معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (28)

قوله تعالى : { كيف تكفرون بالله } . بعد نصب الدلائل ووضوح البراهين ثم ذكر الدلائل فقال :

قوله تعالى : { وكنتم أمواتاً } . نطفاً في أصلاب آبائكم .

قوله تعالى : { فأحياكم } في الأرحام والدنيا .

قوله تعالى : { ثم يميتكم } . عند انقضاء آجالكم .

قوله تعالى : { ثم يحييكم } . للبعث .

قوله تعالى : { ثم إليه ترجعون } . أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم . قرأ يعقوب ترجعون كل القرآن بفتح الياء والتاء على تسمية الفاعل .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (28)

وبعد أن عدد القرآن مساوئ أولئك الضالين ، وبين سوء مصيرهم ، ومآلهم ، وجه إليهم الإِنكار والتوبيخ فخاطبهم بقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ . . . }

{ كَيْفَ } اسم استفهام للسؤال عن الأحوال ، وليس المراد به هنا استعلام المخاطبين عن حال كفرهم ، وإنما المراد منه معنى تكثر تأديته في صورة الاستفهام وهو الإِنكار والتوبيخ ، كما تقول لشخص : كيف تؤذى أباك وقد رباك ؟ لا تقصد إلا أن تنكر عليه أذيته لأبيه وتوبيخه عليها .

وفي الآية الكريمة التفات من الغيبة إلى الخطاب ؛ لزيادة تقريعهم والتعجب من أحوالهم الغريبة ، لأنهم معهم ما يدعو إلى الإيمان ومع ذلك فهم منصرفون إلى الكفر .

وقوله : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } جار مجرى التنبيه على أن كفرهم ناشئ عن جهل وعدم تأمل في أدلة الإِيمان القائمة أمام أعينهم .

والأموات : جمع ميت بمعنى المعدوم . والإِحياء : بمعنى الخلق .

والمعنى : كيف تكفرون بالله وحالكم أنكم كنتم معدومين فخلقكم ، وأخرجكم إلى الوجود كما قال - تعالى - : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } ويصح أن يفسر الأموات بمعنى فاقدي الحياة . والإِحياء بنفخ الروح فيهم فيكون المعنى : وكنتم أمواتاً يوم استقراركم نطفاً في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها ، فنفخ فيكم الأرواح ؛ وأصبحتم في طور إإحساس وحركة وتفكير وبيان .

وبعد أن وبخهم على كفرهم بمن أخرجهم من الموت إلى الحياة ، أورد جملا لاستيفاء الأطوار التي ينتقل فيها الإِنسان من مبدأ الحياة إلى مقره الخالد في دار نعيم أو عذاب فقال : { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } بقبض أرواحكم عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } يبعثكم بعد الموت { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . أي تصيرون إليه دون سواه ، فيجمعكم في المحشر ؛ ويتولى حسابكم ، والحكم في أمركم بمقتضى عدله { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } أما الإِماتة فهم يشاهدونها بأعينهم بين الحين والحين ، وأما البعث فقد أخبر الله عنه بما يدل على صحته وينفي استبعاد ، بأدلة عقلية ونقلية كثيرة ، أما الأدلة العقلية ، فمنها : أن الذي قدر على إحيائهم من العدم ، قادر على إحيائهم وإعادتهم بعد موتهم فإن الإِعادة أهون من البدء دائما ، وأما الأدلة النقلية ، فمنها قوله - تعالى - : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ . ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } وفي قوله - تعالى - { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ترهيب لمن ينزع إلى الشر ، ويرتكب المعاصي من غير مبالاة ، وترغيب لمن يقبل على فعل الخير ، ويقدم على الطاعات . قال الجمل : " والفاء في قوله { فَأَحْيَاكُمْ } على بابها من التعقيب ، وثم على بابها من التراخي ، لأن المراد بالموت الأول ، العدم السابق ، وبالحياة الأولى الخلق ، وبالموت الثاني الموت المعهود ، وبالحياة الثانية الحياة للبعث فجاءت الفاء وثم على بابيهما من التعيب والتراخي ، على هذا التفسير وهو أحسن الأقوال ، ويعزى لابن عباس وابن مسعود ومجاهد ، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن البعث "

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (28)

القول في تأويل قوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :

فقال بعضهم بما حدثني به موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن بن عباس وعن مرة عن بن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم يقول لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة .

وحدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال هي كالتي في البقرة كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم .

وحدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس قال حدثنا عبثر قال حدثنا حصين عن أبي مالك في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال خلقتنا ولم نكن شيئا ثم أمتنا ثم أحييتنا .

وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا هشيم عن حصين عن أبي مالك في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال كانوا أمواتا فأحياهم الله ثم أماتهم ثم أحياهم .

وحدثنا القاسم قال حدثنا الحسين بن داود قال حدثني حجاج عن بن جريج عن مجاهد في قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم قال لم تكونوا شيئا حين خلقكم ثم يميتكم الموتة الحق ثم يحييكم ، وقوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين مثلها .

وحدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن بن جريج قال حدثني عطاء الخرساني عن بن عباس قال هو قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين .

وحدثت عن عمار بن الحسن قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قال حدثني أبو العالية في قول الله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا يقول حين لم يكونوا شيئا ثم أحياهم حين خلقهم ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة ثم رجعوا إليه بعد الحياة .

وحدثت عن المنجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن بن عباس في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فخلقكم فهذه إحياءة ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه إحياءة فهما ميتتان وحياتان فهو قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون .

وقال آخرون بما حدثنا به أبو كريب قال حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي عن أبي صالح كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون قال يحييكم في القبر ثم يميتكم .

وقال آخرون بما حدثنا به بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية .

قال كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله وخلقهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما حياتان وموتتان .

وقال بعضهم بما حدثني به يونس قال أنبأنا بن وهب قال قال ابن زيد في قول الله تعالى ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق وقرأ : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حتى بلغ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون قال فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق . قال وانتزع ضلعا من أضلاع آدم القصيري فخلق منه حواء ذكره عن النبي ، قال وذلك قول الله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، قال وبث منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا ، وقرأ : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ، قال خلقا بعد ذلك ، قال : فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة فذلك قول الله ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا ، وقرأ قول الله : وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ؛ قال يومئذ ، قال : وقرأ قول الله : واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا .

قال أبو جعفر ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن رويناها عنه وجه ومذهب من التأويل :

فأما وجه تأويل من تأول قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم أي لم تكونوا شيئا فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر هذا شيء ميت وهذا أمر ميت يراد بوصفه بالموت خمول ذكره ودروس أثره من الناس ، وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه هذا أمر حي وذكر حي يراد بوصفه بذلك أنه نابه متعالم في الناس كما قال أبو نخيلة السعدي :

فأحييت لي ذكري وما كنت خاملا *** ولكن بعض الذكر أنبه من بعض

يريد بقوله فأحييت لي ذكري أي رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورا حيا بعد أن كان خاملا ميتا ، فكذلك تأويل قول من قال في قوله : ( وكنتم أمواتا ) لم تكونوا شيئا أي كنتم خمولا لا ذكر لكم وذلك كان موتكم ، فأحياكم فجعلكم بشرا أحياء تذكرون وتعرفون ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم كالذي كنتم قبل أن يحييكم من دروس ذكركم وتعفي آثاركم وخمول أموركم ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها ونفخ الروح فيها وتصييركم بشرا كالذي كنتم قبل الإماتة لتعارفوا في بعثكم وعند حشركم .

وأما وجه تأويل من تأول ذلك أنه الإماتة التي هي خروج الروح من الجسد فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله وكنتم أمواتا إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم ، وذلك معنى بعيد لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم لا استعتاب واسترجاع ، وقوله جل ذكره كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا توبيخ مستعتب عباده وتأنيب مسترجع خلقه من المعاصي إلى الطاعة ومن الضلالة إلى الإنابة ولا إنابة في القبور بعد الممات ولا توبة فيها بعد الوفاة .

وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ؛ فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفا لا أرواح فيها فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها ، وإحياؤه إياها تعالى ذكره نفخه الأرواح فيها وإماتته إياهم بعد ذلك قبضه أرواحهم وإحياؤه إياهم بعد ذلك نفخ الأرواح في أجسامهم يوم ينفخ في الصور ويبعث الخلق للموعود .

وأما ابن زيد فقد أبان عن نفسه ما قصد بتأويله ذلك وأن الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عباده في أصلاب آبائهم بعد ما أخذهم من صلب آدم وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم وأن الإماتة الثانية هي قبض أرواحهم للعود إلى التراب والمصير في البرزخ إلى اليوم البعث وأن الإحياء الثالث هو نفخ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة .

وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافا لظاهر قول الله الذي زعم مفسره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره ، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه عن الذين أخبر عنهم من خلقه أنهم قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين وزعم ابن زيد في تفسيره أن الله أحياهم ثلاث إحياءات وأماتهم ثلاث إماتات ، والأمر عندنا وإن كان فيما وصف من استخراج الله جل ذكره من صلب آدم ذريته وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف ، فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين ، أعني قوله : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية ، وقوله : ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ، في شيء ، لأن أحدا لم يدع أن الله أمات من ذرأ يومئذ غير الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث فيكون جائزا أن يوجه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد .

وقال بعضهم : الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة فهي ميتة من لدن فراقها جسده إلى نفخ الروح فيها ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرا سويا بعد تارات تأتي عليها ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصور فيرد في جسده روحه فيعود حيا سويا لبعث القيامة فذلك موتتان وحياتان .

وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول لأنهم قالوا موت ذي الروح مفارقة الروح إياه فزعموا أن كل شيء من بن آدم حي ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح ، فكل ما فارق جسده الحي ذا الروح فارقته الحياة فصار ميتا ، كالعضو من أعضائه مثل اليد من يديه والرجل من رجليه لو قطعت وأبينت والمقطوع ذلك منه حي كان الذي بان من جسده ميتا لا روح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح ، قالوا فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح فإذا فارقته مباينة له صارت ميتة نظير ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه وهذا قول ووجه من التأويل لو كان به قائل من أهل القدوة الذين يرتضي للقرآن تأويلهم .

وأولى ما ذكرنا من الأقوال التي بينا بتأويل قول الله جل ذكره : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم الآية ، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس من أن معنى قوله وكنتم أمواتا أموات الذكر خمولا في أصلاب آبائكم نطفا لا تعرفون ولا تذكرون فأحياكم بانشائكم بشرا سويا حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتا لا تعرفون ولا تذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصيحة القيامة ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك كما قال : ثم إليه ترجعون لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبل حشرهم ثم يحشرهم لموقف الحساب كما قال جل ذكره : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ، وقال : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون .

والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل ما قد قدمنا ذكره للقائلين به وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل .

وهذه الآية توبيخ من الله جل ثناؤه للقائلين آمنا بالله وباليوم الآخر الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم غير مؤمنين به وأنهم إنما يقولون ذلك خداعا لله وللمؤمنين ، فعذلهم الله بقوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ، ووبخهم واحتج عليهم في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة ، فقال : كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم وإعادتكم بعد إفنائكم وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم .

ثم عدد ربنا عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود الذين جمع بين قصصهم وقصص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبر عنهم فيها بقوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) نعمه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم التي عظمت منهم مواقعها ثم سلب كثيرا منهم كثيرا منها بما ركبوا من الآثام واجترموا من الإجرام وخالفوا من الطاعة إلى المعصية ، يحذرهم بذلك تعجيل العقوبة لهم كالتي عجلها للأسلاف والأفراط قبلهم ، ويخوفهم حلول مثلاته بساحتهم كالذي أحل بأوليهم ، ويعرفهم مالهم من النجاة في سرعة الأوبة إليه وتعجيل التوبة من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب ؛ فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدد من نعمه التي هم فيها مقيمون ، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه وما سلف منه من كرامته إليه وآلائه لديه وما أحل به وبعدوه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به ، وما كان من تغمده آدم برحمته إذ تاب وأناب إليه ، وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل وإعداده له ما أعد له من العذاب المقيم في الآجل إذا استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة .

