وجه النَّظْم : أنَّ النِّسَاءَ لمّا تَكلَّمْنَ في تَفْضيل [ الله ] الرِّجال{[7726]} عليهن في الميراثِ ؛ بيَّن في هذه الآيَةِ أنَّهُ إنَّمَا فضَّل الرِّجَال على النِّسَاءِ في الميراث ؛ لأنَّ الرِّجالَ قوَّامون على النساء{[7727]} ؛ فهم وإن اشْترَكُوا في اسْتِمْتَاعِ كُلّ واحدٍ منهم بالآخر ، فاللَّهُ أمَرَ الرِّجَالَ بالْقِيَامِ عليهنَّ والنفقة ، ودفع المَهْرِ إليهنَّ .
وَالْقَوَّامُ ، والقَيِّمُ{[7728]} بمعنى واحد ، والقوام أبْلَغُ ، وهو القيم{[7729]} بالمصالح ، والتَّدْبِيرِ ، والتَّأدِيبِ ، والاهتمام بالْحِفْظِ .
قال مُقَاتِلٌ : " نزلت في سَعْد بْنِ الرَّبيعِ ، وكان من النقباء وفي امرأته حبيبةَ بِنْتِ [ زَيْدِ ابْنِ خارجة بن أبي زهير ] .
وقال ابْنُ عَبَّاس ، والكلْبِيُّ : " امرأته عَميرَةُ بِنْتُ محمد بْن مَسْلَمةَ ، وذلك أنَّها نَشَزَتْ عليه ، فَلَطَمَهَا ، فانْطلقَ أبُوها معها إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفَرْشْتُهُ كريمَتِي فلطمَهَا ، وإنَّ أثَرَ اللَّطْمَةِ بَاقٍ في وَجْهِهَا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اقتصِّي منه ثم قال : اصبري حتى أنظر ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبي عليه السلام : أردْنَا أمراً ، وأرَادَ اللَّهُ أمْراً ، والَّذِي أرَادَ اللَّهُ خَيْر ، ورَفَعَ الْقِصَاصَ " {[7730]} .
قوله : { عَلَى النِّسَاءِ } متعلق ب { قَوَّامُونَ } وكذا " بما " والباء للسَّبَبيَّةِ ، ويجوز أن تكُونَ لِلْحَالِ ، فتتَعلَّق بِمحذُوفٍ ؛ لأنَّهَا حَالٌ من الضَّميرِ في { قَوَّامُونَ } تقديره : مُسْتَحِقِّينَ بتفضيل اللِّهِ إيَّاهُمْ ، و " مَا " مَصْدَريَّةٌ ، وقيل : بمعنى الَّذِي ، وهو ضعيفٌ لحذف العائِدِ من غَيْرِ مُسَوِّغ .
والبعضُ الأوَّلُ المُرادُ به الرِّجالُ ، والبَعْضُ الثَّاني : النسَاءُ ، وعَدلَ عَنِ الضَّميريْن فلم يَقُل : بما فَضَّلَهم اللَّهُ عَلَيْهِنَّ ، للإبهام الذي في بَعْض .
فصل في دلالة الآية على تأديب النساء
دَلَّت الآيةُ عَلَى تأديبِ الرِّجَالِ نساءهم ، فإذا حَفِظْنَ حُقُوقَ الرِّجَالِ ، فلا يَنْبَغِي أن يُسِيءَ الرِّجُلُ عِشْرَتَها .
اعلم أنَّ فَضْلَ الرِّجَالِ على النِّسَاءِ من وُجُوهٍ كثيرةٍ ؛ بعضها صفات حقيقيَّة ، وبعضها أحْكَامٌ شرْعيَّةٌ ، فالصِّفَاتُ الحقيقيَّة [ أن ]{[7731]} عُقُولَ الرِّجَالِ وعُلُومَهُم أكْثَر ، وقُدْرَتهم على الأعْمَالِ الشَّاقَّة أكْمَل ، وفيهم كذَلِكَ من الْعَقْلِ والْقُوَّةِ والكِتَابَةِ في الغالب والفُرُوسيَّةِ ، والرَّمْي ، وفيهمُ العُلَمَاءُ ، والإمَامَةُ الكُبْرَى [ والصغرى ]{[7732]} ، والجهادُ والأذانُ ، والخطبةُ ، والجمعةُ ، والاعْتِكَافُ ، والشَّهَادَةُ على{[7733]} الحدود والقِصَاص ، وفي الأنْكِحَةِ عند بعضِهِم ، وزيادة نصيب الميراث ، والتَّعْصيب ، وتحمل الدِّية في قتل الخَطَأ ، وفي القَسَامَةِ ، وفي ولايةِ النِّكَاحِ ، والطَّلاقِ ، والرَّجْعَةِ ، وعَدَدِ الأزْوَاجِ ، وإليهم الانتساب .
