الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (28)

قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } : " كيف " اسمُ استفهامٍ يُسْأَلُ بِهِ عن الأحوالِ ، وبُنِيَ لتضمُّنِهِ معنى الهمزة ، وبُنِيَ على أخفِّ الحركات ، وشَذَّ دخولُ حرفِ الجرِّ عليها ، قالوا : " على كيف تبيعُ الأَحْمَرَيْنِ " ، وكونهُا شرطاً قليلٌ ، ولا يُجزْم بها خلافاً للكوفيين ، وإذا أُبْدِل منها اسمٌ أو وَقَعَ جواباً لها فهو منصوبٌ إن كان بعدها فعلٌ متسلِّطٌ عليها نحو : كيف قمت ؟ أصحيحاً أم سقيماً ، وكيف سِرْت ؟ فتقول : راشداً ، وإلاَّ فمرفوعان : نحو : كيف زيدٌ ؟ أصحيحٌ أم سقيمٌ . وإنْ وقعَ بعدَها اسمٌ مسؤولٌ عنه بها فهو مبتدأٌ وهي خبرٌ مقدَّمٌ ، نحو : كيف زيدٌ ؟ وقد يُحْذَفُ الفعلُ بعدَها ، قال تعالى : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } [ التوبة : 8 ] أي كيف تُوالونهم . و " كيفَ " في هذه الآيةِ منصوبةٌ على التشبيهِ بالظرف عند سيبويه ، أي : في أيِّ حالةٍ تكفُرون ، وعلى الحالِ عند الأخفشِ ، أي : على أي حالٍ تكفُرون ، والعاملُ فيها على القولين " تكفرون " وصاحبُ الحالِ الضميرُ في تكفرون ، ولم يَذْكر أبو البقاء غيرَ مذهبِ الأخفشِ ، ثم قال : " والتقدير : معانِدين تكفرون . وفي هذا التقدير نظرٌ ، إذ يذهبَ معه معنى الاستفهام المقصودِ به التعجبُ أو التوبيخُ أو الإِنكارُ ، قال الزمخشري بعد أَنْ جَعَلَ الاستفهامَ للإِنكارِ : " وتحريرهُ أنه إذا أنْكَرَ أن يكونَ لكفرهم حالٌ يُوجَدُ عليها ، وقد عُلِمَ أنَّ كلَّ موجودٍ لا بُدَّ له من حالٍ ، ومُحالٌ أن يُوجَدَ بغيرِ صفةٍ من الصفاتِ كان إنكاراً لوجودِه على الطريق البرهاني " .

وفي الكلام التفاتٌ من الغَيْبَةِ في قولِه : " وأمَّا الذين كفروا " إلى آخره ، إلى الخطاب في قولِهِ : " تَكْفُرون ، وكُنْتُم " . وفائدتُهُ أنَّ الإِنكارَ إذا توجَّه إلى المخاطبِ كان أبلغَ . وجاء " تكفرونَ " مضارعاً لا ماضياً لأنَّ المُنْكَرَ الدوامُ على الكفرِ ، والمضارعُ هو المُشْعِرُ بذلك ، ولئلا يكونَ ذلك تَوْبيخاً لمَنْ آمَنَ بعد كُفْر .

و " كَفَرَ " يتعدَّى بحرف الجر نحو : { تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } { تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } [ آل عمران : 70 ] { كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ } [ فصلت : 41 ] ، وقد تعدَّى بنفسه في قوله تعالى : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } [ هود : 68 ] وذلك لمَّا ضُمِّن معنى جَحَدوا .