منبها لهم على حكمه في المنيبين إليه بالتوبة وقضائه في المستكبرين عن الإنابة إعذارا من الله بذلك إليهم وإنذارا لهم ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب ، وخاصا أهل الكتاب بما ذكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأمية من مشركي عبدة الأوثان ، بالاحتجاج عليهم دون غيرهم من سائر أصناف الأمم الذين لا علم عندهم بذلك لنبيه محمد ليعلموا بإخباره إياهم بذلك أنه لله رسول مبعوث ، وأن ما جاءهم به فمن عنده .

إذ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص من مكنون علومهم ومصون ما في كتبهم وخفي أمورهم التي لم يكن يدعي معرفة علمها غيرهم وغير من أخذ عنهم وقرأ كتبهم ، وكان معلوما من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبا ولا لأسفارهم تاليا ولا لأحد منهم مصاحبا ولا مجالسا ، فيمكنهم أن يدعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم فقال جل ذكره في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه مع كفرهم به وتركهم شكره عليها مما يجب له عليهم من طاعته .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (28)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضهم: عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم": يقول لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة...

وقال بعضهم: عن عبد الله في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال هي كالتي في البقرة كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم...

وقال بعضهم: عن أبي مالك في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال خلقتنا ولم نكن شيئا ثم أمتنا ثم أحييتنا.

وقال بعضهم: عن قتادة قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية. قال كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله وخلقهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما حياتان وموتتان...

وقال بعضهم: عن ابن زيد في قول الله تعالى "ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين "قال خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق وقرأ: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم" حتى بلغ "أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون" قال فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق.، قال وذلك قول الله تعالى "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء"، قال وبث منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا، وقرأ: "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق"، قال خلقا بعد ذلك، قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله "ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا"، وقرأ قول الله: "وأخذنا منهم ميثاقا غليظا"؛ قال يومئذ، قال: وقرأ قول الله: "واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا"...

ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن رويناها عنه وجه ومذهب من التأويل:

... فأما وجه تأويل من تأول قوله "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم" أي لم تكونوا شيئا، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر؛ هذا شيء ميت وهذا أمر ميت، يراد بوصفه بالموت، خمول ذكره ودروس أثره من الناس، وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمر حي وذكر حي، يراد بوصفه بذلك أنه نابه متعالم في الناس... فكذلك تأويل قول من قال في قوله: "وكنتم أمواتا ": لم تكونوا شيئا، أي كنتم خمولا لا ذكر لكم وذلك كان موتكم، فأحياكم فجعلكم بشرا أحياء تذكرون وتعرفون، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم كالذي كنتم قبل أن يحييكم من دروس ذكركم وتعفي آثاركم وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها ونفخ الروح فيها وتصييركم بشرا كالذي كنتم قبل الإماتة لتعارفوا في بعثكم وعند حشركم.

وأولى ما ذكرنا من الأقوال التي بينا بتأويل قول الله جل ذكره: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم" الآية: القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس من أن معنى قوله:"وكنتم أمواتا": أموات الذكر خمولا في أصلاب آبائكم نطفا لا تعرفون ولا تذكرون فأحياكم بإنشائكم بشرا سويا حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتا لا تعرفون ولا تذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصيحة القيامة، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك كما قال: "ثم إليه ترجعون" لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبل حشرهم، ثم يحشرهم لموقف الحساب كما قال جل ذكره: "يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون"، وقال: "ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون". والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل ما قد قدمنا ذكره للقائلين به وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل.