وأمّا الصِّفَاتُ الشَّرعيَّةُ فقوله تعالى : { وَبِمَا أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } والمرادُ : عطية المَهْرِ ، والنَّفَقَة عليها ، وكُلُّ ذلك يَدُلُّ على فَضْل الرِّجَالِ على النِّسَاءِ .
قوله تعالى : { وَبِمَا أَنْفَقُواْ } يَتَعَلَّقُ بما تَعَلَّق به الأوَّلُ ، و " مَا " يَجُوزُ أنْ تكُونَ بمعنى " الّذِي " من غير ضَعْفٍ ؛ لأنَّ للحذف مسوِّغاً ، أي : { وبما أنفقوه من أموالهم } .
{ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } متعلّق ب { أَنْفَقُواْ } ، أو بمحذوف على أنَّهُ حال من الضَّمير المحذُوف .
قال القُرْطبِيُّ{[7734]} : قوله : { وَبِمَا أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } يدلُّ على أنَّهُ متى عجز عن نَفَقَتِهَا ، لم يَكُن قوَّاماً عليها [ وإذا لم يكن قوّاماً ] كان لها فَسْخُ العَقْدِ ؛ لزوال المَقْصُودِ الَّذي شُرع لأجْلِهِ النِّكَاحُ ، فدلَّ ذلك على ثبوت فَسْخِ النِّكَاحِ عند الإعسار بالنَّفَقَةِ ، والكِسْوَةِ ، وهذا مَذْهَبُ مَالِكٍ والشَّافعيّ ، وأحْمدَ .
وقال أبو حنيفة : لا يُفْسَخُ لقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ }
قوله : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ [ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } ] {[7735]} " الصَّالحات " مبتدأ ، وما يَعْدَهُ خبران لَهُ ، و " للغيب " مُتعلِّق ب " حَافظاتٌ " و " أل " في " الغيب " عوض من الضَّميرِ عند الكُوفييِّنَ كقوله : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } [ مريم : 4 ] ، أي : رأسي وقوله : [ البسيط ]
ب- لميَاءُ في شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ *** وَفِي اللِّثَاتِ وفِي أنْيَابِهَا شَنَبُ{[7736]}
والجمهور على رفع الجلالةَ من { حَفِظَ اللَّهُ } وفي " مَا " على هذه القراءة ثلاثَةُ أوْجُه :
أحدُهَا : أنَّهَا مَصْدَريَّةٌ ، والمعنى : بحظ اللَّه إيَّاهُنَّ أي : بتوفيقه لهن ، أو بالوصيَّةِ منه تعالى عليهنَّ .
والثاني : أن تكُونَ بمعنى الذي ، والعَائِدُ محذوفٌ ، أي : بالَّذي حفظه اللَّهُ لَهُنَّ مِنْ مُهُورِ أزواجهِنَّ ، والنّفقة{[7737]} عليهن ، قاله الزَّجَّاجُ .
والثَّالِثُ : أن تكُونَ " مَا " نكرة موصوفة ، والعَائِدُ محذوفٌ أيضاً ، كما تقرَّرَ في المَوْصُولَةِ ، بمعنى الَّذِي .
وقرأ أبُو جَعْفَرٍ{[7738]} بنصب الجَلاَلَةِ . وفي " مَا " ثلاثة أوجه أيضاً :
أحدُهَا : أنَّها بمعنى الَّذِي .
والثَّانِي : [ أنها ]{[7739]} نكرةٌ موصُوفَةٌ ، وفي { حَفِظَ } ضمير يعُودُ على [ " ما " ]{[7740]} أي : بما حفظ من البرِّ والطَّاعَةِ ، ولا بدّ من حَذْفِ مضافٍ تقديره : بما حَفِظَ دين اللَّه ، أو أمر اللَّه ؛ لأنَّ الذَّات المقدَّسة لا يحفظها أحَدٌ .
