السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلرِّجَالُ قَوَّـٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ فَٱلصَّـٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ وَٱلَّـٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا} (34)

{ الرجال قوّامون على النساء } أي : يقومون عليهنّ قيام الولاة على الرعية وعلل ذلك بأمرين : أحدهما وهبيّ والآخر كسبيّ ، وقد ذكر الأوّل بقوله تعالى : { بما فضل الله بعضهم على بعض } أي : بسبب تفضيله الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات ، ولذلك خصوا بالنبوّة والأمانة والولاية ، وإقامة الشعائر ، والشهادة في مجامع القضايا ، ووجوب الجهاد ، والجمعة ، والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق والرجعة وعدد الأزواج وإليهم الانتساب وهم أصحاب اللحى والعمائم ، ثم ذكر الثاني بقوله تعالى : { وبما أنفقوا من أموالهم } في نكاحهنّ كالمهر والنفقة .

روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها ) .

وروي أنّ سعيد بن الربيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه زوجته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أفرشته كريمتي فلطمها فقال : «لتقتص منه » فنزلت فقال : ( أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير ) ورفع القصاص { فالصالحات } منهنّ { قانتات } أي : مطيعات لأزواجهنّ { حافظات للغيب } أي : لما يجب عليهنّ حفظه في حال غيبة أزواجهنّ من الفروج والبيوت والأموال ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرّتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ) { بما حفظ الله } أي : بما حفظهنّ الله حين أوصى بهنّ الأزواج في كتابه ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «استوصوا بالنساء خيراً » أو بما حفظهنّ الله وعصمهنّ ووفقهنّ لحفظ الغيب ، أو بما حفظهنّ حين وعدهنّ الثواب العظيم على حفظ الغيب وأوعدهنّ بالعذاب الشديد على الخيانة { واللاتي تخافون } أي : تعلمون { نشوزهنّ } كما في قوله تعالى : { فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً } ( البقرة ، 182 ) .

{ فعظوهنّ } أي : خوفوهنّ كأن يقول لزوجته : اتقي الله في الحق الواجب لي عليك واحذري العقوبة ويبيّن لها أنّ النشوز يسقط النفقة والقسم { واهجروهنّ في المضاجع } أي : اعتزلوهنّ في الفراش { واضربوهنّ } وإن لم يتكرّر النشوز إن أفاد الضرب وإلا فلا يضرب كما لا يضرب ضرباً مبرّحاً ولا وجهاً ولا مهالك ومع ذلك فالأولى له العفو ، وخرج بالعلم بالنشوز ما إذا ظهرت أماراته فقط إما بقول كأن صارت تجيبه بكلام خشن بعد أن كان بلين ، وإما بفعل كأن يجد منها إعراضاً وعبوساً بعد تلطف وطلاقة وجه ، فإنه يعظها بلا هجر وبلا ضرب لعلها تبدي عذراً أو تتوب عما وقع منها بغير عذر ، وخرج بالمضجع الهجر بالكلام ، فلا يجوز الهجر فوق ثلاثة أيام ويجوز فيها للخبر الصحيح : ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) إن قصد بهجرها ردّها لحظ نفسه فإن قصد به ردّها عن المعصية وإصلاح دينها فلا تحريم إذ النشوز حينئذ عذر شرعيّ ، والهجر له في الكلام جائز مطلقاً ، ومنه هجره صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه ونهيه الصحابة عن كلامهم { فإن أطعنكم } فيما يراد منهنّ { فلا تبغوا } أي : لا تطلبوا { عليهنّ سبيلاً } أي : طريقاً إلى ضربهنّ ظلماً واجعلوا ما كان بينهنّ كأن لم يكن ، ( فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) ، رواه الطبرانيّ وابن ماجة وغيرهما { إنّ الله كان علياً كبيراً } فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهنّ فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم .