{ قال فاذهب فإن لك في الحياة } عقوبة على ما فعلت . { أن تقول لا مساس } خوفا من أن يمسك أحد فتأخذك الحمى ومن مسك فتتحامى الناس ويتحاموك وتكون طريدا وحيدا كالوحش النافر ، وقرئ { لا مساس } كفجار وهو علم للمسة . { وإن لك موعدا } في الآخرة . { لن تخلفه } لن يخلفكه الله وينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك في الدنيا ، وقرأ ابن كثير والبصريان بكسر اللام أي لن تخلف الواعد إياه وسيأتيك لا محالة ، فحذف المفعول الأول لأن المقصود هو الموعد ويجوز أن يكون من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا ، وقرئ بالنون على حكاية قول الله . { وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا } ظللت على عبادته مقيما فحذف اللام الأولى تخفيفا ، وقرئ بكسر الظاء على نقل حركة اللام إليها لنحرقنه أي بالنار ويؤيده قراءة { لنحرقنه } أو بالمبرد على أنه مبالغة في حرق إذ برد بالمبرد ويعضده قراءة { لنحرقنه } . { ثم لننسفنه } ثم لنذرينه رمادا أو مبرودا وقرىء بضم السين . { في اليم نسفا } فلا يصادف منه شيء والمقصود من ذلك زيادة عقوبته وإظهار غباوة المفتتنين به لمن له أدنى نظر .
لم يزد موسى في عقاب السامريّ على أن خلعه من الأمّة ، إما لأنّه لم يكن من أنفسهم فلم يكن بالذي تجري عليه أحكام الشريعة ، وإما لأنّ موسى أعلم بأن السامري لا يرجى صلاحه ، فيكون ممن حقّت عليه كلمة العذاب ، مثل الذين قال الله تعالى فيهم : { إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 96 ، 97 ] ، ويكون قد أطلع الله موسى على ذلك بوحي أو إلهام ، مثل الذي قاتل قتالاً شديداً مع المسلمين ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما إنه من أهل النّار " ، ومثل المنافقين الذين أعلم الله بهم محمداً صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم حذيفة بن اليمان ببعضهم .
فقوله { فَاذْهَبْ } الأظهر أنه أمر له بالانصراف والخروج من وسط الأمّة ، ويجوز أن يكون كلمة زجر ، كقوله تعالى : { قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنّم جزاؤكم } [ الإسراء : 63 ] ، وكقول الشاعر مما أنشده سيبويه في « كتابه » ولم يعزه :
فاليوم قَرّبْتَ تهجونا وتشتمنا *** فاذْهَبْ فما وبك لأيام من عجب
ويجوز أن يكون مراداً به عدم الاكتراث بحاله كقول النبهاني من شعراء « الحماسة » :
فإن كنتَ سيدنا سُدْتَنا *** وإن كنت للخَال فاذْهَب فَخَلْ
أما قوله { فَإنَّ لَكَ في الحَيَاةِ أن تَقُولَ لا مِساس وإنَّ لكَ مَوْعِداً لَن تُخْلفَهُ } فهو إخبار بما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة ، فجعل حَظه في حياته أن يقول لا مِساس ، أي سلبه الله الأُنس الذي في طبع الإنسان فعوضه به هوساً ووسواساً وتوحشاً ، فأصبح متباعداً عن مخالطة الناس ، عائشاً وحده لا يترك أحداً يقترب منه ، فإذا لقيه إنسان قال له : لا مساس ، يخشى أن يمسه ، أي لا تمسني ولا أمسك ، أو أراد لا اقتراب مني ، فإن المس يطلق على الاقتراب كقوله { ولا تمسوها بسوء } [ هود : 64 ] ، وهذا أنسب بصيغة المفاعلة ، أي مقاربة بيننا ، فكان يقول ذلك ، وهذه حالة فظيعة أصبح بها سخرية .
ومِساس بكسر الميم في قراءة جميع القراء وهو مصدر ماسّهُ بمعنى مسه ، و ( لا ) نافية للجنس ، و { مساس اسمها مبني على الفتح .
وقوله وإنَّ لكَ مَوعِداً } اللام في { لَكَ } استعارة تهكمية ، كقوله تعالى : { وإن أسأتم لها } [ الإسراء : 7 ] أي فعليها . وتوعده بعذاب الآخرة فجعله موعداً له ، أي موعد الحشر والعذابِ ، فالموعد مصدر ، أي وعد لا يخلف { وعد الله لا يخلف الله وعده } [ الروم : 6 ] . وهنا توعُّد بعذاب الآخرة .
وقرأ الجمهور { لن تُخلَفه } بفتح اللاّم مبنيّاً للمجهول للعلم بفاعله ، وهو الله تعالى ، أي لا يؤخره الله عنك ، فاستعير الإخلاف للتأخير لمناسبة الموعد .
وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب بكسر اللام مضارع أخْلَف وهمزته للوجدان . يقال : أخلف الوعد إذا وجده مُخْلَفاً ، وإما على جعل السامريّ هو الذي بيده إخلاف الوعد وأنه لا يخلفه ، وذلك على طريق التهكم تبعاً للتهكم الذي أفاده لام الملك .
وبعد أن أوعد موسى السامريّ بيّن له وللذين اتبعوه ضلالهم بعبادتهم العجل بأنه لا يستحق الإلهيّة لأنّه معرّض للامتهان والعَجز ، فقال : { وانْظُر إلى إلهك الَّذِي ظَلتَ عليهِ عاكِفاً لنُحرِقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ في الْيَمِ نَسْفاً } . فجعَل الاستدلال بالنظر إشارة إلى أنه دليل بيّن لا يحتاج المستدل به إلى أكثر من المشاهدة فإن دلالة المحسوسات أوضح من دلالة المعقولات .
وأضاف الإله إلى ضمير السامريّ تهكماً بالسامريّ وتحقيراً له ، ووصف ذلك الإله المزعوم بطريق الموصولية لما تدلّ عليه الصلة من التنبيه على الضلال والخطأ ، أي الذي لا يستحق أن يعكف عليه .
وقوله { ظلتَ } بفتح الظاء في القراءات المشهورة ، وأصله : ظَلَلْتَ : حذفت منه اللام الأولى تخفيفاً من توالي اللاميْن وهو حذف نادر عند سيبويه وعند غيره هو قياس .
وفعل ( ظلّ ) من أخوات ( كان ) . وأصله الدلالة على اتصاف اسمه بخبره في وقت النّهار ، وهو هنا مجاز في معنى ( دام ) بعلاقة الإطلاق بناء على أنّ غالب الأعمال يكون في النّهار .
والعكوف : ملازمة العبادة وتقدم آنفاً . وتقديم المجرور في قوله { عَلَيْهِ عَاكِفَاً } للتخصيص ، أي الذي اخترته للعبادة دون غيره ، أي دون الله تعالى .
وقرأ الجمهور { لنُحرِّقنَّه } بضم النون الأولى وفتح الحاء وكسر الراء مشددة . والتحريق : الإحراق الشديد ، أي لنحرقنه إحراقاً لا يدع له شكلاً . وأراد به أن يذيبه بالنّار حتى يفسد شكله ويصير قِطَعاً .
وقرأ ابن جمّاز عن أبي جعفر { لنُحْرِقنه بضم النّون الأولى وبإسكان الحاء وتخفيف الراء . وقرأه ابن وَردان عن أبي جعفر بفتح النون الأولى وإسكان الحاء وضم الراء لأنّه يقال : أحرقه وحرّقه .
والنسف : تفريقٌ وإذراء لأجزاء شيء صلب كالبناء والتراب .
وأراد باليمّ البحر الأحمر المسمى بحر القلزم ، والمسمى في التوراة : بحْرَ سُوف ، وكانوا نازلين حينئذ على ساحله في سفح الطور .
و ( ثم ) للتّراخي الرتبي ، لأن نسف العجل أشد في إعدامه من تحريقه وأذل له .