والثَّالِثُ : أنْ تكُونَ " مَا " مَصْدريَّة ، والمعنى : بما حفظن اللَّه في امتثال أمره ، وَسَاغَ عَوْدُ الضَِّميرِ مُفْرَداً على جَمْعِ الإنَاثِ ؛ لأنَّهُنَّ في معنى الجنس كأنه قيل : " فمن صلح " فَعَاد الضَّميرِ مُفْرداً بهذا الاعتبارِ ، ورُدَّ هذا الوجه بِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الضَّميرِ لما يعودُ عليه{[7741]} وهذا جوابه ، وجعله ابْنُ جِنّي مثل قول الشَّاعِرِ : [ المتقارب ]
. . . *** فإنَّ الحَوَادِثِ أوْدَى بِهَا{[7742]}
أي : أوْدَيْنَ ، وَيَنْبَغِي أن يُقَالَ : الأصْلُ بما حفظت اللَّه ، والحوادث أوْدَتْ ، لأنَّهَا يَجُوزُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى [ جمع ]{[7743]} الإنَاثِ كَعَوْدِهِ عَلَى الوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ ، تقول : النِّسَاءُ قَامَتْ ، إلاَّ أنَّهُ شَذَّ حذفُ تَاءِ التَّأنيثِ مِنَ الْفِعْلِ المُسْندِ إلى ضَميرِ المُؤنَّثِ .
وقرأ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودِ{[7744]} - وهي في مُصْحَفِهِ كَذَلِكَ - " فالصوالح قوانت حوافظ " بالتكسير .
قال ابْن جني{[7745]} : وهي أشْبَهُ بالمَعْنَى لإعطائِهَا الكَثْرَة ، وَهِيَ المَقْصُودَةُ هُنَا ، يعني : أن " فَوَاعِل " من جُمُوعِ الكَثْرَةِ ، وجمع التَّصحيح جمع قلَّةٍ ، ما لم تَقْتَرِنْ بالألف واللاَّمِ . وظاهِرُ عِبَارَةَ أبِي البَقَاءِ{[7746]} أنه لِلقِلَّةِ ، وَإنْ اقْتَرَنَ ب " أل " فإنَّهُ قال : وجمع التَّصحيح لا يدلّ على الكثرة بوضعِهِ ، وقد استعمل فيها كقوله تعالى : { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ }
وفيما قالهُ [ أبُو الفتح ]{[7747]} وأبُو البقاءِ نَظَرٌ ، فإنَّ " الصَّالِحات " في القراءةِ المَشْهُورَةِ مُعَرَّفَةٌ بِأل ، وقَد تَقَدَّمَ أنَّه تكُونُ لِلْعُمُومِ ، إلاَّ أنَّ العموم المفيد للكثرة ، ليس مِنْ صيغَةِ الجَمْعِ ، بل مِنْ " ألْ " ، وإذا ثَبَتَ أن " الصَّالِحَاتِ " جمع كَثْرَةٍ ، لَزِمَ أنْ يكُونَ " قَانِتَات " و " حَافِظَات " للكثرة ؛ لأنَّهُ خبرٌ عن الجميعِ ، فَيُفِيدُ الكَثْرَةَ ، ألا تَرَى أنَّكَ إذا قلت : الرِّجَالُ قَائِمُونَ ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ قَائِماً ، ولا يجوز أن يكُونَ بعضُهم قاعداً ، فإذاً القراءةُ الشَّهيرةُ وافيةٌ بالْمعنى [ المقصود ]{[7748]} .
قال الواحديُّ{[7749]} : لفظ القنُوتِ يُفيدُ : الطَّاعَةَ ، وَهُوَ عَامٌّ في طَاعَةِ اللَّهِ ، وطاعة الأزْوَاجِ ، وما حَالُ المرأةِ عِنْدَ غَيْبَةِ الزَّوْجِ فقد وصفها اللَّهُ بقوله : { قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ } ، واعْلَمْ أنَّ الغيب ، خلاف الشَّهَادَةِ ، والمعنى : كَوْنُهنَّ حافِظَاتٌ بموجب الغَيْب ، وهو أنْ تَحْفَظَ نَفْسَهَا عن الزِّنَا ؛ لئلا يلحق الزَِّوْج الغَائب عار الزِّنَا ، ويلحقُ به الوَلَد المتكون من نُطْفَةِ غيرِهِ ، وتحفظ ماله لئلا يضيع{[7750]} ، وتحفظ مَنْزِلَهُ عَمَّا لا يَنْبَغِي ، قال عليه السَّلامُ : " خَيْرُ النِّسَاءِ امرأةٌ إن نَظَرْتَ إلَيْهَا سَرَّتْكَ ، وَإنْ أمرتها أطاعَتْكَ ، وإنْ غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ في مَالِكَ{[7751]} ونفسها " وتلا هذه الآية .
