غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (28)

28

التفسير : هذه الآية مسوقة لبيان التعجب من حال الكفرة ، وذلك أن الاستفهام من علام الغيوب يمتنع إجراؤه على أصله ، فيتولد بمعونة قرائن الأحوال ما ذكرنا . ووجهه هو أن الكفار حين صدور الكفر منهم لابد من أن يكونوا على أحد الحالين : إما عالمين بالله وإما جاهلين به فلا ثالثة . فإذا قيل لهم : كيف تكفرون بالله ؟ ومن المعلوم أن " كيف " للسؤال عن الحال وللكفر مزيد اختصاص من بين سائر أحوال الكافر بالعلم بالصانع أو الجهل به ، لأنه لا يمكن تصور كفر الكافر بالصانع مع الذهول عن كونه عالماً بالله أو جاهلاً به ، بخلاف سائر أحواله المتقابلة كالقعود والقيام والسكون والحركة ، فإنه يمكن تصور كفره مع الذهول عنها وإن كان لا ينفك الكافر في الوجود عنها كما لا ينفك من العلم بالصانع أو الجهل به في الوجود . وتوجه الاستفهام إلى ذلك الذي له مزيد اختصاص فأفاد الاستفهام ، أفي حال العلم بالله تكفرون أم في حال الجهل به ؟ لكن الجهل بعيد عن العاقل ، لأن الحال حال علم بهذه القصة وهي أن كانوا أمواتاً فصاروا أحياء ، وسيكون كذا والحال كذا من الإماتة ، ثم الإحياء ثم الرجع إليه ، فبقي أن يكون الحال حال العلم بالصانع الموجبة للصرف عن الكفر . فصدور الفعل عمن له صورة اختيار في الترك مع الصارف القوي مظنة تعجب وتعجيب وإنكار وتوبيخ فكأنه قيل : ما أعجب كفركم والحال أنكم عالمون بهذه القصة وهي أن كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة ! وهذه مما لا يشك فيها لأنها من المشاهدات ، ثم يحييكم حين ينفخ في الصور أو حين تسألون في القبور ، ثم إليه أي إلى حكمه ترجعون أي بعد الحشر للثواب والعقاب أو من قبوركم . وهذه القضايا أيضاً مما لا يشك فيها لنصب الأدلة وإزاحة العلة . والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل ، وقد يطلق الميت على الجماد كقوله

{ بلدة ميتاً } [ ق : 11 ] ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس . ويحتمل أن يقال : المراد به خمول الذكر كقوله { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } [ الدهر : 1 ] قال أبو نخيلة السعدي :

وأحييت لي ذكري وما كنت خاملاً *** ولكنّ بعض الذكر أنبه من بعض

ولا يخفى أن الآية بالنسبة إلى العامة ، فأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات

فأماته الله مائة عام ثم بعثه } [ البقرة : 259 ] { فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } [ البقرة : 242 ] { ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } [ البقرة : 56 ] { وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم } [ الكهف : 19 ] { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } [ الأنبياء : 84 ] واعلم أن هذه الآية دالة على أمور منها : اشتمالها على وجود ما يدل على الصانع القادر العلم الحي السميع البصير الغني عما سواه . ومنها الدلالة على أنه لا قدرة على الإحياء والإماتة إلا الله ، فيبطل قول الدهري { وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] ومنها الدلالة على صحة الحشر والنشر مع التنبيه على الدليل القطعي الدال عليه ، لأن الإعادة أهون من الإبداء . ومنها الدلالة على التكليف والترغيب والترهيب ، ومنها الدلالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال : { فأحياكم } أي بعقب كونكم نطفاً من غير تخلل حالة أخرى بينهما ، ثم يميتكم بعد انقضاء مهلة الحياة ، ثم بيّن أنه لا يترك على هذا الموت بل لابد من حياة ثانية للسؤال أو للحشر ، ثم من الرجوع إليه للثواب أو العقاب . فبين سبحانه أنه بعد ما كان نطفة فإنه أحياه وصوّره أحسن صورة وجعله بشراً سوياً وأكمل عقله وبصره بأنواع المضار والمنافع ، وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور . ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئاً ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ، ويبقى مدة مديدة في اللحد { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } [ المؤمنون : 100 ] ينادي فلا يجيب ، ويستنطق فلا يتكلم ، ثم لا يزوره الأقربون بل ينساه الأهل والبنون .

يمرّ أقاربي بحذاء قبري *** كأن أقاربي لم يعرفوني

الهي إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا شاحبة وجوهنا جائعة بطوننا مثقلة من حمل الأوزار ظهورنا بادية لأهل القيامة سوآتنا ، فلا تضغف مصائبنا بإعراضك عنا ، يا واسع المغفرة ، ويا باسط اليدين بالرحمة .