الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ فَٱذۡهَبۡ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَۖ وَإِنَّ لَكَ مَوۡعِدٗا لَّن تُخۡلَفَهُۥۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ إِلَٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلۡتَ عَلَيۡهِ عَاكِفٗاۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِي ٱلۡيَمِّ نَسۡفًا} (97)

قوله : { لاَ مِسَاسَ } : قرأ العامَّةُ بكسرِ الميمِ وفتحِ السين . وهو مصدرٌ ل فاعَل كالقِتال مِنْ قاتَل ، فهو يقتضي المشاركةَ . وفي التفسير : لا تَمَسُّني ولا أَمَسُّك ، وإنَّ مَنْ مَسَّه أصابَتْه الحُمَّى .

وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين . قلت : هكذا عَبَّر الشيخُ وتَبعَ فيه أبا البقاء . ومتى أَخَذْنا بظاهِر هذه العبارة لَزِم أن يُقرأ " مَسِيس " بقلب الألفِ ياءً لانكسارِ ما قبلها ولكن لم يُرْوَ ذلك ، فينبغي أَنْ يكونوا أرادوا بالكسرِ الإِمالةَ . ويَدُلُّ على ما قُلْتُه ما قاله الزمخشريُّ : " وقُرِىء لا مَساسِ بوزن فَجار . ونحوُه قولهم في الظباء : " إن وَرَدَتِ الماءَ فلا عَباب وإن فَقَدَتْه فلا أَباب " وهي أعلامٌ للمَسَّة والعَبَّة والأَبَّة وهي المرَّة من الأَبِّ وهو الطلَبُ " . فهذا تصريحٌ منه ببقاء الألفِ على حالِها .

ويدلُّ أيضاً قولُ صاحبِ " اللوامح " : " هو على صورة نَزَالِ ونَظارِ من أسماء الأفعال بمعنى انْزِلْ وانْظُرْ " فهذا أيضاً تصريحٌ بإقرار الألِف على حالها . ثم قال صاحب " اللوامح " : " فهذه الأسماء التي بهذه الصيغةِ معارفُ ، ولا تدخُلُ عليها " لا " النافيةُ التي تَنْصِبُ النكراتِ ، نحو " لا مالَ لك " لكنه فيه نَفْيُ الفعلِ فتقديرُه : لا يكون منك مساسٌ ، ومعناه النهيُ أي : لا تَمَسَّني " .

وقال ابنُ عطية : " لا مَساسِ هو معدولٌ عن المصدرِ كفَجارِ ونحوِه . وشبَّهه أبو عبيدة وغيرُه بَنزالِ ودَراكِ ونحوه ، والشَّبَهُ صحيحٌ من حيث هُنَّ معدولاتٌ . وفارقه في أنَّ هذه عُدِلَتْ عن الأمر ، ومَساس وفَجار عُدلت عن المصدر . ومِن هذا قولُ الشاعر :

تميمٌ كرَهْطِ السَّامِرِيِّ وقَوْلِه *** ألا لا يريدُ السَّامِرِيُّ مَساسِ

فكلامُ الزمخشريِّ وابنِ عطيةَ يعطي أنَّ " مَساس " على هذه القراءةِ معدولٌ عن المصدرِ كفجَار عن الفَجَرة ، وكلامُ صاحبِ اللوامحِ يقتضي أنها معدولةٌ عن فعل أمرٍ ، إلا أَنْ يكونَ مرادُه أنها مَعْدُوْلَةٌ ، كما أنَّ اسمَ الفعلِ معدولٌ ، كما تَقَدَّم توجيهُ ابنِ عطية لكلام أبي عبيدة .

قوله : { لَّن تُخْلَفَهُ } قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو بكسرِ اللامِ على البناء للفاعل . والباقون بفتحِها على البناءِ للمفعولِ . وقرأ أبو نهيك فيما حكاه عنه ابن خالويه بفتح التاء من فوقُ ، وضمِّ اللام ، وحكى عنه صاحب " اللوامح " كذلك ، إلاَّ أن بالياء مِنْ تحتُ . وابنُ مسعودٍ والحسن بضمِّ نونِ العظمة وكسرِ اللام .

فأمَّا القراءةُ الأولى فمعناها : لن تجدَه مُخلَّفاً كقولك : أَحْمَدْتُه وأَجْبَنْتُه/ أي : وَجَدْتُه مَحْمُوداً وجَباناً . وقيل : المعنى : سيصلُ إليك ، ولن تستطيعَ الرَّوَغانَ ولا الحَيْدَة عنه . قال الزمخشري : " وهذا مِنْ أَخْلَفْتُ الوعدَ إذا وجدتَه مُخْلَفاً . قال الأعشى :

أَثْوَى وقَصَّر لَيْلَةً لِيُزَوَّدا *** فَمَضى وأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدا

ومعنى الثانيةِ : لن يُخْلِفَ اللهُ موعدَه الذي وَعَدك . وأمَّا قراءتا أبي نهيك فهما مِنْ خَلَفَه يَخْلُفُه إذا جاء بعدَه أي : الموعدَ الذي لك لا يَدْفع قولَك الذي تقولُه . وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ . قال أبو حاتم : " لا نعرف لقراءةِ أبي نهيك مذهباً " وأمَّا قراءةُ ابنِ مسعود فأسند الفعلَ فيها إلى الله تعالى . والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي : لن يُخْلِفَكه .

