فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (28)

كيف مبنية على الفتح لخفته ، وهي في موضع نصب ب { تكفرون } ، ويسأل بها عن الحال ، وهذا الاستفهام هو للإنكار عليهم ، والتعجب من حالهم ، وهي متضمنة لهمزة الاستفهام ، والواو في { وَكُنتُمْ } للحال ، و «قد » مقدّرة كما قال الزجاج والفراء ، وإنما صح جعل هذا الماضي حالاً ؛ لأن الحال ليس هو مجرد قوله { كنتم أمواتاً } بل هو وما بعده إلى قوله { تُرْجَعُونَ } كما جزم به صاحب الكشاف كأنه قال : كيف تكفرون وقصتكم هذه ؟ أي : وأنتم عالمون بهذه القصة ، وبأوّلها ، وآخرها . والأموات جمع ميت ، واختلف المفسرون في ترتيب هاتين الموتتين ، والحياتين فقيل : إن المراد { كُنتُمْ أمواتا } قبل أن تخلقوا ، أي : معدومين ؛ لأنه يجوز إطلاق اسم الموت على المعدوم لاجتماعهما في عدم الاحساس { فأحياكم } أي : خلقكم { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } يوم القيامة . وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة ، فمن بعدهم . قال ابن عطية : وهذا القول هو : المراد بالآية ، وهو الذي لا محيد للكفار عنه ، وإذا أذعنت نفوس الكفار بكونهم كانوا معدومين ، ثم أحياء في الدنيا ، ثم أمواتاً فيها لزمهم الإقرار بالحياة الأخرى . قال غيره : والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا . وقيل : إن المراد كنتم أمواتاً في ظهر آدم ثم أخرجكم من ظهره كالذّر ، ثم يميتكم موت الدنيا ، ثم يبعثكم . وقيل : { كُنتُمْ أمواتا } أي : نطفاً في أصلاب الرجال { فأحياكم } حياة الدنيا . { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } بعد هذه الحياة { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } في القبور { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } في القبر { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } الحياة التي ليس بعدها موت .

قال القرطبي : فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات ، وثلاث إحياءات وكونهم موتى في ظهر آدم ، وإخراجهم من ظهره ، والشهادة عليهم غير كونهم نطفاً في أصلاب الرجال ، فعلى هذا يجيء أربع موتات وأربع إحياءات . وقد قيل : إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم كالبهائم ، وأماتهم ، فيكون على هذا خمس موتات ، وخمس إحياءات ، وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث : «ولكن ناساً أصابتهم النار بذنوبهم فأماتهم الله إماتة ، حتى إذا كانوا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم » إلى أن قال : «فينبتون نبات الحبة في حميل السيل » وهو في الصحيح من حديث أبي سعيد .

وقوله : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : إلى الله سبحانه ، فيجازيكم بأعمالكم . وقد قرأ يحيى بن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، ومجاهد وسلام ويعقوب بفتح حرف المضارعة ، وقرأ الجماعة بضمه . قال في الكشاف : عطف الأوّل بالفاء وما بعده بثم ، لأن الإحياء الأوّل قد تعقب الموت بغير تراخ ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء ، والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخياً ظاهراً ، وإن أريد به إحياء القبر ، فمنه يكتسب العلم بتراخيه ، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن النشور انتهى . ولا يخفاك أنه إن أراد بقوله أن الأحياء الأوّل قد تعقب الموت أنه وقع على ما هو متصف بالموت ، فالموت الآخر وقع على ما هو متصف بالحياة ، وإن أراد أنه وقع الإحياء الأوّل عند أوّل اتصافه بالموت بخلاف الثاني ، فغير مسلم ، فإنه وقع عند آخر أوقات موته ، كما وقع الثاني عند آخر أوقات حياته ، فتأمل هذا . وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى : { وَكُنتُمْ أمواتا } الآية ، قال : لم تكونوا شيئاً ، فخلقكم { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } يوم القيامة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال : يميتكم ثم يحييكم في القبر ، ثم يميتكم . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية في قوله : { وَكُنتُمْ أمواتا } قال : حين لم تكونوا شيئاً ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة ، ثم يرجعون إليه بعد الحياة . وأخرج ابن جرير ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : خلقهم من ظهر آدم فأخذ عليهم الميثاق ، ثم أماتهم ، ثم خلقهم في الأرحام ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة . والصحيح الأول .