فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلرِّجَالُ قَوَّـٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ فَٱلصَّـٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ وَٱلَّـٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا} (34)

{ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا ( 34 ) }

{ الرجال قوامون } مسلطون { على النساء } كلام مستأنف سيق لبيان سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث تفصيلا إثر بيان تفاوت استحقاقهم إجمالا ، وعلى ذلك بأمرين ( أولهما ) وهبي والثاني كسبي ، والمعنى أنهم يقومون بالذب عنهن كما يقوم الحكام والأمراء بالذب عن الرعية ، وهم أيضا يقومون بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن .

وجاء بصيغة المبالغة لتدل على أصالتهم في هذا الأمر ، وهو جمع قوام وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب ، يشير به إلى أن المراد قيام الولاة على الرعايا قال ابن عباس : أمروا عليهن فعلى المرأة أن تطيع زوجها في طاعة الله .

{ بما } الباء سببية وما مصدرية { فضل الله } والضمير في قوله { بعضهم على بعض } للرجال والنساء أي إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل الله إياهم عليهن بما فضلهم به من كون فيهم الأنبياء والخلفاء والسلاطين والحكام والأئمة والغزاة ، وزيادة العقل والدين والشهادة والجمعة والجماعات ، وأن الرجل يتزوج بأربع نسوة ولا يجوز للمرأة غير زوج واحد ، وزيادة النصيب والتعصيب في الميراث ، وبيده الطلاق والنكاح والرجعة وإليه الانتساب ، وغيره ذلك من الأمور ، فكل هذا يدل على فضل الرجال على النساء .

{ وبما أنفقوا } أي وبسبب الإنفاق وبما دفعوه في مهورهن { من أموالهم } وكذلك ما ينفقونه في الجهاد وما يلزمهم في العقل والدية ، وقد استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها ، وبه قال مالك والشافعي وغيرهما .

{ فالصالحات } أي المحسنات العاملات بالخير من النساء { قانتات } أي مطيعات لله بما يجب عليهن من حقوق الله وحقوق أزواجهن { حافظات للغيب } لما يجب حفظه عند غيبة أزواجهن عنهن من حفظ نفوسهن وفروجهن وحفظ أموالهن .

و { ما } في قوله { بما حفظ الله } مصدرية أي بحفظ الله إياهن ومعونته وتسديده أو حافظات له بما استحفظن من أداء الأمانة إلى أزواجهن على الوجه الذي أمر الله به ، أو حافظات له بحفظ الله لهن بما أوصى به الأزواج في شأنهن من حسن العشرة .

وقريء بما حفظ الله بنصب الاسم الشريف والمعنى بما حفظن أمر الله أو دينه فحذف الضمير الراجع إليهن للعلم به ، وما على هذه القراءة مصدرية أو موصلة كالقراءة الأولى ، أي بحفظهن الله أو بالذي حفظن الله به وقال السدي : تحفظ على زوجها ماله وفرجها حتى يرجع كما أمرها الله .

{ واللاتي تخافون نشوزهن } هذا خطاب للأزواج ، قيل الخوف هنا على بابه وهو حالة تحدث في القلب عند حدوث أمر مكروه أو عند ظن حدوثه ، وقيل المراد بالخوف هنا العلم ، والنشوز العصيان وقد تقدم بيان أصل معناه في اللغة .

قال ابن فارس : يقال نشزت المرأة استصعبت على بعلها ، ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها ، ودلالات النشوز تكون بالقول وبالفعل بأن رفعت صوتها عليه ولم تجبه إذا دعاها ، ولم تبادر إلى أمره إذا أمرها ، أو لا تخضع له إذا خاطبها أو لا تقوم له إذا دخل عليها .

{ فعظوهن } أي ذكروهن بما أوجبه الله عليهن من الطاعة وحسن المعاشرة ورغبوهن ورهبوهن إذا ظهر منهن أمارات النشوز وهو أن يقول لها اتقي الله وخافيه فإن لي عليك حقا ، وارجعي عما أنت عليه في المضجع كما قال تعالى :

{ واهجروهن في المضاجع } يقال هجره أي تباعد منه ، والمضاجع جمع مضجع وهو محل الاضطجاع أي تباعدوا عن مضاجعتهن ولا تدخلوهن تحت ما تجعلونه عليكم حال الاضطجاع من الثياب ، وقيل هو أن يوليها ظهره عند الاضطجاع في الفراش ، وقيل هو كناية عن ترك جماعها ، وقيل لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه .

{ واضربوهن } إن لم ينزعن بالهجران ضربا غير مبرح ولا شائن ، وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز ، وقيل حكم الآية مشروع على الترتيب وإن دل ظاهر العطف بالواو على الجمع لأن الترتيب مستفاد من قرينة المقام ، وسوق الكلام للرفق في إصلاحهن وإدخالهن تحت الطاعة .

فالأمور الثلاثة مرتبة أي لأنها لدفع الضرر كدفع الصائل فاعتبر فيها الأخف وقيل إنه لا يهجرها إلا بعد عدم تأثير الوعظ فإن أثر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر ، وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب ، وقال الشافعي : الضرب مباح وتركه أفضل ، وفي الجمل : إن كلا من الهجر والضرب مقيد بعلم النشوز ، ولا يجوز بمجرد الظن .

{ فإن أطعنكم } كما يجب وقمن لواجب حقكم وتركن النشوز { فلا تبغوا عليهن سبيلا } أي لا تتعرضوا لهن بشيء مما يكرهن لا بقول ولا بفعل ، وقيل المعنى لا تكلفوهن الحب لكم فإنه لا يدخل تحت اختيارهن { إن الله كان عليا كبيرا } إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب أو وإن كنتم تقدرون عليهن فاذكروا قدرة الله عليكم فإنها فوق كل قدرة وهو بالمرصاد لكم .

عن ابن عباس قال : تلك المرأة تنشز وتستخف بحق زوجها ولا تطيع أمره ، فأمره الله أن يعظها ويذكرها بالله ويعظم حقه عليها فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها ، وذلك عليها شديد فإن رجعت وإلا ضربها ضربا غير مبرح ولا يكسر لها عظما ولا يجرح لها جرحا فإن أطاعتك فلا تجني عليها العلل ، وعنه قال يهجرها بلسانه ويغلظ لها بالقول ولا يدع الجماع ، وسئل عن ضرب غير مبرح فقال : بالسواك ونحوه .

وقد أخرجه الترمذي وصححه النسائي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد خطبة الوداع مع رسول اله صلى الله عليه وسلم وفيها أنه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا{[465]} .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن زمعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم ) {[466]} .

وفي هذا دليل على أن الأولى ترك الضرب للنساء فإن احتاج فلا يوالي بالضرب على موضع واحد من بدنها وليتق الوجه لأنه مجمع لمحاسن ، ولا يبلغ بالضرب عشرة أسواط ، وقيل ينبغي أن يكون الضرب بالمنديل واليد ، ولا يضرب بالسواط والعصا{[467]} .

وبالجملة فالتخفيف بأبلغ شيء أولى في هذا الباب ، قيل حكم الآية مشروع على الترتيب مراعى عند خوف النشوز ، وأما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل والأول أولى ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته ) أخرجه أبو داود{[468]} .


[465]:الترمذي كتاب الرضاع.
[466]:ولطم رجل زوجته فاستعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخبر في الأصول كلها معزو لابن عباس، وقد بحثت في كتب "التفسير" فلم أجد أحدا عزاه إليه، ولا نقله عنه، وقد ذكره ابن جرير 7/291عن الحسن، وابن جريج، والسدي، وفي "الدر المنثور" 2/151، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أشعت بن عبد الملك، وعبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردوديه من طريق جرير بن حازم، عن الحسن. وأخرج ابن مردوديه عن علي قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم.
[467]:البخاري كتاب النكاح باب93.
[468]:وذكر ابن جرير8/291 عن الحسن وابن جريج والسدي، وفي الدر المنثور2/151 وابن أبي حاتم وعبد بن عبد الحميد وابن المنذر وغيرهم...عن علي أن رجلا لطم زوجته لطمة فاستعدت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت هذه الآية {الرجال قوامون}. ورواه الترمذي القرطبي5/173. ورواه أبو داود/التفاح/42.