نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (28)

ولما دعا سبحانه إلى التوحيد ودل عليه وأنذر من أعرض وبشر من أقبل وذكر حال الفريقين في قبول الأدلة التي زبدتها{[1429]} الأمثال وإبائها التفت إلى تبكيت المدبر لعله يستبصر ، واستمر سبحانه في دلائل التوحيد حتى قامت قيام الأعلام ونفذت نفوذ السهام حتى تخللت صميم العظام لقد ظهرت فلا تخفى على أحد إلا على أكمه لا يبصر{[1430]} القمر في أسلوب مشيراً إلى البعث منبه على التخلص من الخسارة ، وما أبدع افتتاح ذلك عقب " الخاسرين " بقوله على طريق التفات المغضب المستعطف المعجب ! { كيف }{[1431]} وقال الحرالي : لما تقدمت الدعوة للناس فأجاب مبادر وتوقف متوقف فضربت الأمثال فاستدرك وآمن{[1432]} وتمادى متماد على كفره صرف وجه الخطاب عن المواجهة من الحق تعالى وأجري على لسان لؤم وإنكار ، فجاء هذا الاستفهام لإيضاح انقطاع العذر في التمادي على الكفر ، وجاء بلفظ كيف لقصور نظرهم على الكيفيات المحسوسة{[1433]} فإن كيف كلمة مدلولها استفهام عن عموم الأحوال التي شأنها أن تدرك بالحواس ، فكأنه يقال لهم بمدرك{[1434]} : أي حاسة تماديتم على الكفر بالله ؟ على ما تقتضيه صيغة الفعل الدائم في { تكفرون } انتهى

وقال : { بالله } أي مع ظهور عظمته وعلوه{[1435]} ، والإنكار الموجب لنفي المنكر{[1436]} ، كما في قولك : أتطير بغير جناح ، يفيد أنه كان ينبغي أن يكون الكفر في حيز الممتنع لما على بطلانه وصحة التوحيد من الأدلة التي تفوت الحصر ، وإنكار حاله إنكار لوجوده على طريق البرهان ، لأنه إذا امتنع أن يوجد في حال من الأحوال امتنع وجوده مطلقاً .

قال الحرالي : وأعلى هذا الخطاب فأبعدوا عن تيسيره بذكر اسم " الله " لما لم يكونوا من أهل قبول التنزل بدعوى اسم الربوبية حيث لم يكونوا ممن أجاب مبادراً ولا تالياً حسبما تشعر به آية تحقيق ضرب الأمثال . ولما جرى هذا الخطاب بذكر اسم الله أعقب بذكر الأفعال الإلهية التي هي غايات من الموت والإحياء المعروف اللذين لا ينكر الكفار أمرهما - انتهى{[1437]} . { وكنتم } أي والحال {[1438]}أنكم تعلمون{[1439]} أنكم كنتم { أمواتاً } بل مواتاً تراباً{[1440]} ثم نطفاً . قال الحرالي : من الموت وهو حال خفاء وغيب يضاف إلى ظاهر عالم يتأخر عنه أو يتقدمه تفقد فيه خواص ذلك الظهور الظاهرة - انتهى . وإطلاق الموت على ما لم تحله حياة مجاز ، وسرّ التعبير به التنبيه على أنه أكثر ما تكون{[1441]} الإعادة{[1442]} التي ينكرونها{[1443]} مثل الابتداء ، فلا وجه أصلاً لإنكارها مع الاعتراف بالابتداء . فكيف{[1444]} والإعادة دونه { فأحياكم } فصرتم ذوي حس وبطش وعقل{[1445]} . قال الحرالي : وجاء بالفاء المشعرة بالتعقيب لما لم يكن لهم معرفة بمهل الموت{[1446]} الذي قبل حياة الولادة ، والحياء تكامل في ذات ما أدناه حياة النبات بالنمو والاهتزاز مع انغراسه إلى حياة ما يدب بحركته وحسه إلى غاية حياة الإنسان في تصرفه وتصريفه إلى ما وراء ذلك من التكامل - انتهى{[1447]} . { ثم يميتكم } بعد مد الأعمار والتقليب في الأطوار فإذا أنتم أجساد كالفخار كأنه لم تحل بها حياة ساعة قط ، وبدلتم بعد الأنس بكم الوحشة ، وإثر محبة القرب منكم النفرة ؛ وتمثيل الموت بما نعهده أن طلب الملك كما أنه يحصل به من الروع ما يكاد يتلف وربما أتلف كان طلب ملك الملوك موجباً للموت . قال الحرالي{[1448]} : وهذه الأحوال الثلاثة أي الموت المعبر به عن العدم ثم الحياة ثم الموت معروفة لهم لا يمكنهم إنكارها ، وإذا صح منهم الإقرار بحياة موت لزمهم الإقرار بحياة موت آخر لوجوب الحكم بصحة وجود ما قد سبق مثله ، كما قال تعالى :

{ أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم{[1449]} }[ يس : 81 ] ولَدُن ذلك من العلم أن{[1450]} الموت والحياة مزدوجان متضايفان ، وإذا استوفى الموت الأول إحياؤه فلا بد من استيفاء الموت الثاني إحياؤه أيضاً ، لأنه لولا استقبال الحياة لما كان موتاً بل بُطلاً وفقداً واضمحلالاً{[1451]} ، لأن حقيقة الموت حال غيب بين يديه ظهور ، والحياة نهاية ثابتة ، والموت مبدأ غيب زائل ، فجنس الموت كله متقض ونهاية ، والحياة ثابتة دائمة ؛ ولذلك ورد ما صح عنه عليه الصلاة والسلام في أن الموت يُذبح ، إعلام بانقضاء جنسه وثبات الحياة ، ولذلك قدم في الذكر وأعقب بالحياة حيث استغرقتهما{[1452]} كلمة " أل " في قوله :

خلق الموت والحياة{[1453]} }[ الملك : 2 ] وثبت{[1454]} الخطاب على إقرار الحياة والكمال ، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في قوله : " نعيم الجنة لا آخر له " فوجب بظاهر ما أحسه الكفار وباطن ما اقتضاه هذا النحو من العلم دونه انتشار حياة ثانية{[1455]} بعد ميتة الدنيا - انتهى .

ولما كان على البعث والحشر من الأدلة ما جعلهما كالمحسوسين عدهما في حيز المعلوم لهم كالإحياء الأول والموت فقال : { ثم يحييكم } فينشركم بعد طيكم ويبعثكم بعد{[1456]} حبسكم في البرزخ ، فتكونون كما كنتم أول مرة ذوي قدرة على الانتشار{[1457]} بتلك القدرة التي ابتدأكم بها وأماتكم{[1458]} ، {[1459]}وهذا لا ينفي أن يكون لهم في البرزخ إحساس بدون هذه الهيئة الكاملة{[1460]} ، { ثم إليه ترجعون } فيحشركم بعد طول الوقوف{[1461]} للجزاء من الثواب والعقاب ؛ وفي هذا كما قال الحرالي : إعلام بأنهم إن لم يرجعوا إلى الله سبحانه بداعي العلم في الدنيا فبعد مهل من الإحياء الثاني يرجعون إليه قهراً حيث يشاهدون انقطاع أسبابهم ممن تعلقوا به ويتبرأ منهم ما عبدوه من دون الله ، وإنما جاء هذا المهل بعد البعث لما يبقى لهم من الطمع في شركائهم حيث يدعونهم فلم يستجيبوا لهم ، فحينئذ يضطرهم انقطاع أسبابهم إلى الرجوع إلى الله فيرجعون قسراً وسوقاً فحينئذ يجزيهم بما كسبوا في دنياهم ، كما قال تعالى في خطاب يعم كافة أهل الجزاء{[1462]}{ واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون{[1463]} }[ البقرة : 281 ] وهذا آخر خطاب الإقبال عليهم من دعوة الله لهم ولسان النكير عليهم ، ولذلك كانت آية :

{ واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله }[ البقرة : 281 ] آخر آية أنزلت في القرآن ، لأنها نهاية ليس وراءه قول يعم أهل الجزاء ؛ والرجع{[1464]} عود الشيء عند انتهاء غايته إلى مبدئها - انتهى .


