معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلرِّجَالُ قَوَّـٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ فَٱلصَّـٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ وَٱلَّـٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا} (34)

قوله تعالى : { الرجال قوامون على النساء } .

الآية نزلت في سعد بن الربيع وكان من النقباء ، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، قاله مقاتل ، وقال الكلبي : امرأته حبيبة بنت محمد بن مسلمة ، وذلك إنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفرشته كريمتي ؟ فلطمها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لتقتص من زوجها ) ، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فجاء جبريل عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ارجعوا ، هذا جبريل أتاني بشيء ) . فأنزل الله هذه الآية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أردنا أمراً ، وأراد الله أمراً ، والذي أراد الله خير ) . ورفع القصاص .

قوله تعالى : { الرجال قوامون على النساء } أي : مسلطون على تأديبهن ، والقوام والقيم بمعنى واحد ، والقوام أبلغ وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب .

قوله تعالى : { بما فضل الله بعضهم على بعض } ، يعني فضل الرجال على النساء بزيادة العقل والدين والولاية ، وقيل : بالشهادة ، لقوله تعالى : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } [ البقرة : 282 ] وقيل : بالجهاد ، وقيل : بالعبادات ، من الجمعة والجماعة ، وقيل : هو أن الرجل ينكح أربعاً ولا يحل للمرأة إلا زوج واحد ، وقيل : بأن الطلاق بيده ، وقيل : بالميراث ، وقيل : بالدية ، وقيل : بالنبوة .

قوله تعالى : { وبما أنفقوا من أموالهم } . يعني : إعطاء المهر ، والنفقة .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، أنا أحمد بن محمد ابن عيسى البرني ، أنا أبو حذيفة ، أنا سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) .

قوله تعالى :{ فالصالحات قانتات } ، أي : مطيعات .

قوله تعالى : { حافظات للغيب } . أي : حافظات للفروج في غيبة الأزواج ، وقيل : حافظات لسرهم .

قوله تعالى : { بما حفظ الله } ، قرأ أبو جعفر { بما حفظ الله } بالنصب ، أي : يحفظن الله في الطاعة ، وقراءة العامة بالرفع ، أي : بما حفظهن الله بإيصاء الأزواج بحقهن ، وأمرهم بأداء المهر والنفقة ، وقيل : ( حافظات للغيب ) . بحفظ الله .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو عبد الله بن فنجويه ، أخبرنا عمر بن الخطاب ، أنا محمد بن إسحاق المسوحي ، أنا الحارث بن عبد الله ، أنا أبو معشر ، عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك ، وإن أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها ) ، ثم تلا : ( الرجال قوامون على النساء ) الآية . قوله تعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن } ، عصيانهن ، وأصل النشوز : التكبر والارتفاع ، ومنه النشز للموضع المرتفع .

قوله تعالى : { فعظوهن } ، بالتخويف من الله والوعظ بالقول .

قوله تعالى : { واهجروهن } ، يعني : إن لم ينزعن عن ذلك بالقول فاهجروهن .

قوله تعالى : { في المضاجع } ، قال ابن عباس : يوليها ظهره في الفراش ، ولا يكلمها . وقال غيره : يعتزل عنها إلى فراش آخر .

قوله تعالى : { واضربوهن } يعني :إن لم ينزعن مع الهجران فاضربوهن ضرباً غير مبرح ولا شائن ، وقال عطاء : ضرباً بالسواك . وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( حق المرأة أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت ) .

قوله تعالى : { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً } ، أي : لا تتجنوا عليهن الذنوب ، وقال ابن عيينة : لا تكلفوهن محبتكم فإن القلب ليس بأيديهن .

قوله تعالى : { إن الله كان علياً كبيراً } ، متعالياً من أن يكلف العباد ما لا يطيقونه ، وظاهر الآية يدل على أن الزوج يجمع عليها بين الوعظ والهجران والضرب ، فذهب بعضهم إلى ظاهرها ، وقال : إذا ظهر منها النشوز جمع بين هذه الأفعال ، وحمل الخوف في قوله : { واللاتي تخافون نشوزهن } ، على العلم كقوله تعالى : { فمن خاف من موص جنفاً } [ البقرة :182 ] أي : علم ، ومنهم من حمل الخوف على الخشية لا على حقيقة العلم ، كقوله تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانةً } . [ الأنفال :58 ] وقال : هذه الأفعال على ترتيب الجرائم ، فإن خاف نشوزها بأن ظهرت أمارته منها من المخاشنة وسوء الخلق وعظها ، فإن أبدت النشوز هجرها ، فإن أصرت على ذلك ضربها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلرِّجَالُ قَوَّـٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ فَٱلصَّـٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ وَٱلَّـٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا} (34)

ثم بين - سبحانه حقوق الرجال وحقوق النساء ، وما يجب لكل فريق نحو الآخر ، ودعا أهل الخير إلى محاولة الإِصلاح بين الزوجين إذا مادب الخلاف بينهما فقال - تعالى - : { الرجال . . . خَبِيراً } .