قوله : { ظَلْتَ } العامَّةُ على فتح الظاء ، وبعدها لامٌ ساكنة . وابنُ مسعودٍ وقتادةُ والأعمشُ بخلافٍ عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر [ على ] كسرِ الظاء . ورُوي عن ابن يعمر ضمُّها أيضاً . وأُبَيٌّ والأعمش في الرواية الأخرى " ظَلِلْتَ " بلامَيْنِ أولاهما مكسورةٌ " .

فأمَّا قراءةُ العامَّة ففيها : حَذْفُ أحدِ المِثْلين ، وإبقاءُ الظاءِ على حالِها مِنْ حركتها ، وإنما حُذف تخفيفاً . وعدَّه سيبويه في الشاذ . يعني شذوذَ قياسٍ لا شذوذَ استعمالٍ ، وعَدَّ معه ألفاظاً أُخَرَ نحو : مَسْتُ وأَحَسْتُ كقولِه :

3317 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ

وعَدَّ ابنُ الأنباري " هَمْتُ " في " هَمَمْتُ " ولا يكونُ هذا الحذفُ إلاَّ إذا سُكِّنَتْ لامُ الفعلِ . وذكر بعضُ المتأخرين أن هذا الحذفَ منقاسٌ في كلِّ مضاعفِ العينِ واللامِ سَكَنَتْ لامُه ، وذلك في لغة سُلَيْم .

والذي أقولُه : إنه متى التقى التضعيفُ المذكورُ والكسرُ نحو : ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ انقاس الحذفِ . وهل يَجْري الضمُّ مَجْرى الكسرِ في ذلك ؟ فالظاهرُ أنه يجري . بل بطريق الأَوْلى ؛ لأن الضمَّ أثقلُ من الكسر نحو : غُضْنَ يا نسوةُ أي : أغْضُضْنَ أبصارَكُنَّ ، ذكره جمال الدين ابن مالك . وأمَّا الفتحُ فالحذفُ فيه ضعيفٌ نحو : " قَرْن يا نسوةُ في المنزل " ومنه في أحدِ توجيهَيْ قراءةِ { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] كا سيأتي إنْ شاء الله تعالى .

وأمَّا الكسرُ فوجهُه أنه نَقَل كسرةَ اللامِ إلى الفاءِ بعد سَلْبِها حركتَها لتدُلَّ عليها . وأمَّا الضمُّ فيحتمل أن يكونَ جاء فيه لغةٌ على فَعَل يفعُل بفتحِ العينِ في الماضي وضمِّها في المضارع ، ثم نُقِلَتْ ، كما تقدّم ذلك في الكسر . وأمَّا ظَلِلْت بلامين فهذه هي الأصلُ ، وهي مَنْبَهَةٌ على غيرِها . و " عاكفاً " خبرُ " ظلَّ " .

قوله : { لَّنُحَرِّقَنَّهُ } جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي : واللهِ لَنُحَرِّقَنَّهُ . والعامَّة على ضمِّ النونِ وكسرِ الراءِ مشددةً مِنْ حَرَّقه يُحرِّقُه بالشديد . وفيها تأويلان . أظهرُهما : أنها مِنْ حَرَّقه بالنار . والثاني : أنه مِنْ حَرَق نابُ البعير ، إذا وقع عَضُّ ببعضِ أنيابِه على بعضٍ . والصوتُ المسموعُ منه يُقال له الصَّريفُ . والمعنى : لنَبْرُدَنَّه بالمِبْرد بَرْداً نمحقُه به كما يفعل البعيرُ بأنيابِه بعضها على بعض .

وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر " لَنُحْرِقَنَّه " بضم النون وسكونِ الحاءِ وكسرِ الراء ، مِنْ أحرق رباعياً . وقرأ ابن عباس وحميد وعيسى وأبو جعفر " لَنَحْرُقَنَّه " كذلك إلاَّ أنه ضمَّ الراء . فيجوز أن يكونَ أَحْرق وحرَّق بمعنى كأَنْزَل ونَزَّل . وأمَّا القراءةُ الأخيرة فبمعنى لنَبْرُدَنَّه بالمبرد .

قوله : { لَنَنسِفَنَّهُ } العامَّةُ على فتح النون الأولى وسكونِ الثانية وكسرِ السين خفيفةً . وقرأ عيسى بضم السين . وقرأ ابن مقسم بضمِّ النون الأولى وفتح الثانية وكسر السينِ مشددةً . والنَّسْفُ : التفرقةُ والتَّذْرِيَةُ وقيل : قَلْعُ الشيء مِنْ أصله يقال : نَسَفَه يَنْسُِفه بكسر السين وضمها في المضارع ، وعليه القراءتان . والتشديد للتكثير .