وهذه الآية توبيخ من الله جل ثناؤه للقائلين: آمنا بالله وباليوم الآخر، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم غير مؤمنين به، وأنهم إنما يقولون ذلك خداعا لله وللمؤمنين، فعذلهم الله بقوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم، ووبخهم واحتج عليهم في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة، فقال: "كيف تكفرون بالله" فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم وإعادتكم بعد إفنائكم وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم. ثم عدد ربنا عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود الذين جمع بين قصصهم وقصص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبر عنهم فيها بقوله: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" نعمه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم التي عظمت منهم مواقعها، ثم سلب كثيرا منهم كثيرا منها بما ركبوا من الآثام واجترموا من الإجرام وخالفوا من الطاعة إلى المعصية، يحذرهم بذلك تعجيل العقوبة لهم كالتي عجلها للأسلاف والأفراط قبلهم، ويخوفهم حلول مثلاته بساحتهم كالذي أحل بأوليهم، ويعرفهم مالهم من النجاة في سرعة الأوبة إليه وتعجيل التوبة من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب؛ فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدد من نعمه التي هم فيها مقيمون، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه وما سلف منه من كرامته إليه وآلائه لديه، وما أحل به وبعدوه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به، وما كان من تغمده آدم برحمته إذ تاب وأناب إليه، وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل وإعداده له ما أعد له من العذاب المقيم في الآجل، إذا استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة. منبها لهم على حكمه في المنيبين إليه بالتوبة وقضائه في المستكبرين عن الإنابة، إعذارا من الله بذلك إليهم وإنذارا لهم، ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب، وخاصا أهل الكتاب بما ذكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأمية من مشركي عبدة الأوثان، بالاحتجاج عليهم دون غيرهم من سائر أصناف الأمم الذين لا علم عندهم بذلك لنبيه محمد ليعلموا بإخباره إياهم بذلك أنه لله رسول مبعوث، وأن ما جاءهم به فمن عنده. إذ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص من مكنون علومهم ومصون ما في كتبهم وخفي أمورهم التي لم يكن يدعي معرفة علمها غيرهم وغير من أخذ عنهم وقرأ كتبهم، وكان معلوما من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبا ولا لأسفارهم تاليا ولا لأحد منهم مصاحبا ولا مجالسا، فيمكنهم أن يدعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم فقال جل ذكره في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه مع كفرهم به وتركهم شكره عليها مما يجب له عليهم من طاعته

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

معنى الهمزة التي في {كَيْفَ} مثله في قولك: أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان، وهو الإنكار والتعجب. ونظيره قولك: أتطير بغير جناج، وكيف تطير بغير جناح؟

فإن قلت: قولك: أتطير بغير جناح إنكار للطيران، لأنه مستحيل بغير جناح، وأما الكفر فغير مستحيل مع ما ذكر من الإماتة والإحياء. قلت: قد أخرج في صورة المستحيل لما قوى من الصارف عن الكفر والداعي إلى الإيمان.

فإن قلت: فقد تبين أمر الهمزة وأنها لإنكار الفعل والإيذان باستحالته في نفسه، أو لقوة الصارف عنه، فما تقول في {كَيْفَ} حيث كان إنكاراً للحال التي يقع عليها كفرهم؟ قلت: حال الشيء تابعة لذاته، فإذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال؛ فكان إنكار حال الكفار لأنها تبيع ذات الكفر ورديفها إنكاراً لذات الكفر، وثباتها على طريق الكناية، وذلك أقوى لإنكار الكفر وأبلغ.

فإن قلت: كيف قيل لهم أموات في حال كونهم جماداً، وإنما يقال ميت فيما يصح فيه الحياة من البتى؟ قلت: بل يقال ذلك لعادم الحياة، كقوله {بَلْدَةً مَّيْتاً} [الفرقان: 49]، {وَءايَةٌ لَّهُمُ الارض الميتة} [يس: 33]، {أموات غَيْرُ أَحْيَاء} [النحل: 21]. ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس،

فإن قلت: ما المراد بالإحياء الثاني؟ قلت: يجوز أن يراد به الإحياء في القبر: وبالرجوع: النشور. وأن يراد به النشور، وبالرجوع: المصير إلى الجزاء.

فإن قلت: لم كان العطف الأوّل بالفاء والإعقاب بثم؟ قلت: لأنّ الإحياء الأوّل قد تعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء. والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخيا ظاهراً. وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن النشور.

فإن قلت: من أين أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله، ألأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر، أم على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعاً، لأنّ ما عدّده آيات وهي مع كونها آيات من أعظم النعم. {قبلكمْ} لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم.

