناك معهود سابق انصرف إليه، وإن لم يحصل هناك معهود سابق وجب حمله على الاستغراق صونا له عن الإجمال والتعطيل. ولفظ {الإنسان} ههنا لائق بالكافر، لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة...
المسألة الثامنة: في قوله تعالى: {كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} أبحاث:
.. الوجه الثالث: وهو الذي خطر بالبال في هذا الوقت، أن المسرف هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس، ومعلوم أن لذات الدنيا وطيباتها خسيسة جدا في مقابلة سعادات الدار الآخرة. والله تعالى أعطاه الحواس والعقل والفهم والقدرة لاكتساب تلك السعادات العظيمة، فمن بذل هذه الآلات الشريفة لأجل أن يفوز بهذه السعادات الجسمانية الخسيسة، كان قد أنفق أشياء عظيمة كثيرة، لأجل أن يفوز بأشياء حقيرة خسيسة، فوجب أن يكون من المسرفين. البحث الثالث: الكاف في قوله تعالى: {كذلك} للتشبيه. والمعنى: كما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح المنكر زين للمسرفين ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر ومتابعة الشهوات.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} هذا بيان لغريزة الإنسان العامة، وشأنه فيما يمسه من الضر، يعلم منه أن استعجال أولئك الناس بالشر تعجيزا لنبيهم ومبالغة في تكذيبه إنما هو من طغيانهم الذي خرجوا فيه عن مقتضى طبيعتهم، فهو يقول: إن الإنسان إذا أصابه من الضر ما يشعر بشدة ألمه أو خطره- من إشراف على غرق وغيره من أنواع التهلكة، أو شدة مسغبة، أو إعضال داء- دعانا ملحا في كشفه عنه في كل حال يكون عليه: دعانا مضطجعا لجنبه، أو قاعدا في كسر بيته، أو قائما على قدميه حائرا في أمره، فهو لا ينسى حاجته إلى رحمة ربه، ما دام يشعر بمس الضر ولذعه له، ويعلم من نفسه العجز عن النجاة منه، قدّم من هذه الحالات الثلاث ما يكون الإنسان فيها أشد عجزا وأقوى شعورا بالحاجة إلى ربه، فالتي تليها، فالتي تليها، وثم حالة رابعة هي سعيه لدفع الضر من طريق الأسباب فلم تذكر؛ لأن الإنسان غير المؤمن قلما يتذكر ما أودع في فطرته من الإيمان بربه -ذي السلطان الغيبي الذي هو فوق جميع الأسباب- ويشعر بحاجته إلى اللجوء إليه، ودعائه والاستغاثة به إلا عند عجزه عن الأسباب المسخرة له، والمشركون بالله تعالى أقل الناس تذكرا لذلك؛ لأنهم عند عجزهم عن الأسباب العامة المعلومة يلجؤون إلى مظنة الأسباب الموهومة، وهي المخلوقات المعبودة التي يعتقدون أن لها سلطانا غيبيا فوق الأسباب من جنس سلطان الرب الخالق عز وجل، إما لذاتها وإما بما لها من المكانة عند الله، والمثل مضروب هنا لهؤلاء.
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} كان الظاهر أن يقال:"فإذا كشفنا عنه ضره"، إذ هو المناسب للشرط في أول الآية، وهو في جنس الإنسان ومقتضى طبعه لا في فرد من أفراده، ونكتة هذا التعبير أن يتصور القارئ والسامع للآية كشف الضر بعد الدعاء واقعا مشاهدا من شخص معين، ويرى ما يفعل بعده لأنه أبلغ في العبرة، أي فلما كشفنا عند ضره- الذي دعانا له في حال شعوره بعجزه عن كشفه بنفسه وبغيره من الأسباب- مرّ ومضى في شؤونه على ما كان من طريقته في الغفلة عن ربه والكفر به، كأن الحال لم تتغير عليه، فلم يدعنا إلى ضر مسه، ولم نكشف عنه ضره.
{كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} كهذا النحو من معرفة الله والإخلاص في دعائه وحده في الشدة، ونسيانه والكفر به بعد كشفها، زين للمسرفين من طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشرك، حتى بلغ من عنادهم للرسول صلى الله عليه وسلم واستهزائهم بما أنذرهم من عذاب أن استعجلوه بالعذاب، والإسراف رديف الطغيان وأخوه، وسيأتي مثل هذه الآية بعد عشر آيات ببيان أبلغ. وقد أسند التزيين هنا إلى المفعول؛ لأنه المقصود بالعبرة دون فاعله. وسبق مثله في آل عمران والأنعام والتوبة، وقد أسند إلى الشيطان في سورة الأنعام والأنفال، وأسند إلى الله تعالى في الأنعام أيضا بقوله: {زينا لكل أمة عملهم} [الأنعام: 108] وبينا في تفسير هذه نكتة اختلاف الإسناد في كل موضع (راجع ج 8 تفسير الطبعة الثانية).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبمناسبة الحديث عن استعجال الشر يعرض صورة بشرية للإنسان عندما يمسه الضر، تكشف عن التناقض في طبيعة هذا الإنسان الذي يستعجل الشر وهو يشفق من مس الضر، فإذا كشف عنه عاد إلى ما كان فيه: (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما؛ فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه. كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون).. إنها صورة مبدعة لنموذج بشري مكرور.. وإن الإنسان ليظل مدفوعا مع تيار الحياة، يخطئ ويذنب ويطغى ويسرف، والصحة موفورة، والظروف مواتية. وليس -إلا من عصم الله ورحم- من يتذكر في إبان قوته وقدرته أن هناك ضعفا وأن هناك عجزا. وساعات الرخاء تنسي، والإحساس بالغنى يطغي.. ثم يمسه الضر فإذا هو جزوع هلوع، وإذا هو كثير الدعاء، عريض الرجاء، ضيق بالشدة مستعجل للرخاء. فإذا استجيب الدعاء وكشف الضر انطلق لا يعقب ولا يفكر ولا يتدبر. انطلق إلى ما كان فيه من قبل من اندفاع واستهتار. والسياق ينسق خطوات التعبير وإيقاعه مع الحالة النفسية التي يصورها، والنموذج البشري الذي يعرضه. فيصور منظر الضر في بطء وتلبث وتطويل: (دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً).. يعرض كل حالة وكل وضع وكل منظر، ليصور وقفة هذا الإنسان وقد توقف التيار الدافع في جسمه أو في ماله أو في قوته كما يتوقف التيار أمام السد، فيقف أو يرتد. حتى إذا رفع الحاجز (مر) كلمة واحدة تصور الاندفاع والمروق والانطلاق. (مر) لا يتوقف. ليشكر، ولا يلتفت ليتدبر، ولا يتأمل ليعتبر: (مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه).. واندفع مع تيار الحياة دون كابح ولا زاجر ولا مبالاة! وبمثل هذه الطبيعة. طبيعة التذكر فقط عند الضر، حتى إذا ارتفع انطلق ومر. بمثل هذه الطبيعة استمر المسرفون في إسرافهم، لا يحسون ما فيه من تجاوز للحدود: كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {ولو يعجل الله للناس الشر} [يونس: 11] الآية، لأن الغرض الأهم من كلتيهما هو الاعتبار بذميم أحوال المشركين تفظيعاً لحالهم وتحذيراً من الوقوع في أمثالها بقرينة تنهية هذه الآية بجملة {كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون}. فلما بُين في الآية السابقة وجه تأخير عذابِ الاستئصال عنهم وإرجاء جزائهم إلى الآخرة بُين في هذه الآية حالهم عندما يمسهم شيء من الضر وعندما يُكشف الضر عنهم. فالإنسان مراد به الجنس، والتعريف باللام يفيد الاستغراق العرفي، أي الإنسان الكافر، لأن جمهور الناس حينئذٍ كافرون... وبهذا الاعتبار يكون المنظور إليهم في هذا الحكم هم