السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (28)

وبخ سبحانه وتعالى الكفار بقوله : { كيف تكفرون بالله } أي : أخبروني على أي حال تكفرون { وكنتم أمواتاً } أي : نطفاً في أصلاب آبائكم لا إحساس لكم { فأحياكم } في الأرحام ثم في الدنيا بخلق الأرواح ونفخها فيكم وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي ، وقرأ الكسائي بالإمالة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح . { ثم يميتكم } عند انقضاء آجالكم { ثم يحييكم } للبعث يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور .

قال التفتازاني : ولم لا يجوز أن يراد مطلق الإحياء بعد الإماتة على ما يعم الإحياء في القبور والنشور ، ولا بعد فيه لشدّة ارتباط الإحياءين واتصالهما في الانقطاع عن أمر الدنيا { ثم إليه ترجعون } تردّون بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب فما أعجب كفركم مع عملكم بحالكم هذه .

فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون أجيب : بأن تمكنهم من العلم بما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر سيما في الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولاً قدر على أن يحييهم ثانياً فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته .

فإن قيل : كيف تعدّ الإماتة من النعم المقتضية للشكر ؟ أجيب : بأنها لما كانت وصلة للحياة الدائمة التي هي الحقيقية كما قال تعالى : { وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان } ( العنكبوت ، 64 ) يعني : الحياة ، كانت من النعم العظيمة مع أنّ المعدود عليهم نعمة هو المعنى المتنزع من القصة بأسرها كما أن الواقع حالاً هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل فإنّ بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح حالاً ويصح أن يكون الخطاب مع الكفار والمؤمنين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوّة ووعدهم على الإيمان وأوعدهم على الكفر أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامّة والخاصة واستبعد صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة فإنّ عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم وأن يكون مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم وتبعيد الكفر عنهم على معنى كيف يتصوّر الكفر منكم وكنتم أمواتاً أي : جهالاً فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ثم يميتكم الموت المعروف ثم يحييكم الحياة الحقيقية ثم إليه ترجعون فينبئكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، والحياة حقيقة في القوّة الحاسة أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيواناً مجاز في القوّة النامية لأنها من طلائعها ومقدّماتها وفيما يخص الإنسان من الفضائل كالعلم والعقل والإيمان من حيث إنه كمالها وغايتها والموت بإزائها ، يقال على ما يقابلها في كل مرتبة مثال ما يقابل الحقيقة قوله تعالى : { قل الله يحييكم ثم يميتكم } ( الجاثية ، 26 ) ومثال ما يقابل المجاز الأوّل قوله تعالى : { اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها } ( الحديد ، 17 ) ومثال ما يقابل المجاز الثاني قوله تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس } ( الأنعام ، 122 ) وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوّة فينا أو معنى قائم بذاته تعالى .