وأكد ننسِفَنّه بالمفعول المطلق إشارة إلى أنه لا يتردد في ذلك ولا يخشى غضبه كما يزعمون أنّه إله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال فاذهب فإن لك في الحياة} إلى أن تموت {أن تقول لا مساس} يعنى لا تخالط الناس {وإن لك} في الآخرة {موعدا} يعني: يوم القيامة {لن تخلفه} يقول: لن تغيب عنه {وانظر إلى إلهك} يعنى العجل {الذي ظلت عليه عاكفا} يقول: أقمت عليه عابدا له {لنحرقنه} بالنار {ثم لننسفنه في اليم نسفا}، يقول: لننبذنه في اليم نبذا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال موسى للسامريّ: فاذهب فإن لك في أيام حياتك أن تقول:"لا مساس": أي لا أَمسّ، ولا أُمسّ.. وذُكر أن موسى أمر بني إسرائيل أن لا يؤاكلوه، ولا يخالطوه، ولا يبايعوه، فلذلك قال له: إن لك في الحياة أن تقول لا مساس...
وقوله: "وَإنّ لَكَ مَوْعِدا لَنْ تُخْلَفَهُ "اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة "لَنْ تُخْلَفَهُ "بضم التاء وفتح اللام بمعنى: وإن لك موعدا لعذابك وعقوبتك على ما فعلت من إضلالك قومي حتى عبدوا العجل من دون الله، لن يخلفكه الله، ولكن يذيقكه. وقرأ ذلك الحسن وقَتادة وأبو نهيك: «وَإنّ لَكَ مَوْعِدا لَنْ تُخْلِفَهُ» بضمّ التاء وكسر اللام، بمعنى: وإن لك موعدا لن تخلفه أنت يا سامريّ، وتأوّلوه بمعنى: لن تغيب عنه...
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، لأنه لا شكّ أن الله موف وعده لخلقه بحشرهم لموقف الحساب، وأن الخلق موافون ذلك اليوم، فلا الله مخلفهم ذلك، ولا هم مخلفوه بالتخلف عنه، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في ذلك.
وقوله: "وَانْظُرْ إلى إلهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفا" يقول: وانظر إلى معبودك الذي ظلت عليه مقيما تعبده...
وقوله: "لَنُحَرَقَنّهُ"... بمعنى لنحرقنه بالنار قطعة قطعة... وقوله:"ثُمّ لَنَنْسِفَنّهُ فِي اليَمّ نَسْفا "يقول: ثم لنذرّينه في البحر تذرية يقال منه: نسف فلان الطعام بالمنسف: إذا ذراه فطير عنه قشوره وترابه باليد أو الريح...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضاً، وإذا اتفق أن يماس أحداً رجلاً أو امرأة، حم الماس والممسوس، فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصيح: لا مساس، وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم، ومن الوحشي النافر في البرية.
ثم إن موسى عليه السلام لما سمع ذلك من السامري أجابه بأن بين حاله في الدنيا والآخرة وبين حال إلهه؛ أما حاله في الدنيا فقوله: {فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس} وفيه وجوه:
أحدها: أن المراد: أني لا أمس ولا أمس قالوا: وإذا مسه أحد حم الماس والمسوس فكان إذا أراد أحد أن يمسه صاح خوفا من الحمى وقال: لا مساس.
وثانيها: أن المراد بقوله: {لا مساس} المنع من أن يخالط أحدا أو يخالطه أحد... والمعنى إني أجعلك يا سامري في المطرودية بحيث لو أردت أن تخبر غيرك عن حالك لم تقل إلا أنه لا مساس وهذا الوجه أحسن وأقرب إلى نظم الكلام من الأول...
وأما شرح حاله في الآخرة فهو قوله: {وإن لك موعدا لن تخلفه} والموعد بمعنى الوعد أي هذه عقوبتك في الدنيا ثم لك الوعد بالمصير إلى عذاب الآخرة فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان فعله هذا مفرقاً لبني إسرائيل عن طريق الحق التي كانوا عليها، وجامعاً لهم على تمثال حيوان هو من أخس الحيوانات، وعلى نفسه بكونه صار متبوعاً في ذلك الضلال، لكونه كان سببه، عوقب بالنفرة من الإنسان الذي هو أشرف الحيوان، ليكون ذلك سبباً لضد ما تسبب عن فعله، فيعاقب بالدنيا بعقوبة لا شيء أشد منها وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً فلا يتصل بأحد ولا يتصل به أحد، بل يكون وحيداً طريداً ما دام حياً، فلذلك استؤنف الإخبار عن هذا بقوله تعالى: {قال} أي له موسى عليه السلام: {فاذهب} أي تسبب عن فعلك أني أقول لك: اذهب من بيننا، أو حيث ذهبت {فإن لك في الحياة} أي ما دمت حياً {أن تقول} لكل من رأيته: {لا مساس} أي لا تمسني ولا أمسك، فلا تقدر أن تنفك عن ذلك لإرادة الإله الحق ذلك بك وترغيبك فيه -بما أفادته اللام، لتعلم أنت ومن تبعك أنكم كنتم على أعظم ضلال في ترك القادر على كل شيء، واتباع ما لا قدرة له على شيء {وإن لك} بعد الممات {موعداً} للثواب إن تبت، وللعقاب إن أبيت {لن تخلفه} مبنياً للفاعل وللمفعول، أي لا يكون خلفك ولا تكون أنت خلفه، بل يكون كل منكما مواجهاً لصاحبه، لا انفكاك له عنه، كما أنك في الحياة لا تقدر أن تنفك عن النفرة من الناس، فاختر لنفسك ما يحلو.
ولما ذكر ما للإله الحق من القدرة التامة في الدارين، أتبعه عجز العجل فقال: {وانظر إلى إلهك} أي بزعمك {الذي ظلت} أي دمت في مدة يسيرة جداً بما أشار إليه تخفيف التضعيف {عليه عاكفاً} أي مقبلاً مقارباً مواظباً جهاراً {لنحرقنه} أي بالنار وبالمبرد- كما سلف عن نص التوراة، وكان معنى ذلك أنه أحماه حتى لان فهان على المبارد {ثم لننسفنه} أي لنذرينه إذا صار سحالة {في اليم} أي البحر الذي أغرق الله فيه آل فرعون] وهو أهل لأن يقصد [فيجمع الله سحالته التي هي من حليهم وأموالهم فيحميها في نار جهنم ويكويهم ويجعلها من أشد العذاب عليهم، وأكد الفعل إظهاراً لعظمة الله الذي أمره بذلك، وتحقيقاً للصدق في الوعد فقال: {نسفاً}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعلى أية حال فقد أعلنه موسى -عليه السلام- بالطرد من جماعة بني إسرائيل. مدة حياته. ووكل أمره بعد ذلك إلى الله. وواجهه بعنف في أمر إلهه الذي صنعه بيده. ليرى قومه بالدليل المادي أنه ليس إلها فهو لا يحمي صانعه، ولا يدفع عن نفسه: (قال: فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول: لا مساس. وإن لك موعدا لن تخلفه. وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا).. اذهب مطرودا لا يمسك أحد لا بسوء ولا بخير ولا تمس أحدا -وكانت هذه إحدى العقوبات في ديانة موسى. عقوبة العزل، وإعلان الدنس المدنس فلا يقربه أحد ولا يقرب أحدا- أما الموعد الآخر فهو موعد العقوبة والجزاء عند الله.. وفي حنق وعنف أمر أن يهوى على عجل الذهب، فيحرق وينسف ويلقى في الماء. والعنف إحدى سمات موسى -عليه السلام- وهو هنا غضبة لله ولدين الله، حيث يستحب العنف وتحسن الشدة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لم يزد موسى في عقاب السامريّ على أن خلعه من الأمّة، إما لأنّه لم يكن من أنفسهم فلم يكن بالذي تجري عليه أحكام الشريعة، وإما لأنّ موسى أعلم بأن السامري لا يرجى صلاحه، فيكون ممن حقّت عليه كلمة العذاب، مثل الذين قال الله تعالى فيهم: {إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97]، ويكون قد أطلع الله موسى على ذلك بوحي أو إلهام، مثل الذي قاتل قتالاً شديداً مع المسلمين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما إنه من أهل النّار"، ومثل المنافقين الذين أعلم الله بهم محمداً صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم حذيفة بن اليمان ببعضهم.
فقوله {فَاذْهَبْ} الأظهر أنه أمر له بالانصراف والخروج من وسط الأمّة، ويجوز أن يكون كلمة زجر، كقوله تعالى: {قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنّم جزاؤكم} [الإسراء: 63]...
ويجوز أن يكون مراداً به عدم الاكتراث بحاله...
أما قوله {فَإنَّ لَكَ في الحَيَاةِ أن تَقُولَ لا مِساس وإنَّ لكَ مَوْعِداً لَن تُخْلفَهُ} فهو إخبار بما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة، فجعل حَظه في حياته أن يقول لا مِساس، أي سلبه الله الأُنس الذي في طبع الإنسان فعوضه به هوساً ووسواساً وتوحشاً، فأصبح متباعداً عن مخالطة الناس، عائشاً وحده لا يترك أحداً يقترب منه، فإذا لقيه إنسان قال له: لا مساس، يخشى أن يمسه، أي لا تمسني ولا أمسك، أو أراد لا اقتراب مني، فإن المس يطلق على الاقتراب كقوله {ولا تمسوها بسوء} [هود: 64]، وهذا أنسب بصيغة المفاعلة، أي مقاربة بيننا، فكان يقول ذلك، وهذه حالة فظيعة أصبح بها سخرية...
وقوله {وإنَّ لكَ مَوعِداً} اللام في {لَكَ} استعارة تهكمية، كقوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7] أي فعليها. وتوعده بعذاب الآخرة فجعله موعداً له، أي موعد الحشر والعذابِ، فالموعد مصدر، أي وعد لا يخلف {وعد الله لا يخلف الله وعده} [الروم: 6]. وهنا توعُّد بعذاب الآخرة...
وبعد أن أوعد موسى السامريّ بيّن له وللذين اتبعوه ضلالهم بعبادتهم العجل بأنه لا يستحق الإلهيّة لأنّه معرّض للامتهان والعَجز، فقال: {وانْظُر إلى إلهك الَّذِي ظَلتَ عليهِ عاكِفاً لنُحرِقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ في الْيَمِ نَسْفاً}. فجعَل الاستدلال بالنظر إشارة إلى أنه دليل بيّن لا يحتاج المستدل به إلى أكثر من المشاهدة فإن دلالة المحسوسات أوضح من دلالة المعقولات.
وأضاف الإله إلى ضمير السامريّ تهكماً بالسامريّ وتحقيراً له، ووصف ذلك الإله المزعوم بطريق الموصولية لما تدلّ عليه الصلة من التنبيه على الضلال والخطأ، أي الذي لا يستحق أن يعكف عليه...
والعكوف: ملازمة العبادة وتقدم آنفاً. وتقديم المجرور في قوله {عَلَيْهِ عَاكِفَاً} للتخصيص، أي الذي اخترته للعبادة دون غيره، أي دون الله تعالى.
وقرأ الجمهور {لنُحرِّقنَّه} بضم النون الأولى وفتح الحاء وكسر الراء مشددة. والتحريق: الإحراق الشديد، أي لنحرقنه إحراقاً لا يدع له شكلاً. وأراد به أن يذيبه بالنّار حتى يفسد شكله ويصير قِطَعاً...
والنسف: تفريقٌ وإذراء لأجزاء شيء صلب كالبناء والتراب...
و (ثم) للتّراخي الرتبي، لأن نسف العجل أشد في إعدامه من تحريقه وأذل له.
وأكد ننسِفَنّه بالمفعول المطلق إشارة إلى أنه لا يتردد في ذلك ولا يخشى غضبه كما يزعمون أنّه إله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من الواضح أنّ جواب السامري عن سؤال موسى (عليه السلام) لم يكن مقبولاً بأي وجه، ولذلك فإنّ موسى (عليه السلام) أصدر قرار الحكم في هذه المحكمة، وحكم بثلاثة أحكام عليه وعلى عجله، فأوّلا: (قال فاذهب فإنّ لك في الحياة أن تقول لا مساس) أي يجب عليك الابتعاد عن الناس وعدم الاتّصال بهم إلى آخر العمر، فكلّما أراد شخص الاقتراب منك، فعليك أن تقول له: لا تتّصل بي ولا تقربني. وبهذا الحكم الحازم طرد السامري من المجتمع وجعله في عزلة تامّة. منزوياً بعيداً عنهم!...
والعقاب الثّاني: إنّ موسى (عليه السلام) قد أسمعه وأعلمه بجزائه في القيامة فقال: (وإنّ لك موعداً لن تخلفه). والثالث: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنّه ثمّ لننسفنّه في اليمّ نسفاً).