قوله : { وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } لما ذكر الصالحات ذكر بعده غير الصَّالحات فقال : { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهنّ } والخَوْفُ عِبَارَةٌ عَن حَالَةٍ تَحْصُلُ في القَلْبِ ، عند حُدُوثِ أمر مَكْرُوهٍ في المُسْتَقْبل .
قال الشَّافِعيُّ - رضي الله عنه - : دَلالَةُ النُّشوُزِ قَدْ تكُونُ قَوْلاً ، وقد تكُونُ فِعْلاً ، فالقول مثل أن تلبيه إذا دَعَاهَا ، وتخْضَعُ لَهُ بالقَوْلِ إذَا خَاطَبَهَا ثُم تغيَّرتْ ، والفِعْلُ إن كَانَتْ تَقومُ إلَيْهِ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا ، أوْ تُسارعُ إلى أمره{[7752]} وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها ، ثم [ إنها ]{[7753]} تغيرت عَنْ كل ذلك ، فهذه إمارَاتٌ دالةٌ على النُّشوزِ ، فحينئذٍ ظنَّ نُشُوزهَا ، فهذه المقدمَاتُ تُوجِبُ خَوْفَ النُّشُوزِ ، وأمّا النشوز فهو معصية{[7754]} الزَّوْج ، ومُخَالَفَتَهُ ، وأصْلُهُ مِنْ قولهم : نَشَزَ الشّيْءُ إذا ارتفع ، ومنه يُقالُ للأرضِ المرتفعة : " نَشَزٌ " ، يُقَالُ : نَشَزَ الرَّجُلُ ينشِز [ وينشُز ]{[7755]} إذا كان قاعداً فَنَهض قَائِماً ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللَّهُ } [ المجادلة : 11 ] ارتفعوا أو انهضوا إلى حرب أو أمر من أمور اللَّهِ تعالى .
وقال أبُو منْصُورٍ اللُّغَويُّ : " النُّشُوزُ كرَاهِيَةُ كُل واحد من الزَّوْجَيْنِ صاحِبَهُ ، يقال : نَشَزَتْ تَنْشُزُ ، فهي نَاشِزٌ بغير هاء ، وهي السَّيِّئَةُ العِشْرَةِ " .
وقال ابْنُ دُرَيْدٍ : " نَشَزَتْ المرْأةُ ، وَنَشَسَتْ ، ونَشَصَتْ بمعنى واحد " .
قوله : " فعظوهنّ " ، أي : بالتخويف{[7756]} من اللَّه تعالى ، فَيُقَالُ : اتَّقي الله فإنَّ عليك حقّاً لي ، وارجعي عمّا أنْت عليه ، واعْلَمِِي أنَّ طاعتي فرضٌ عليك{[7757]} ، فإنْ أصرَّت على النُّشوزِ ، فيهجرها في المَضْجَعِ .
قال ابْنُ عَبَّاسٍ : يوليها ظَهْرَهُ في الفِرَاشِ ، ولا يُكَلِّمُها " {[7758]} .
وقال غيره : " يَعْتَزِلُ عَنْهَا إلى فِرَاشٍ آخر " .
قال الشَّافعيُّ : " ولا يزيد في هجره في الكلام على ثَلاثٍ ، فإذَا هجرها في المَضْجَع ، فإن{[7759]} كانت تَبْغَضُه ، وافقها ذلك الهجران ، فيكونُ ذلك دليلاً على كمال النُّشوزِ " .
ومنهم من حَمَلَ الهِجْرَانَ في المَضَاجِعِ على تَرْكِ المُبَاشَرَةِ .
وقال القرطبي : وقيل : اهْجرُوهُنَّ مِنَ الهُجْرِ ، وهو القَبيحُ من الكَلاَمِ ، أي : غلظُوا عليْهِنَّ فِي القَوْلِ ، وضاجعوهن للجماع وغيره و [ قال ]{[7760]} معناه سفيان [ الثَّوْرِي ]{[7761]} ، وروي عن ابْن عَبَّاسٍ .
