فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (28)

{ كيف } هو للسؤال عن الأحوال ، والمراد هنا الأحوال التي يقع عليها الكفر على الطريق البرهاني من العسر واليسر والسفر والإقامة والكبر والصغر والعز والذل وغير ذلك ، وهذا الاستفهام هو للإنكار عليهم والتعجيب من حالهم ، هو فيه تبكيت وتعنيف لهم { تكفرون بالله } بعد نصب الدلائل ووضع البراهين الدالة على وحدانيته ، والخطاب على طريقة الإلتفات ثم ذكر الدلائل فقال { وكنتم أمواتا } يعني نطفا في أصلاب آبائكم وعلقا ومضغا { فأحياكم } يعني في الأرحام بنفخ الروح وفي الدنيا { ثم يميتكم } أي عند انقضاء آجالكم { ثم يحييكم } بالنشور يوم نفخ الصور ، واختلف المفسرون في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين ، والحاصل أن المراد بالموت الأول العدم السابق ، وبالحياة الأولى الخلق ، وبالموت الثاني الموت المعهود ، وبالحياة الثانية الحياة للبعث ، فجاءت الفاء وثم على بابيهما من التعقيب والتراخي على هذا التفسير ، وهو أحسن الأقوال ، وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة فمن بعدهم .

قال ابن عطية وهذا القول هو المراد بالآية وهو الذي لا محيد للكفار عنه ، وإذا أذعنت نفوس الكفار بكونهم كانوا معدومين ثم أحياء في الدنيا ثم أمواتا فيها لزمهم الإقرار بالحياة الأخرى ، قال غيره هو الحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم الحياة الدنيا ، وقيل أن المراد كنتم أمواتا في ظهر آدم عليه السلام ثم أخرجكم من ظهره كالذر ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم ، وقيل كنتم أمواتا أي نطفا في أصلاب الرجال ثم يحييكم حياة الدنيا ، ثم يميتكم بعد هذه الحياة ثم يحييكم في القبور ثم يميتكم فيها ثم يحييكم الحياة التي ليس بعدها موت ، قال القرطبي فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات وثلاث إحياءات ، وكونهم موتى في ظهر آدم وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال ، فعلى هذا يجئ أربع موتات وأربع إحياءات ، وقد قيل إن الله أوجدهم قبل خلق آدم كالبهائم وأماتهم فيكون على هذا خمس موتات وخمس إحياءات ، وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث ( ولكن ناسا أصابتهم النار بذنوبهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في الشفاعة فجئ بهم إلى أن قال : فينبتون نبات الحبة في حميل السيل ) وهو في الصحيح من حديث أبي سعيد .

{ تم إليه ترجعون } أي تردون في الآخرة إلى الله سبحانه فيجازيكم بأعمالكم ، قال في الكشاف عطف الأول بالفاء وما بعده بثم ، لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بغير تراخ ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء ، والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد بهم النشور تراخيا ظاهرا ، وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه ، والرجوع إلى الجزاء متراخ عن النشور ، انتهى .

ولا يخفاك أنه إن أراد بقوله عن الإحياء الأول قد تعقب الموت إنه وقع على ما هو متصف بالموت فالموت الآخر وقع على ما هو متصف بالحياة وإن أراد أنه وقع الإحياء الأول عند أول اتصافه بالموت بخلاف الثاني فغير مسلم فإنه وقع عند آخر أوقات موته كما وقع الثاني عند آخر أوقات حياته ، فتأمل هذا ، وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة .