المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{قَالَ فَٱذۡهَبۡ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَۖ وَإِنَّ لَكَ مَوۡعِدٗا لَّن تُخۡلَفَهُۥۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ إِلَٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلۡتَ عَلَيۡهِ عَاكِفٗاۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِي ٱلۡيَمِّ نَسۡفًا} (97)

وقرأ الجمهور «لا مِسَاسَ » بكسر الميم وفتح السين على النصب بالتبرئة وهو اسم يتصرف ومنه قول النابغة : [ المتقارب ]

فأصبح من ذاك كالسامري ، . . . إذ قال موسى له لا مساسا{[8153]}

ومنه قول رؤبة : [ الرجز ]

حتى يقول الأزد لا مساسا . . . {[8154]}

واستعماله على هذا كثير . وقرأ أبو حيوة «لا مَساسِ » بفتح الميم وكسر السين وهو معدول عن المصدر كفجار ونحوه ، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه والشبه صحيح من حيث هي معدولات وفارقة في أن هذه عدلت عن الأمر ، ومساس وفجارعدلت عن المصدر ومن هذا قول الشاعر :

تميم كرهط السامري . . . وقوله : [ الطويل ]

ألا لا يريد السامري مساس . . . {[8155]} وقرأ الجمهور «تخلَفه » بفتح اللام على معنى لن يقع فيه خلف ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لن تخلِفه » بكسر اللام على معنى لن تستطيع الروغان عنه والحيدة فتزول عن موعد العذاب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف «لن نخلفه » بالنون ، قال أبو الفتح المعنى لن نصادفه مخلفاً ع وكلها بمعنى الوعيد والتهديد . ثم وبخه عليه السلام بقوله : { وانظر إلى إلهك الذي } أي انظر صنيعك وتغيرنا له وردنا الأمر فيه إلى الواجب . وقرأت فرقة «ظَلت » بفتح الظاء على حذف اللام الواحدة ، وقرأت فرقة «ظِلت » بكسر الظاء على نقل حركة اللام إلى الظاء ثم حذفها بعد ذلك نحو قول الشاعر : [ أبو زبيد الطائي ] [ الوافر ]

خَيلا إن العِتاقَ من المطايا . . . أَحَسْنَ به فهن إليه شُوسُ{[8156]}

أراد احْسَسْنَ فنقلت حركة السين إلى الحاء ثم حذفت تخفيفاً ، وفي بعض الروايات حسين ، وقرأت فرقة «ظللت » ، وظل معناه أقام يفعل الشيء نهاراً ، ولكنها قد تستعمل في الدائب ليلاً ونهاراً بمثابة طفق . و { عاكفاً } معناه ملازماً حدباً . وقرأت فرقة «لنحرِقنه » بتخفيف الراء بمعنى النار ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس «لنحرُقنَّه » بضم الراء{[8157]} وفتح النون بمعنى لنبردنه بالمبرد{[8158]} ، وقرأ نافع وغيره «لنُحرِّقنه » بضم النون وكسر الراء وشدها وهذا تضعيف مبالغة لا تعدية وهي قراءة تحتمل الحرق بالنار وتحتمل بالمبرد ، وفي مصحف أبي وعبد الله بن مسعود «لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه » ، وهذه القراءة مع رواية من روى أن العجل صار لحماً ودماً ، وعلى هذه الرواية يتركب أن يكون هناك حرق بنار وإلا فإذا كان جماداً من ذهب فإنما هو حرق بمبرد اللهم إلا أن تكون إذابة ويكون النسف مستعاراً لتفريقه في اليم مذاباً . وقرأت فرقة «لننسِفنه » بكسر السين ، وقرأت فرقة «لننسُفنه » بضم السين . و «النسف » تفريق الريح الغبار وكل ما هو مثله كتفريق الغربال ونحوه فهو نسف . . و { اليم } غمر الماء من بحر وغيره وكل ما غمر الإنسان من الماء فهو يم ، و { نسفاً } تأكيد بالمصدر . واللام في قوله : { لنحرقنه } لام القسم ، وفي هذه الآية من القصص أن موسى عليه السلام برد العجل حتى رجع كالغبار ثم ذراه في البحر ثم أمر بني إسرائيل أن يشرب جميعهم من الماء فكلما شرب من كان في قلبه حب العجل خرج على شاربه من الذهب فضيحة له ، وقال مكي رحمه الله وأسند أن موسى عليه السلام كان مع السبعين في المناجاة وحينئذ وقع أمر العجل وأن الله تعالى أعلم موسى بذلك فكلمه موسى عنهم وجاء بهم حتى سمع لفظ بني إسرائيل حول العجل فحينئذ أعلمهم موسى .