وقيل : شدّوهن [ وثاقاً ]{[7762]} في بيوتهن ، من قولهم : هجر البعيرَ ، أي : ربطه بالهجار{[7763]} ، وهو حَبْلٌ يُشَدُّ به البعيرُ ، وهذا اختِيارُ الطَّبري ، وقدح في سائر الأقْوالِ ، ورَدَّ عليه القاضِي أبُو بَكْرٍ بْن العَرَبِيّ وقال : " يا لها من هَفْوَة عالمٍ بالقرآن والسُّنَّةِ ، والَّذي حملَهُ على [ هذا ]{[7764]} التأويلِ حديثٌ غريبٌ ، رواه ابْنُ وهب عن مالكٍ : أنَّ أسْمَاءَ بنتَ أبي بكر الصّديق امرأةَ الزُّبَيْرِ بنِ العَوّامِ كانت قد نَشَزَتْ على زوجها فقد شعر واحدة بالأخْرَى ثم ضَرَبَهَا " الحديث .
فرأى الرَّبط والعقد ، مع احْتِمَالِ اللَّفْظِ ، مع فعل الزُّبَيْرِ ، فأقدم على هذا التَّفْسيرِ " .
قال القرطبيُّ{[7765]} : وهذا الهَجْرُ غَايَتُهُ عِنْدَ العُلَمَاءِ شهر ، كما فعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حين أسَرَّ إلى حَفْصَة حديثاً ، فأفشته إلى عَائِشَةَ - رضي الله عنها - .
قوله : { فِي الْمَضَاجِعِ } فيه وجهان :
أحدها : أنَّ " في " على بابها من الظرفيَّةِ متعلّق ب { اهْجُرُوهُنَّ } أي : اتركوا مضاجعتهن ، أي : النَّوْمَ مَعْهُنَّ دون كلامِهِنَّ ومؤاكلتهنَّ .
والثَّاني : أنها للِسَّبَبِ . قال أبُو البقاءِ{[7766]} : { وَاهْجُرُوهُنَّ } بسبب المضاجع ، كما تَقُولُ : في هذه الجِنَايَةِ عُقُوبَةٌ ، وجعل مكي{[7767]} هذا الوجه مُتَعَيِّناً ، ومنع الأول ، قال : ليس { فِي الْمَضَاجِعِ } ظرفاً للهجران ، وإنَّمَا هو سَبَبٌ لِهِجْرَانِ التَّخَلُّفِ ، ومعناه : فاهجروهنّ من أجل تخلفهن عن المُضاجَعَةِ{[7768]} معكم ، وفيه نَظَرٌ لا يخفى .
وكلام الوحِدِي يُفْهِم أنَّهُ يجوزُ تعلَّقه ب { نُشُوزَهُنَّ } ، فإنه{[7769]} قال - بعدما حكى عن ابْنِ عَبَّاسٍ كلاماً - : والمعنى على هذا : " واللاتي تخافون نشوزهن في المضاجع " ، والكلامُ الذي حَكاهُ عن ابن عباس هو قوله : هذا كُلُّهُ في المَضْجَعِ ، إذا هي عَصَتْ أن تَضْطَجِعَ مَعَهُ ، ولكن لا يجوزُ ذلك ؛ لئلاّ يلزمَ الفَصْلُ بين المَصْدَرِ ومعموله بأجنبيّ .
وقدّر بعضهم مَعْطُوفاً بعد قوله : " واللاتي تخافون " ، أي : واللاتي تخافون نشوزهن ، ونَشَزْنَ ، كأنَّهُ يريد أنَّهُ لا يجوُزُ الإقدام على الوَعْظِ ، وما بعده بِمُجَرَّدِ الخَوْفِ .
وقيل : لا حَاجَةَ إلى ذلك ؛ لأنَّ الخَوْفَ بمعنى اليقين [ قال تعالى { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } [ البقرة : 182 ] ، قال ابن عباسٍ : تخافون بمعنى تتيقّنون ]{[7770]} ، وقيل : غلبة الظنِّ في ذلك كافِيَةٌ .
قوله : { وَاضْرِبُوهُنَّ } يعني : أنَّهُنّ [ إن ]{[7771]} لم ينزعن مع الهجران فاضربُوهُنَّ ، يعني ضرباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، ولا شَائِنٍ .