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ( 34 ) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ( 35 )

روى المفسرون روايات فى سبب نزول قوله - تعالى - { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء } الآية .

ومن هذه الروايات ما ذكره القرطبى من أنها " نزلت فى سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن خارجة بن أبى زهير فلطمها ؛ فقال أبوها : يا رسول الله ، أفرشته كريمتى فلطمها . فقال صلى الله عليه وسلم " لتقتص من زوجها " . فانصرفت مع أبيها لتقتص منه . فقال - عليه الصلاة والسلام - " ارجعوا هذا جبريل أتانى " فأنزل الله هذه الآية .

وقوله { قَوَّامُونَ } جمع قوام على وزن فعال للمبالغة من القيام على الشئ وحفظه . يقال : قال فلان على الشئ وهو قائم عليه وقوام عليه ، إذا كان يرعاه ويحفظه ويتولاه . ويقال : هذا قيم المرأة وقوامها للذى يقوم بأمرها ويهتم بحفظها وإصلاحها ورعاية شئونها . أي : الرجال يقومون على شئون النساء بالحفظ والرعاية والنفقة والتأديب وغير ذلك مما تقتضيه مصلحتهن .

ثم ذكر - سبحانه - سببين لهذه القوامة .

أولهما : وهبى وقد بينه بقوله : { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } .

أى أن حكمة الله اقتضت أن يكون الرجال قوامين على النساء بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء من قوة فى الجسم ، وزيادة فى العلم ، وقدرة على تحمل أعباء الحياة وتكاليفها وما يستتبع من دفاع عنهن إذا ما تعرضن لسوء .

قال الفخر الرازى : واعلم أن فضل الرجال على النساء حاصل من وجوه كثيرة : بعضها صفات حقيقية وبعضها أحكام شرعية . أما الصفات الحقيقة فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها إلى أمرين . إلى العلم وإلى القدرة .

ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر . ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل ، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء فى العقل والحزم والقوة . وإن منهم الأنبياء والعلماء ، وفيهم الإِمامة الكبرى والصغرى والجهاد ، والأذان ، والخطبة ، والولاية فى النكاح . فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء .

والمراد بالتفضيل فى قوله { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } تفضيل الجنس على الجنس لا تفضيل الآحاد على الآحاد . فقد يوجد من النساء من هى أقوى عقلا وأكثر معرفة من بعض الرجال .

والباء للسببية ، وما مصدرية ، والبعض الأول المقصود به الرجال والبعض الثانى المقصود به النساء . والضمير المضاف إليه البعض الأول يقع على مجموع الفريقين على سبيل التغليب .

وقال - سبحانه - { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } ولم يقل - مثلا - : بما فضلهم الله عليهن ، للإِشعار بأن الرجال من النساء والنساء من الرجال كما قال فى آية أخرى { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } وللإِشارة إلى أن هذا التفضيل هو لصالح الفريقين ، فعلى كل فريق منهم أن يتفرغ لأداء المهمة التى كلفه الله بها بإخلاص وطاعة حتى يسعد الفريقان .

وأما السبب الثاني : فهو كسبى وقد بينه - سبحانه - بقوله : { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } .

أى أن الله - تعالى - جعل الرجال قوامين على النساء بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء من علم وقدرة . وبسبب ما ألزم به الرجال من إنفاق على النساء ومن تقديم المهور لهن عند الزواج بهن ، ومن القيام برعايتهن وصيانتهن .

قال الآلوسى : واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج . وأن عليها طاعته إلا فى معصية الله - تعالى - . وفى الخبر " لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " واستدل بها أيضا من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة . وهو مذهب مالك والشافعى ، لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح . وعندنا لا فسخ لقوله - تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } . واستدل بها أيضا من جعل للزوج الحجر على زوجته فى نفسها وما لها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه ، لأنه - سبحانه - جعل الرجل قواما بصيغة المبالغة . وهو الناظر على الشئ الحافظ له .