أما الانتفاع الدنيوي فظاهر.

وأمّا الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم، وما فيه من التذكير بالآخرة وبثوابها وعقابها، لاشتماله على أسباب الأنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية، وعلى أسباب الوحشة والمشقة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قوله تعالى: {كيف تكفرون} لفظه الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون بالله ونعمه عليكم وقدرته هذه؟...

السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :

فإن قيل: كيف تعدّ الإماتة من النعم المقتضية للشكر؟ أجيب: بأنها لما كانت وصلة للحياة الدائمة التي هي الحقيقية كما قال تعالى: {وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان} (العنكبوت، 64) يعني: الحياة، كانت من النعم العظيمة، مع أنّ المعدود عليهم نعمة هو المعنى المتنزع من القصة بأسرها، كما أن الواقع حالاً هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل، فإنّ بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح حالاً. ويصح أن يكون الخطاب مع الكفار والمؤمنين، فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوّة، ووعدهم على الإيمان، وأوعدهم على الكفر، أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامّة والخاصة، واستبعد صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة، فإنّ عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم وأن يكون مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم وتبعيد الكفر عنهم على معنى كيف يتصوّر الكفر منكم وكنتم أمواتاً أي: جهالاً، فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ثم يميتكم الموت المعروف، ثم يحييكم الحياة الحقيقية، ثم إليه ترجعون، فينبئكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. والحياة حقيقة في القوّة الحاسة أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيواناً مجاز في القوّة النامية لأنها من طلائعها ومقدّماتها، وفيما يخص الإنسان من الفضائل كالعلم والعقل والإيمان من حيث إنه كمالها وغايتها والموت بإزائها، يقال على ما يقابلها في كل مرتبة مثال ما يقابل الحقيقة قوله تعالى: {قل الله يحييكم ثم يميتكم} (الجاثية، 26) ومثال ما يقابل المجاز الأوّل قوله تعالى: {اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها} (الحديد، 17) ومثال ما يقابل المجاز الثاني قوله تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} (الأنعام، 122) وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوّة فينا أو معنى قائم بذاته تعالى...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وعند هذا البيان الكاشف لآثار الكفر والفسوق في الأرض كلها يتوجه إلى الناس باستنكار كفرهم بالله المحيي المميت الخالق الرازق المدبر العليم:

(كيف تكفرون بالله، وكنتم أمواتا فأحياكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون؟ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا؛ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم)..

والكفر بالله في مواجهة هذه الدلائل والآلاء كفر قبيح بشع، مجرد من كل حجة أو سند.. والقرآن يواجه البشر بما لا بد لهم من مواجهته، والاعتراف به، والتسليم بمقتضياته. يواجههم بموكب حياتهم وأطوار وجودهم. لقد كانوا أمواتا فأحياهم. كانوا في حالة موت فنقلهم منها إلى حالة حياة ولا مفر من مواجهة هذه الحقيقة التي لا تفسير لها إلا بالقدرة الخالقة. إنهم أحياء، فيهم حياة. فمن الذي أنشأ لهم هذه الحياة؟ من الذي أوجد هذه الظاهرة الجديدة الزائدة على ما في الأرض من جماد ميت؟ إن طبيعة الحياة شيء آخر غير طبيعة الموت المحيط بها في الجمادات. فمن أين جاءت؟ إنه لا جدوى من الهروب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على العقل والنفس؛ ولا سبيل كذلك لتعليل مجيئها بغير قدرة خالقة ذات طبيعة أخرى غير طبيعة المخلوقات. من أين جاءت هذه الحياة التي تسلك في الأرض سلوكا آخر متميزا عن كل ما عداها من الموات؟.. لقد جاءت من عند الله.. هذا هو أقرب جواب.. وإلا فليقل من لا يريد التسليم: أين هو الجواب!

وهذه الحقيقة هي التي يواجه بها السياق الناس في هذا المقام:

(كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم؟)..

كنتم أمواتا من هذا الموات الشائع من حولكم في الأرض فأنشأ فيكم الحياة (فأحياكم).. فكيف يكفر بالله من تلقى منه الحياة؟

(ثم يميتكم)..