قوله : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } الواوُ واوُ الحالِ ، وعلامتُها أن يَصْلُح موضِعَها " إذ " ، وجملَةُ { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً } في محلِّ نصبٍ على الحال ، ولا بد من إضمار " قد " ليصِحَّ وقوعُ الماضي حالاً . وقال الزمخشري : " فإن قلت " كيف صَحَّ أن يكونَ حالاً وهو ماضٍ بها ؟ قُلْتُ : لَمْ تَدْخُل الواوُ على { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً } وحدَه ، ولكنْ على جملة قوله : { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً } إلى { تُرْجَعُونَ } ، كأنه قيل : كيف تكفرون بالله وقصتُكم هذه وحالُكم أنكم كنتم أمواتاً نُطَفَاً في أصْلاَبِ آبائكم فَجَعَلَكم أحياءً ، ثم يُميتكم بعد هذه الحياة ، ثم يُحْييكم بعد الموتِ ثم يُحاسِبُكم " .

ثم قال : " فإنْ قلتَ : بعضُ القصةٍ ماضٍ وبعضُها مستقبلٌ ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يَصِحُّ أن يقعَ حالاً حتى يكونَ فعلاً حاضراً وقتَ وجودِهَا هو حالٌ عنه فما الحاضرُ الذي وقع حالاً ؟ قلت : هو العلمُ بالقصة كأنه قيل : كيف تكفرونَ وأنتم عالمونَ بهذه القصة بأولِها وبآخرها " ؟ قال الشيخُ ما معناه : هذا تَكَلُّفٌ ، يعني تأويلَه هذه الجملةَ بالجملةِ الاسمية . قال : " والذي حَمَله على ذلك اعتقادُه أنَّ الجملَ مندرجةٌ في حكمِ الجملةِ الأولى " . قال : " ولا يتعيَّن ، بل يكونُ قولُه تعالى : { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } وما بعده جملاً مستأنفةً أَخْبَرَ بها تعالى لا داخلةً تحت الحالِ ، ولذلك غايَرَ بينها وبين ما قبلَها من الجملِ بحرفِ العطفِ وصيغةِ الفعل السابقَيْنِ لها في قولِهِ : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } .

والفاءُ في قولِه : " فَأَحْيَاكُمْ " على بابِها مِن التعقيبِ ، و " ثم " على بابها من التراخي ، لأنَّ المرادَ بالموتِ الأول العدَمُ السابقُ ، وبالحياةِ الأولى الخَلْقُ ، وبالموتِ الثاني الموتُ المعهودُ ، وبالحياةِ الثانية الحياةُ للبعثِ ، فجاءت الفاءُ و " ثم " على بابِهما من التعقيبِ والتراخي على هذا التفسير وهو أحسنُ الأقوالِ ، ويُعْزَى لابنِ عباس وابن مسعود ومجاهد ، والرجوعُ إلى الجزاءِ أيضاً متراخٍ عن البعثِ . والضميرُ في " إليه " لله تعالى ، وهذا ظاهرٌ لأنه كالضمائر قبلَه وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : إلى ثوابِهِ وعقابِه . وقيل : على الجزاءِ على الأعمالِ . وقيل : على المكانِ الذي يَتَوَلَّى اللهُ فيه الحكمَ بينكم . وقيل : على الإِحياء المدلولِ عليه بأَحْياكم ، يعني أنكم تُرْجَعُون إلى الحالِ الأولى التي كنتم عليها في ابتداء الحياةِ الأولى من كونِكم لا تَمْلِكُون لأنفسِكم شيئاً .

والجمهورُ على قراءة " تُرْجَعُون " مبنياً للمفعولِ ، وقُرِئَ مبنيّاً للفاعل حيث جاء ، ووجهُ القراءتين أنَّ " رَجَع " يكونُ قاصراً ومتعدياً ، فقراءةُ الجمهورِ من المتعدِّي وهو أرجحُ ؛ لأنَّ أصلَها : " ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجِعُكُمْ " لأنَّ الإِسنادَ في الأفعالِ السابقة لله تعالى ، فيناسِبُ أن يكونَ هذا كذا ولكنه بُنِيَ للمفعول لأجل الفواصل والقواطع .

وأَمْوات جمعُ " مَيِّت " وقياسُه على فعائِلِ كسَيّد وسَيَائِدِ ، والأَوْلَى أن يكون أموات جمع مَيْت مخفَّفاً كأقوال في جمع قَيْل ، وقد تقدَّمت هذه المادةُ .