ثم شرع - سبحانه - فى تفصيل أحوال النساء . وفى بيان كيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن ، فقسمهن إلى قسمين :

فقال فى شأن القسم الأول : { فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله } .

أى : فالصالحات من النساء من صفاتهن أنهن { قَانِتَاتٌ } أى مطيعات لله - تعالى ولأزواجهن عن طيب نفس واطمئنان قلب ، ومن صفاتهن كذلك أنهن { حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله } .

قال صاحب الكشاف : الغيب خلاف الشهادة . أى حافظات لمواجب الغيب . إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن ، حفظن ما يجب عليهن حفظه فى حال الغيبة من الفروج والأموال والبيوت . وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال . " خير النساء أمرأة إن نظرت إليها سرتك ، وأن أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك فى مالها ونفسها " ، ثم تلا الآية الكريمة .

و " ما " فى قوله { بِمَا حَفِظَ الله } يحتمل أن تكون مصدرية فيكون المعنى : أن هؤلاء النساء الصالحات المطيعات من صفاتهن أنهن يحفظن فى غيبة أزواجهن ما يجب حفظه بسبب حفظ الله لهن ورعايته إياهن بالتوفيق للعلم الذى يحبه ويرضاه .

ويحتمل أن تكون موصولة فيكون المعنى : أنهن حافظات لغيبة أزواجهن فى النفس والعرض والمال وكل ما يجب حفظه بسبب الأمر الذى حفظه الله لهن على أزواجهن حيث كلف الأزواج بالانفاق عليهن وبالإِحسان إليهن ، فعليهن أن يحفظن حقوق أزاوجهن فى مقابلة الذى حفظه الله لهن من حقوق على أزواجهن .

فالجملة الكريمة تمدح النساء الصالحات المطيعات الحافظات لأسرار أزواجهن ولكل ما يجب حفظه من عرض أو مال أو غير ذلك مما تقتضيه الحياة الزوجية .

هذا هو القسم الأول من النساء ، أما القسم الثانى فقد قال - سبحانه - فى شأنه : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن } والمراد بقوله { نُشُوزَهُنَّ } عصيانهن وخروجهن عما توجيه الحياة الزوجية من طاعة الزوجة لزوجها . يقال : نشزت الزوجة نشوزا أى : عصت زوجها وامتنعت عليه . وأصل النشوز مأخوذ من النشز بمعنى الارتفاع فى وسط الأرض السهلة المنبسطة ويكون شاذا فيها . فشبهت المرأة المتعالية على طاعة زوجها بالمرتفع من الأرض .

والمعنى : هذا شأن النساء الصالحات القانتات الحافظات للغيب بسبب حفظ الله لهن ، أما النساء اللاتى تخافون { نُشُوزَهُنَّ } أى عصيانهن لكم ، وترفعهن عن مطاوعتكم ، وسوء عشرتهن { فَعِظُوهُنَّ } بالقول الذى يؤثر فى النفس ، ويوجههن نحو الخير والفضيلة ، بأن تذكروهن بحسن عاقبة الطاعة للزوج . وسوء عاقبة النشوز والمعصية ، وبأن تسوقوا لهن من تعاليم الإِسلام وآدابه وتوجيهاته ما من شأنه أن يشفى الصدور ، ويهدى النفوس إلى الخير .

قال ابن كثير : وقوله - تعالى - : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } أى النساء تخافون أن ينشزن على أزواجهن فعظوهن . والنشوز هو الارتفاع فالمرأة الناشز هى المرتفعة على زوجها التاركة لأمره ، المعرضة عنه المبغضة له ، فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله ، فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته ، وحرم عليها معصيته لماله عليها من الفضل ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " .

وقوله { واهجروهن فِي المضاجع } أى وعليكم إذا لم تنفع الموعظة والنصيحة معهن أن تتركوهن منفردات فى أماكن نومهن .

فالمضاجع جمع مضجع - وهو مكان النوم والاضطجاع .

قال القرطبى : والهجر فى المضجع هو أن يضاجعها - أى ينام معها فى فراش واحد - ويوليها ظهره ولا يجامعها . وقال مجاهد : { واهجروهن فِي المضاجع } أى تجنبوا مضاجعهن أى - اهجروا أماكن نومهن بأن تناموا بعيدا عنهن - .

روى أبو داود بسند " عن معاوية بن حيدة القشيرى أنه قال : يا رسول الله : ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه . ولا تقبح . ولا تهجر إلا فى البيت " .

