فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَالَ فَٱذۡهَبۡ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَۖ وَإِنَّ لَكَ مَوۡعِدٗا لَّن تُخۡلَفَهُۥۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ إِلَٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلۡتَ عَلَيۡهِ عَاكِفٗاۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِي ٱلۡيَمِّ نَسۡفًا} (97)

فلما سمع موسى منه ذلك { قال فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } أي : فاذهب من بيننا واخرج عنا فإن لك في الحياة ، أي ما دمت حياً ، وطول حياتك أن تقول : لا مساس . المساس مأخوذ من المماسة ، أي لا يمسك أحد ولا تمسّ أحداً ، لكن لا بحسب الاختيار منك ، بل بموجب الاضطرار الملجئ إلى ذلك ؛ لأن الله سبحانه أمر موسى أن ينفي السامريّ عن قومه ، وأمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له . قيل : إنه لما قال له موسى ذلك هرب ، فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش لا يجد أحداً من الناس يمسه ، حتى صار كمن يقول : لا مساس ، لبعده عن الناس وبعد الناس عنه ، كما قال الشاعر :

حمال رايات بها قناعسا *** حتى تقول الأزد لا مسايسا

قال سيبويه : وهو مبني على الكسر . قال الزجاج : كسرت السين ؛ لأن الكسرة من علامة التأنيث . قال الجوهري في الصحاح : وأما قول العرب : لا مساس ، مثل قطام ، فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر ، وهو المس . قال النحاس : وسمعت عليّ بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد المبرد يقول : إذا اعتلّ الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبنى ، وإذا اعتل من جهتين وجب ألا ينصرف ، لأنه ليس بعد الصرف إلا البناء ، فمساس ، دراك اعتل من ثلاث جهات : منها أنه معدول ، ومنها أنه مؤنث ، ومنها أنه معرفة ، فلما وجب البناء فيه وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين . وقد رأيت أبا إسحاق ، يعني الزجاج ، ذهب إلى أن هذا القول خطأ وألزم أبا العباس إذا سميت امرأة بفرعون أن يبنيه وهذا لا يقوله أحد . وقد قرأ بفتح الميم أبو حيوة والباقون بكسرها . وحاصل ما قيل في معنى { لا مساس } ثلاثة أوجه : الأوّل : أنه حرّم عليه مماسة الناس ، وكان إذا ماسه أحد حمّ الماس والممسوس ، فلذلك كان يصيح إذا رأى أحداً : لا مساس . والثاني : أن المراد منع الناس من مخالطته ؛ واعترض بأن الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول هو : لا مساس ، وإنما يقال له . وأجيب بأن المراد الحكاية ، أي أجعلك يا سامريّ بحيث إذا أخبرت عن حالك قلت : لا مساس . والقول الثالث : أن المراد انقطاع نسله ، وأن يخبر بأنه لا يتمكن من مماسة المرأة ، قاله أبو مسلم وهو ضعيف جداً . ثم ذكر حاله في الآخرة فقال : { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَن تُخْلَفَهُ } أي لن يخلفك الله ذلك الموعد ، وهو يوم القيامة ، والموعد مصدر ، أي إن لك وعداً لعذابك ، وهو كائن لا محالة ، قال الزجاج : أي يكافئك الله على ما فعلت في القيامة والله لا يخلف الميعاد . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن واليزيدي والحسن : «لن تخلفه بكسر » اللام ، وله على هذه القراءة معنيان : أحدهما : ستأتيه ولن تجده مخلفاً كما تقول أحمدته ، أي وجدته محموداً . والثاني : على التهديد ، أي لا بدّ لك من أن تصير إليه . وقرأ ابن مسعود : «لن نخلفه » بالنون ، أي لن يخلفه الله . وقرأ الباقون بفتح اللام ، وبالفوقية مبنياً للمفعول ، معناه ما قدّمناه . { وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } ظلت أصله : ظللت فحذفت اللام الأولى تخفيفاً ، والعرب تفعل ذلك كثيراً . وقرأ الأعمش بلامين على الأصل . وفي قراءة ابن مسعود : «ظلت » بكسر الظاء . والمعنى : انظر إلى إلهك الذي دمت وأقمت على عبادته ، والعاكف : الملازم . { لنُحَرّقَنَّهُ } قرأ الجمهور بضم النون وتشديد الراء من حرّقه يحرّقه . وقرأ الحسن بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه . وقرأ عليّ وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب والعقيلي : «لَنَحْرُقَنَّهُ » بفتح النون وضم الراء مخففة ، من حرقت الشيء أحرقه حرقاً : إذا بردته وحككت بعضه ببعض أي : لنبردنه بالمبارد ، ويقال للمبرد : المحرق . والقراءة الأولى أولى ، ومعناها : الإحراق بالنار ، وكذا معنى القراءة الثانية ، وقد جمع بين هذه الثلاث القراءات بأنه أحرق ، ثم برد بالمبرد ، وفي قراءة ابن مسعود : «لنذبحنه ثم لنحرقنه » واللام هي الموطئة للقسم { ثُمَّ لَنَنسِفَنَهُ فِي اليم نَسْفاً } النسف : نفض الشيء ليذهب به الريح . قرأ أبو رجاء : «لننسفنه » بضم السين ، وقرأ الباقون بكسرها ، وهما لغتان . والمنسف : ما ينسف به الطعام ، وهو شيء منصوب الصدر أعلاه مرتفع ، والنسافة : ما يسقط منه .

/خ101