ولعل هذه لا تلقى مراء ولا جدلا، فهي الحقيقة التي تواجه الأحياء في كل لحظة، وتفرض نفسها عليهم فرضا، ولا تقبل المراء فيها ولا الجدال.

(ثم يحييكم)..

وهذه كانوا يمارون فيها ويجادلون؛ كما يماري فيها اليوم ويجادل بعض المطموسين، المنتكسين إلى تلك الجاهلية الأولى قبل قرون كثيرة. وهي حين يتدبرون النشأة الأولى، لا تدعو إلى العجب، ولا تدعو إلى التكذيب.

(ثم إليه ترجعون)..

كما بدأكم تعودون، وكما ذرأكم في الأرض تحشرون، وكما انطلقتم بإرادته من عالم الموت إلى عالم الحياة، ترجعون إليه ليمضي فيكم حكمه ويقضي فيكم قضاءه..

وهكذا في آية واحدة قصيرة يفتح سجل الحياة كلها ويطوى، وتعرض في ومضة صورة البشرية في قبضة الباريء: ينشرها من همود الموت أول مرة، ثم يقبضها بيد الموت في الأولى، ثم يحييها كرة أخرى، وإليه مرجعها في الآخرة، كما كانت منه نشأتها في الأولى.. وفي هذا الاستعراض السريع يرتسم ظل القدرة القادرة، ويلقي في الحس إيحاءاته المؤثرة العميقة.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

إن الكافرين يتعجبون من ضرب الأمثال، ويقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ وحالهم عجب لأنهم يرون المحسوس الذي يدفعهم إلى الإيمان بالله الذي خلق السموات والأرض ومن فيهن، ومع ذلك يكفرون ولا يؤمنون، ولقد وبخهم الله سبحانه وتعالى أبلغ توبيخ فقال تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم}.

{كيف} يستفهم بها للحال، والمعنى كيف حالكم وبعدكم عن الإدراك والحق وأنتم تكفرون بالله الذي أنشأكم وأخرجكم من الموت إلى الحياة؟! إنكم ترون أن الطفل يولد، ويجيء من غيب الله تعالى، وترونه يشب غلاما فصبيا فشابا فكهلا فشيخا فيموت ثم يقبر ثم تكون الحياة بعد ذلك، ترون الأمور الثلاثة؛ الأولى موت، ثم حياة، ثم موت، أفلا يكون بالقياس على البدء بالموت ثم الحياة ثم الموت أن نحييكم تارة أخرى؟ وقد قدر سبحانه على الأمور الأولى، أفلا يقدر على الأخيرة؟ {... كما بدأكم تعودون (29)} [الأعراف].

والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع لا لإنكار الوقوع، والفرق بينهما أن إنكار الوقوع معناه النفي، وهو لا يصلح هنا، وأما إنكار الواقع فمعناه التوبيخ أبلغ التوبيخ على ما وقع، فقد وقع ذلك الأمر الغريب، وهو أنهم يكفرون أو يجحدون بالله بألا يعبدوه وحده، وهو الذي خلقهم، فأحياهم، وقد كانوا أمواتا، وذلك محسوس مرئي، وأوثانهم لم تصنع شيئا من هذا ولا يمكن أن تفعل.

ومعنى الموت الأول الذي يدل عليه قوله تعالى: {وكنتم أمواتا} هو أنهم كانوا عدما ليست فيهم حياة، أو كانوا أجساما جامدة هي الطين، أو نطفا في بطون الأمهات ثم مضغا مخلقة وغير مخلقة، فجعلكم أحياء.

وكيف يطلق على الجماد أنه ميت، مع أن الموت أمر نسبي تكون قبله حياة، ثم تسلب هذه الحياة فيكون الموت، والجماد لم تسبقه حياة، حتى يكون من بعدها موت؟.

ونقول في الجواب عن ذلك: إن الموت لا يقتضي وجود حياة سابقة، بل يطلق على الجماد ذاته، فيقال: أرض موات، وأرض ميتة، وإحياؤها يكون بوجود الغيث وإنباتها النبات بإذن الله تعالى، كما قال تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33)} [يس]، وقال تعالى: {رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج (11)} [ق].