قال أبو محمد رحمه الله :وهذه رواية ، الجمهور على خلافها وإنما تعجل موسى عليه السلام وحده فوقع أمر العجل ثم جاءه موسى وصنع ما صنع بالعجل ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل وأن يطلعهم أيضاً على أمر المناجاة فكان لموسى عليه السلام نهضتان والله أعلم .


[8153]:لم أجد هذا البيت في ديوان النابغة الذي جمعه وحققه وشرحه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، والذي نشرته الشركة التونسية للتوزيع بالاشتراك مع الشركة الوطنية للتوزيع بالجزائر. كذلك لم أعثر على قائله فبما بين يدي من المراجع، ولم أجده في التاج ولا في اللسان أو الأساس أو كتب التفسير، اللهم إلا لا في البحر المحيط غير منسوب، وهذا موضع الاستشهاد هنا. على أن اسم النابغة يطلق على ثمانية من الشعراء، فلعله لواحد منهم.
[8154]:كذلك لم أجد هذا البيت في ديوان رؤبة المسمى: (مجموع أشعار العرب ـ المكتب التجاري بيروت)، وقد أورده القرطبي في لفظ آخر مع بيت قبله، وهما: حمال رايات بها قناعسا حتى تقول الأزد لا مسابسا وعلق عليه المحقق بقوله: " هكذا في الأصول، ولم نقف عليه".
[8155]:الرهط: الجماعة من ثلاثة أو سبعة إلى عشرة، أو ما دون العشرة، جمعه أرهط وأرهاط، ولم نقف على قائل البيت، والشاهد فيه أن (مساس) معدولة عن المصدر، ويوافقه الزمخشري في ذلك، فقد قال: إن (مساس) بوزن (فجار)، وقال صاحب اللوامح: "هو على صورة نزال ونظار من أسماء الأفعال، بمعنى: إنزال وانظر، وهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف، ولا تدخل عليها (لا) النافية التي تنصب النكرات، نحو: لا مال لك، لكن فيه نفي للفعل، وتقديره: لا يكون منك مساس، ولا أقول: مساس، ومعناه النهي، أي: لا تمسني"، وأكد ابن جني هذا الكلام في المحتسب.
[8156]:البيت لأبي زبيد الطائي، وهو في اللسان (حسس)، والرواية فيه (حسين به)، وهي التي أشار إليها ابن عطية، قال صاحب اللسان: "أما قولهم: "أحست بالشيء" فعلى الحذف كراهية التقاء المثلين"، ونقل عن الأزهري أنه يقال: أحسست الخير وأحسته وحسيت وحست: إذا عرفت منه طرفا، وقد استشهد اللغويون ببيت أبي زبيد هذا، وقد قال سيبويه: "وكذلك يفعل في كل بناء يبنى اللام من الفعل منه على السكون، ولا تصل إليه الحركة، شبهوها بأقمت"، وهذا ينطبق على (ظللت) التي هي أصل البحث هنا. العتاق: النجائب الكريمة، والشوس: أن ينظر بإحدى عينيه ويميل وجهه في شق العين التي ينظر بها، ويكون ذلك في الخلق، ويكون من الكبر.
[8157]:في الأصول أخطأ النساخ في ضبط الحروف، والتصويب عن كتب التفسير وكتب القراءة.
[8158]:هذا من قولهم: "حرقت الشيء أحرقه حرقا" بمعنى: بردته وحككت بعضه ببعض، ومنه قولهم: "حرق نابه يحرقه ويحرقه" أي: سحقه حتى يسمع له صريف، ويقال للمبرد: المحرق. قال ابن جني: "حرقت الحديد: إذا بردته فتحات وتساقط، ومنه قولهم: "إنه ليحرق علي الأرم"، أي: يحك أسنانه بعضها ببعض غيظا علي، قال زهير: أبى الضيم والنعمان يحرق نابه عليه فأفضى والسيوف معاقله وأنشد أبو زيد، ورويناه عنه: نبئت أحماء سليمى أنما باتوا غضابا يحرقون الأرما فكأن [لنحرقنه] ـ على هذا ـ: لنبردنه ولنحتنه حتا".