وقوله { واضربوهن } معطوف على ما قبله . أى إن لم ينفع ما فعلتم من العظة والهجران فاضربوهن ضربا غير مبرح - أى غير شديد ولا مشين - فقد ثبت فى صحيح مسلم عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى حجة الوداع : " واتقوا الله فى النساء فانهن عوان عندكم - أى أسيرات عندكم - ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا كرهونه . فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح " .

وقد فسر العلماء الضرب غير المبرح بأنه الذى لا يكسر عظما ، ولا يشين جارحة ، وأن يتقى الوجه فإنه مجمع المحاسن ولا يلجأ إليه إلا عند فشل العلاجين السابقين .

وقد قال - سبحانه - { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } ولم يقل : واللائى ينشزن ، للإِشعار بأن يبدأ الزوج بعلاج عيوب زوجته عندما تظهر أمارات هذه العيوب وعلاماتها وأن لا يتركها حتى تشترى وتشتد ، بل عليه عندما يخشى النشوز أن يعالجة قبل أن يقع ، وأن يكون علاجه بطريقة حكيمة من شأنها أن تقنع وتفيد .

وبعضهم فسر الخوف ، بالعلم أى واللاتى تعلمون نشوزهن فعظوهن . . . إلخ .

وبعضهم قدر مضافا فى الكلام أى : واللاتى تخافون دوام نشوزهن ، فعظوهن واهجروهن فى المضاجع . . الخ .

وجمهور العلماء على أن من الواجب على الزوج أن يسلك فى معالجته لزوجته تلك الأنوار الثلاثة على الترتيب بأن يبدأ بالوعظ ثم بالهجر ثم بالضرب ، لأن الله - تعالى - قد أمر بذلك ، ولأنه قد رتب هذه العقوبات بتلك الطريقة الحكيمة التى تبدأ بالعقوبة الخفيفة ثم تتدرج إلى العقوبة الشديدة ثم إلى الأكثر شدة .

قال الفخر الرازى : وبالجملة فالتخفيف مراعى فى هذا الباب على أبلغ الوجوه . والذى يدل عليه اللفظ أنه - تعالى - ابتدأ بالوعظ . ثم ترقى منه إلى الضرب . وذلك تنبيه يجرى مجرى التصريح فى أنه متى حصل الغرض بالطريق الأخف ، وجب الاكتفاء به ، ولم يجز الإِقدام على الطريق الأشق . وهذه طريقة من قال : حكم هذه الآية مشروع على الترتيب .

وقال بعض أصحابنا : " تحرير المذهب أن له عند خوف النشوز أن يعظها ، وهل له أن يهجرها ؟ فيه احتمال . وله عند إيداء النشوز من يعظها أو يهجرها ، أو يضربها .

ثم بين - سبحانه - ما يجب على الرجال نحو النساء إذا ما أطعنهم وتركن النشوز والعصيان فقال - تعالى - : { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } .

أى فإن رجعن عن النشوز إلى الطاعة وانقدن لما أوجب الله عليهن نحوكم أيها الرجال ، فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدى عليهن ، أو فلا تظلموهن بأى طريق من طرق الظلم كأن تؤذوهن بألسنتكم أو بأيدكم أو بغير لك ، بل اجعلوا ما كان منهن كأنه لم يكن ، وحاولوا التقرب إليهن بألوان المودة والرحمة .

{ إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } فاحذروا مخالفة أمره ، فإن قدرته - سبحانه - عليكم أعظم من قدرتكم على نسائكم .

فالجملة الكريمة تذييل قصد به حث الأزواج على قبول توبة النساء ، وتحذيرهم من ظلمهن إذا ما تركن النشوز ، وعدن إلى طريق الطاعة والإِنابة .

قال بعضهم : وذكر هاتين الصفتين فى هذا الموضع فى غاية الحسن ، وبيانه من وجوه :

الأول : أن المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النساء . والمعنى : أنهن إن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم ، فالله - سبحانه - ينتصف لهن منكم لأنه علىٌّ قاهر كبير .

الثانى : لا تبغوا إذا أطعنكم لعلو أيديكم ، فإن الله أعلى منكم وأكبر من كل شئ .

الثالث : أنه - سبحانه - مع علوه وكبريائه لا يؤاخذ العاصى إذا تاب ، بل يغفر له ، فإذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تتركوا عقوبتها وتقبلوا توبتها .

الخامس : أنه - تعالى مع علوه وكبريائه اكتفى من العبد بالظواهر ولم يهتك السرائر فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة ، وأن تقعوا فى التفتيش عما فى قلبها وضميرها من الحب والبغض .