الكافرون، كما في قوله تعالى: {ويقول الإنسان أئذا ما مِت لسَوف أخرج حيا} [مريم: 66] وقوله: {يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسوّاك} [الانفطار: 6، 7]. ويأخذ المسلمون من هذا الحكم ما يناسب مقدار ما في آحادهم من بقايا هذه الحال الجاهلية فيفيق كلٌّ من غفلته. وعدل عن الإتيان بالضمير الراجع إلى (الناس) من قوله: {ولو يعجل الله للناس الشر} [يونس: 11] لأن في ذكر لفظ الإنسان إيماء إلى التذكير بنعمة الله عليهم إذ جعلهم، من أشرف الأنواع الموجودة على الأرض... واللام في قوله: لجنبه} بمعنى (على) كقوله تعالى: {يخرون لِلأذقان} [الإسراء: 109] وقوله: {وتلَّه للجبين} [الصافات: 103]. ألا ترى أنه جاء في موضع اللام حرف (على) في قوله تعالى: {فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جُنوبكم} [النساء: 103] وقوله: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} [آل عمران: 190].وهو متولد من معنى الاختصاص الذي هو أعم معاني اللام، لأن الاختصاص بالشيء يقع بكيفيات كثيرة منها استعلاؤه عليه. وإنما سلك هنا حرف الاختصاص للإشارة إلى أن الجنب مختص بالدعاء عند الضر ومتصل به فبالأولى غيره..وموضع المجرور في موضع الحال، ولذلك عطف {أو قاعداً أو قائماً} بالنصب. وإنما جعل الجنب مجروراً باللام ولم ينصب فيقال مثلاً مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً لتمثيل التمكن من حالة الراحة بذكر شق من جسده لأن ذلك أظهر في تمكنه، كما كان ذكر الإعطاء في الآيتين الأخريين.. بحيث جمع فيها بين ذكر الأعضاء وذكر الأفعال الدالة على أصل المعنى للدلالة على أنه يدعو الله في أندر الأحوال ملابَسَةً للدعاء، وهي حالة تطلب الراحة وملازمة السكون. ولذلك ابتدئ بذكر الجنب، وأما زيادة قوله: {أو قاعداً أو قائماً} فلقصد تعميم الأحوال وتكميلها، لأن المقام مقام الإطناب لزيادة تمثيل الأحوال، أي دعانا في سائر الأحوال لا يلهيه عن دعائنا شيء.
{كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} إذ جعلها حالاً للمسرفين. وإذ عبر عن عملهم بلفظ {كانوا} الدال على أنه عملهم في ماضي أزمانهم، ولذلك جيء في شرطها وجوابها وما عطف عليهما بأفعال الماضي لأن كون ذلك حالهم فيما مضى أدخلُ في تسجيله عليهم مما لو فرض ذلك من حالهم في المستقبل إذ لعل فيهم من يتعظ بهذه الآية فيقطع عن عمله هذا أو يساق إلى النظر في الحقيقة. ولهذا فرع عليه جملة: {فلما كشفنا عنه ضره مرَّ} لأن هذا التفريع هو المقصود من الكلام إذ الحالة الأولى وهي المفرع عليها حالة محمودة لولا ما يعقبها.
وعدي الدعاء بحرف (إلى) في قوله: {إلى ضر} دون اللام كما هو الغالب في نحو قوله: دعوت لما نابني مسورا على طريقة الاستعارة التبعية بتشبيه الضر بالعدو المفاجئ الذي يدعو إلى من فاجأه ناصراً إلى دفعه. وجَعْل (إلى) بمعنى اللام بُعد عن بلاغة هذا النظم وخلط للاعتبارات البلاغية.
واختير لفظ {المسرفين} لدلالته على مبالغتهم في كفرهم، فالتعريف في المسرفين للاستغراق ليشمل المتحدث عنهم وغيرهم. وأسند فعل التزيين إلى المجهول لأن المسلمين يعلمون أن المزين للمسرفين خواطرهم الشيطانية، فقد أسند فعل التزيين إلى الشيطان غيرَ مرة، أو لأن معرفة المزين لهم غيرُ مهمة ههنا وإنما المهم الاعتبار والاتعاظ باستحسانهم أعمالهم الذميمة استحساناً شنيطاً. والمعنى أن شأن الأعمال الذميمة القبيحة إذا تكررت من أصحابها أن تصير لهم دُربة تُحسن عندهم قبائحها فلا يكادون يشعرون بقبحها فكيف يقلعون عنها..