فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ٱلرِّجَالُ قَوَّـٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ فَٱلصَّـٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ وَٱلَّـٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا} (34)

قوله : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } هذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان العلة التي استحق بها الرجال الزيادة ، كأنه قيل : كيف استحق الرجال ما استحقوا مما لم تشاركهم فيه النساء ؟ فقال : { الرجال قَوَّامُونَ } الخ ، والمراد : أنهم يقومون بالذب عنهنّ ، كما تقوم الحكام والأمراء بالذبّ عن الرعية ، وهم أيضاً يقومون بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن ، وجاء بصيغة المبالغة في قوله : { قَوَّامُونَ } ليدّل على أصالتهم في هذا الأمر ، والباء في قوله : { بِمَا فَضَّلَ الله } للسببية والضمير في قوله : { بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } للرجال والنساء ، أي : إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل الله للرجال على النساء بما فضلهم به من كون فيهم الخلفاء والسلاطين والحكام والأمراء والغزاة ، وغير ذلك من الأمور . قوله : { وَبِمَا أَنفَقُوا } أي : وبسبب ما أنفقوا من أموالهم ، وما مصدرية ، أو موصولة ، وكذلك هي في قوله : { بِمَا فَضَّلَ الله } و " من " تبعيضية ، والمراد : ما أنفقوه في الإنفاق على النساء ، وبما دفعوه في مهورهنّ من أموالهم ، وكذلك ما ينفقونه في الجهاد ، وما يلزمهم في العقل .

وقد استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وغيرهما .

قوله : { فالصالحات } أي : من النساء { قانتات } أي : مطيعات لله قائمات بما يجب عليهنّ من حقوق الله ، وحقوق أزواجهنّ { حفظات للْغَيْبِ } أي : لما يجب حفظه عند غيبة أزواجهنّ عنهنّ من حفظ نفوسهنّ ، وحفظ أموالهم ، «وما » في قوله : { بِمَا حَفِظَ الله } مصدرية ، أي : بحفظ الله . والمعنى : أنهنّ حافظات لغيب أزواجهنّ بحفظ الله لهنّ ومعونته وتسديده ، أو حافظات له بما استحفظهنّ من أداء الأمانة إلى أزواجهن على الوجه الذي أمر الله به ، أو حافظات له بحفظ الله لهنّ بما أوصى به الأزواج في شأنهنّ من حسن العشرة ، ويجوز أن تكون «ما » موصولة ، والعائد محذوف .

وقرأ أبو جعفر : " بِمَا حَفِظَ الله " بنصب الاسم الشريف . والمعنى بما حفظن الله : أي : حفظن أمره ، أو حفظن دينه ، فحذف الضمير الراجع إليهنّ للعلم به ، و«ما » على هذه القراءة مصدرية ، أو موصولة ، كالقراءة الأولى ، أي : بحفظهن الله ، أو بالذي حفظن الله به .

قوله : { واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } هذا خطاب للأزواج ، قيل : الخوف هنا على بابه ، وهو حالة تحدث في القلب عند حدوث أمر مكروه ، أو عند ظنّ حدوثه ، وقيل المراد : بالخوف هنا العلم . والنشوز : العصيان . وقد تقدّم بيان أصل معناه في اللغة . قال ابن فارس : يقال : نشزت المرأة : استعصت على بعلها ، ونشز بعلها عليها : إذا ضربها وجفاها { فَعِظُوهُنَّ } أي : ذكروهنّ بما أوجبه الله عليهن من الطاعة ، وحسن العشرة ، ورغبوهنّ ، ورهبوهنّ ، { واهجروهن فِى المضاجع } يقال : هجره ، أي : تباعد عنه . والمضاجع : جمع مضجع ، وهو محل الاضطجاع ، أي : تباعدوا عن مضاجعتهنّ ، ولا تدخلوهنّ تحت ما تجعلونه عليكم حال الاضطجاع من الثياب ، وقيل : هو أن يوليها ظهره عند الاضطجاع ، وقيل : هو كناية عن ترك جماعها . وقيل : لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه { واضربوهن } أي : ضرباً غير مبرح . وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز ، وقيل : إنه لا يهجرها إلا بعد عدم تأثير الوعظ ، فإن أثر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر . وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ } كما يجب ، وتركن النشوز { فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } أي : لا تتعرضوا لهنّ بشيء مما يكرهن لا بقول ، ولا بفعل ، وقيل : المعنى : لا تكلفوهنّ الحبّ لكم ، فإنه لا يدخل تحت اختيارهنّ { إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب ، أي : وإن كنتم تقدرون عليهنّ ، فاذكروا قدرة الله عليكم ، فإنها فوق كل قدرة ، والله بالمرصاد لكم .

/خ34