قال عَطَاءٌ : " [ هو ]{[7772]} ضَرْب بالسِّواكِ " .
وقال عليه السَّلامُ في حقّ المرْأةِ : " أنْ تُطْعِمَهَا إذَا طَعِمَتْ ، وتكسوها إذا اكْتَسَيت{[7773]} ، ولا تضرب الوَجْهَ ، ولا تهجر إلاَّ في البَيْتِ " {[7774]} .
قال الشافِعيُّ : يكُونُ دون الأرْبَعينَ .
وقال بعضُهُم : لا يَبْلغُ به عِشْرِينَ ، لأنَّهُ حدٌّ كامِلٌ في حَقِّ العبد ، ويكونُ بحيث لا يُفْضي إلى الهَلاَكِ ، ويَكُونُ مفرقاً{[7775]} على بدنها ، ولا تجوزُ الموالاة{[7776]} في مَوضعٍ واحدٍ ، ويتقي الوجه .
قال بعضُ العُلَمَاءِ : يكُونُ الضَّرْبُ بمنديلٍ مَلْفُوفٍ ، أو بِيَدِهِ ، ولا يَضْرِبُهَا بالسِّياطِ ، ولا بالعَصَا ، وبالجملة فالتَّخفيفُ مراعى في هَذَا البَابِ .
قال الشَّافعيُّ : " الضَّرْبُ مُبَاحٌ وتركُهُ أفْضَلُ " .
واختلفوا : هل هذا الحُكْمُ على الترتيبِ ، أم لا ؟ قال عَلِيُّ بْنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - : يَعِظُهَا بِلِسَانِهِ ، فإنْ أبَتْ هَجَرَهَا فِي المَضْجَعِ [ فإن أبَتْ ضَرَبَهَا ]{[7777]} ، فإن لم تَتَّعِظْ بالضَّرْبِ بَعَثَ الحكم [ مِنْ أهْلِهِ ]{[7778]} .
وقال آخرون{[7779]} : هذا الترتيب مراعى عند خَوْف النُّشُوزِ أمّا عند تحقق النشوز ، فلا بأس بالجمع بين الكُلِّ .
قوله : " [ فإن أطعنكم ]{[7780]} فلا تبغوا عليهن سبيلاً " في نَصْبِ " سبيلاً " وجْهَانٍ :
أحدهما : أنه{[7781]} مفعول به .
والثَّانِي : أنَّهُ على إسْقَاطِ الخَافِضِ ، وهذان الوَجْهَانِ مبنيان على تفسِير البَغْي هنا ما هو ؟ فقيل : هو الظٌّلْمُ من قوله : { فَبَغَى عَلَيْهِمْ } [ القصص : 76 ] ، فعلى هذا يَكُونُ لازِماً ، و " سبيلاً " منصوب بإسْقَاطِ الخَافِضِ أي : كسبيل .
وقيل : هو الطَّلب ، من قولهم : بَغَيْتُه ، أي : طلبته ، وفي { عَلَيْهِنَّ } وجهان :
أحدهما : أنه متعلّق ب { تَبْغُواْ } .
والثَّاني : أنَّهُ مُتَعَلِّق بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من { سَبِيلاً } ، لأنه في الأصلِ صفة النكرة قُدِّم{[7782]} عليها .
قال بعضُهُم : معناه : لا تتجنّوا عليهنَّ بقولٍ ، أو فِعْل . قال ابْنُ عيينَةَ لا تكلِّفوهُنَّ محبتكم ، فإنَّ القلب ليس بأيديهن ، ثم قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } مُتعالياً عن أنْ يكلّف العبادَ ما لا يُطيقُونَهُ ، فلذلك لا تُكلفوهنّ محَبَتَكُم ، فإنهن لا يطقنَ ذِلكَ{[7783]} .
وقيل : إنَّهُ مع عُلُوِّهِ ، وكبريائه لا يُؤاخِذُ العَاصي إذَا تَابَ ، فأنتم أولى إذا تابت المرأةُ من نُشُوزِهَا بأن تقبلوا تَوْبَتَهَا ، وقيل : إنَّهُنَّ إن وضعفن عن دَفْعِ ظلمكم{[7784]} فاللَّهُ سبحانه كبيرٌ عليٌّ [ قادر ]{[7785]} قاهر يَنْتَصِفُ لَهُنَّ مِنْكُمْ .