[1429]:في ظ: تربيتها .
[1430]:في م: لا تبصر وفي ظ: لا يعرف؛ وبهامش الأصل: يعرف – كذا.
[1431]:قال المهائمي: ثم أشار إلى أن الكفر بكتاب الله لبيانه حقارة ما دونه بطريق التمثيل بأحقر الأشياء لئلا يعبدوا عظمة عنايته بأحقر ما للحث على عبادته كفر بالله لاستدعائه عبادة الغير دون عبادته على أن فيه تكذيب الله وتكذيب ما بين من كمال معرفته فأنكر الحالة التي يكون عليها الكفر ليكون إنكارا له بطريق برهاني. وفي البحر المحيط: قال الزمخشري وتحريره أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها وقد على أن كل موجود لا ينفك من حال وصفة عند وجوده ومحال أن يوجد تغير صفة من الصفات كان إنكارا لوجوده على الطريق البرهاني انتهى كلامه. قال البيضاوي: استخبار فيه إنكار وتعجيب لكفرهم بإنكار حال التي يقع الكفر عليها على الطريق البرهاني لأن صدوره لا ينفك عن حال وصفة فإذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها استلزام ذلك إنكار وجوده فهو أبلغ وأقوى في إنكار الكفر من أتكفرون و اوثق لما بعده ...والمعنى أخبروني على أي حال تكفرون انتهى.
[1432]:من مد، وفي الأصل: إمن – كذا، وفي م وظ: امن.
[1433]:في م: المحسوسات.
[1434]:كتب فوقه في الأصل: أي إدراك.
[1435]:العبارة من هنا إلى "مطلقا" ليست في ظ.
[1436]:وفي تفسير النسفي: كيف "تكفرون" معنى الهمزة التي في كيف مثله في قولك: أتكفرون بالله، ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان وهو الإنكار والتعجب، ونظيره قولك: أتطير بغير جناح؟ وكيف تطير بغير جناح؟ والوا في "وكنتم أمواتا" نطفا في أصلاب آبائكم للحال و "قد" مضمرة. وقال البيضاوي: "كنتم أمواتا" أي أجساما لا حياة لها عناصر وأغذية وأخلاطا ونطفا ومضغا مخلقة وغير مخلقة – انتهى.
[1437]:ليس في م وظ.
[1438]:ليست في ظ.
[1439]:ليست في ظ.
[1440]:ليس في ظ.
[1441]:في م وظ: يكون.
[1442]:ليس في ظ.
[1443]:من م ومد وظ، وفي الأصل: ينكروها.
[1444]:ليس في م.
[1445]:قال البيضاوي: بخلق الأرواح ونفخها فيكم، وإنما عطف بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي. وقال المهائمي "و" قد عظمت عنايته بكم إذ "كنتم أمواتا" أي أجساما لا حياة فيها عناصر أو أغذية أو نطفا أو مضغا ثم أمواتا بالجهل "فأحياكم" بنفخ الأرواح فيكم وإنزال الكتب عليكم "ثم يميتكم" بإذهاب صفات نفوسكم بمقتضى الكتاب وبالموت الطبيعي لا إعدامكم بل لينقلكم إلى دار أكمل من داركم – انتهى.
[1446]:ليس في ظ.
[1447]:ليس في م.
[1448]:قال البيضاوي: فإن قيل إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم لم يعلموا أنهم يحييهم ثم إليه يرجعون ، قلت: تمكنهم من العلم لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو أنه لما قدر أن أحياهم أولا قدر أن يحييهم ثانيا، فإن بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته – انتهى.
[1449]:سورة 36 آية 81.
[1450]:وقال الشربيني الخطيب في السراج المنير: والحياة حقيقة في القوة الحاسة وما يقتضيها وبها سمى الحيوان حيوانا، مجاز في القوة النامية لأنها من طلائعها ومقدماتها، وفيما يخص الإنسان من الفضائل كالعلم والعقل والإيمان من حيث أنها كمالها وغايتها، والموت بإزائها يقال على ما يقابلها في كل مرتبة مثال ما يقابل الحقيقة قوله تعالى "قل الله يحييكم ثم يميتكم" ومثال ما يقابل المجاز قوله تعالى "اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها" وقوله تعالى "أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس".
[1451]:قال البيضاوي: فإن قيل: كيف يعد الإماتة من النعم المقتضية للشكر؟ قلت: لما كانت وصلة إلى الحياة الثانية التي هي الحياة الحقيقية كما قال تعالى "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان" كانت من النعم العظيمة مع أن المعدود عليهم نعمة هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها كما أن الواقع حالا هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل فإن بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح أن يقع حالا – انتهى.
[1452]:من ظ وفي الأصل وم ومد: استغرقتها – بالضمير المفرد المؤنث.
[1453]:سورة 67 آية 2.
[1454]:وفي م: أثبت.
[1455]:في مد وظ: ثابتة.
[1456]:ليست في ظ.
[1457]:ليست في ظ
[1458]:قال علي المهائمي: "ثم يحييكم" بصفاته بمقتضى الكتاب وبالنشر ولا يكون كالإحياء الأول بالحجاب "ثم إليه ترجعون" بالبقاء به بعد الفناء بمقتضى الكتاب وفي الموت الطبيعي للجزاء الفارق بين الولي والعدو، ولا يترك ذلك لأنه قد خلق لكم جميع النعم فلا بد أن يسألكم عنها هل صرفتموها فيما خلقها من أجله أم لا – انتهى. وقال البيضاوي: "ثم يحييكم" بالنشور يوم نفخ الصور أو للسؤال في القبور "ثم إليه ترجعون" بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب، فما أعجب كفركم بعد علمكم بحالكم هذه – انتهى. قال التفتازاني: ولم لا يجوز أن يراد مطلق الإحياء بعد الإماتة على ما يعم الإحياء في القبور والنشور، ولا بعد فيه لشدة ارتباط الإحياءين واتصالهما في الانقطاع عن أمر الدنيا – السراج المنير ص 39.
[1459]:ليست في ظ.
[1460]:ليست في ظ.
[1461]:ليست في ظ.
[1462]:العبارة هنا إلى "كانت آية" ليست في ظ.
[1463]:سورة 2 آية 281.
[1464]:وفي البحر المحيط: والرجوع إلى الله تعالى حاصل عقب الحياة التي للبعث، فدل ذلك على أن تلك الحياة المذكورة هي للمسألة، وقيل إن الهاء فيقوله "إليه" عائدة على الإحياء المدلول بقوله "فأحياكم" (وشرح) هذا أنكم ترجعون بعد الحياة الثانية إلى الحال التي كنتم عليها في ابتداء الحياة الأولى من كونكم لا تملكون أنفسكم شيئا.