فقوله تعالى: {كنتم أمواتا}، أي كنتم لا حياة فيكم فأحياكم فخلق التراب ثم أنشأكم منه، فأحياكم فأفاض عليكم بالحياة، وهم قبل هذا الإحياء لم يكونوا شيئا مذكورا كما قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا (1)} [الإنسان] وقوله تعالى: {وكنتم أمواتا فأحياكم} خطاب لهم بالانتقال من الغيبة إلى الخطاب، وهو دال على أن ذلك يعلمونه بالعيان والحس، لا بمجرد التصور والتفكر، {ثم يميتكم} و {ثم} هنا للتراخي؛ لأنه بعد الإحياء يعيش أجلا محدودا، ثم يموت، و {لكل أجل كتاب (38)} [الرعد]، {ثم يحييكم} بالبعث والنشور، ثم تكون القيامة، ثم إليه سبحانه ترجعون، وذلك هو مدلول قوله تعالى في آية أخرى: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا... (11)} [غافر]، وإنه كما ذكرنا أخذ من الواقع الذي يحسونه، دليلا على وقوع ما ينتظرهم، وينتظرونه، وهو البعث، فإذا كان سبحانه وتعالى أنشأ من العدم حياة ثم سلبها، فإنه قادر على إعادتها، ولكنهم يؤمنون بالحس وحده، ولا يؤمنون بالغيب الذي لا يحسون.

قوله تعالى: {ثم إليه ترجعون} وثم هنا للتراخي؛ أي بعد أن يقضوا حياتهم، ويموتوا ويدفنوا في قبورهم يرجعون ليحاسبهم على ما قدموا من عمل، فإن خيرا فخير، وإن شرا فالعذاب.

وتقديم {إليه} على {ترجعون} للإشارة إلى أنه وحده هو الذي إليه يرجعون، لا إلى آلهتهم التي يتوهمون بأوهامهم فيها قدرة، ولا قدرة، فالرجوع إليه سبحانه وتعالى.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

أجمعت العلماء اليوم أن مسألة الحياة أعقد مسألة في عالمنا هذا، لأن لغز الحياة لم ينحل حتى اليوم على الرغم من كل ما حققه البشر من تقدّم هائل في حقل العلم والمعرقة. قد يستطيع العلم في المستقبل أن يكتشف بعض أسرار الحياة... لكن السؤال يبقى قائماً بحاله: كيف يكفر الإِنسان بالله وينسب هذه الحياة بتعقيداتها وغموضها وأسرارها إلى صنع الطبيعة العمياء الصّماء الفاقدة لكل شعور وإدراك؟...

إن ظاهرة الحياة في عالم الطبيعة أعظم سند لإثبات وجود الله تعالى. والقرآن يركز في الآية المذكورة على هذه المسألة بالذات، وهي مسألة تحتاج إلى مزيد من الدراسة و التعمق، لكننا نكتفي هنا بهذه الإشارة. بعد التذكير بهذه النعمة، تؤكد الآية على دليل واضح آخر وهو «الموت» (ثم يميتكم).

ويأتي ذكر المعاد في سياق هذه الآية ليبين أن مسألة الحياة بعد الموت (المعاد) مسألة طبيعية جداً لا تختلف عن مسألة إحياء الإِنسان في هذه الدنيا بل إنها أيسر من الخلق الأول (مع أن السهل والصعب ليس لها مفهوم بالنسبة للقادر المطلق).

وهل بمقدور إنسان أن ينكر إمكان المعاد وهو يرى أنه خلق من عناصر ميتة؟! وهكذا، وبعبارة موجزة رائعة يفتح القرآن أمام الإنسان سجل حياته منذ ولادته وحتى بعثه. وفي نهاية الآية يقول تعالى: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرجَعُونَ). والمقصود بالرجوع هو الرجوع إلى نعم الله تعالى يوم القيامة. والرجوع غير البعث. والقرآن يفصل بين الاثنين كما في قوله تعالى: (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمْ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُون) الأنعام، 36. قد يكون الرجوع في الآية الكريمة إشارة إلى معنى أدقّ.