التفسير : هذه الآية مسوقة لبيان التعجب من حال الكفرة ، وذلك أن الاستفهام من علام الغيوب يمتنع إجراؤه على أصله ، فيتولد بمعونة قرائن الأحوال ما ذكرنا . ووجهه هو أن الكفار حين صدور الكفر منهم لابد من أن يكونوا على أحد الحالين : إما عالمين بالله وإما جاهلين به فلا ثالثة . فإذا قيل لهم : كيف تكفرون بالله ؟ ومن المعلوم أن " كيف " للسؤال عن الحال وللكفر مزيد اختصاص من بين سائر أحوال الكافر بالعلم بالصانع أو الجهل به ، لأنه لا يمكن تصور كفر الكافر بالصانع مع الذهول عن كونه عالماً بالله أو جاهلاً به ، بخلاف سائر أحواله المتقابلة كالقعود والقيام والسكون والحركة ، فإنه يمكن تصور كفره مع الذهول عنها وإن كان لا ينفك الكافر في الوجود عنها كما لا ينفك من العلم بالصانع أو الجهل به في الوجود . وتوجه الاستفهام إلى ذلك الذي له مزيد اختصاص فأفاد الاستفهام ، أفي حال العلم بالله تكفرون أم في حال الجهل به ؟ لكن الجهل بعيد عن العاقل ، لأن الحال حال علم بهذه القصة وهي أن كانوا أمواتاً فصاروا أحياء ، وسيكون كذا والحال كذا من الإماتة ، ثم الإحياء ثم الرجع إليه ، فبقي أن يكون الحال حال العلم بالصانع الموجبة للصرف عن الكفر . فصدور الفعل عمن له صورة اختيار في الترك مع الصارف القوي مظنة تعجب وتعجيب وإنكار وتوبيخ فكأنه قيل : ما أعجب كفركم والحال أنكم عالمون بهذه القصة وهي أن كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة ! وهذه مما لا يشك فيها لأنها من المشاهدات ، ثم يحييكم حين ينفخ في الصور أو حين تسألون في القبور ، ثم إليه أي إلى حكمه ترجعون أي بعد الحشر للثواب والعقاب أو من قبوركم . وهذه القضايا أيضاً مما لا يشك فيها لنصب الأدلة وإزاحة العلة . والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل ، وقد يطلق الميت على الجماد كقوله
{ بلدة ميتاً } [ ق : 11 ] ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس . ويحتمل أن يقال : المراد به خمول الذكر كقوله { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } [ الدهر : 1 ] قال أبو نخيلة السعدي :
وأحييت لي ذكري وما كنت خاملاً *** ولكنّ بعض الذكر أنبه من بعض
ولا يخفى أن الآية بالنسبة إلى العامة ، فأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات
فأماته الله مائة عام ثم بعثه } [ البقرة : 259 ] { فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } [ البقرة : 242 ] { ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } [ البقرة : 56 ] { وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم } [ الكهف : 19 ] { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } [ الأنبياء : 84 ] واعلم أن هذه الآية دالة على أمور منها : اشتمالها على وجود ما يدل على الصانع القادر العلم الحي السميع البصير الغني عما سواه . ومنها الدلالة على أنه لا قدرة على الإحياء والإماتة إلا الله ، فيبطل قول الدهري { وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] ومنها الدلالة على صحة الحشر والنشر مع التنبيه على الدليل القطعي الدال عليه ، لأن الإعادة أهون من الإبداء . ومنها الدلالة على التكليف والترغيب والترهيب ، ومنها الدلالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال : { فأحياكم } أي بعقب كونكم نطفاً من غير تخلل حالة أخرى بينهما ، ثم يميتكم بعد انقضاء مهلة الحياة ، ثم بيّن أنه لا يترك على هذا الموت بل لابد من حياة ثانية للسؤال أو للحشر ، ثم من الرجوع إليه للثواب أو العقاب . فبين سبحانه أنه بعد ما كان نطفة فإنه أحياه وصوّره أحسن صورة وجعله بشراً سوياً وأكمل عقله وبصره بأنواع المضار والمنافع ، وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور . ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئاً ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ، ويبقى مدة مديدة في اللحد { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } [ المؤمنون : 100 ] ينادي فلا يجيب ، ويستنطق فلا يتكلم ، ثم لا يزوره الأقربون بل ينساه الأهل والبنون .
يمرّ أقاربي بحذاء قبري *** كأن أقاربي لم يعرفوني
الهي إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا شاحبة وجوهنا جائعة بطوننا مثقلة من حمل الأوزار ظهورنا بادية لأهل القيامة سوآتنا ، فلا تضغف مصائبنا بإعراضك عنا ، يا واسع المغفرة ، ويا باسط اليدين بالرحمة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.