محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قَالَ فَٱذۡهَبۡ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَۖ وَإِنَّ لَكَ مَوۡعِدٗا لَّن تُخۡلَفَهُۥۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ إِلَٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلۡتَ عَلَيۡهِ عَاكِفٗاۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِي ٱلۡيَمِّ نَسۡفًا} (97)

{ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ } أي لعذابك { مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا } أي لنطيرنه رمادا في البحر ، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر .

تنبيهات :

الأول : اعلم أن هارون عليه السلام ، سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه . لأنه زجرهم عن الباطل ، أولا بقوله : { إنما فتنتم به } ثم دعاهم لمعرفة الله تعالى ثانيا بقوله : { وإن ربكم الرحمن } ثم دعاهم ثالثا إلى معرفة النبوة . بقوله تعالى : { فاتبعوني } ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله : { وأطيعوا أمري } وهذا هو الترتيب الجيد . لأنه لا بد قبل كل شيء في إماطة الأذى عن الطريق ، وهو إزالة الشبهات . ثم معرفة الله تعالى ، فإنها هي الأصل . ثم النبوة ثم الشريعة . فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه . أفاده الرازي .

وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات ، هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة ، من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته ، كما هو موجود عندهم . وهو من أعظم الفرى ، بلا امترا .

الثاني : عامة المفسرين قالوا : المراد بالرسول في قوله تعالى : { فقبضت قبضة من أثر الرسول } هو جبريل عليه السلام . وأراد بأثره ، التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته . ثم اختلفوا : أن السامري متى رآه ؟ فقيل : إنما رآه يوم فلق البحر . وقيل : وقت ذهابه بموسى إلى الطور .

واختلفوا أيضا في أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام ، ومعرفته من بين سائر الناس ؟ فقيل إنما عرفه لأنه رآه في صغره ، وحفظه من قتل آل فرعون له ، وكان ممن رباه . وكل هذا ليس عليه أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم . ولذا قال أبو مسلم الأصفهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون . فهاهنا وجه آخر وهو : أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام . وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به ، فقد يقول الرجل : فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره ، إذا كان يمتثل رسمه . والتقدير ، أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم ، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل ، فقال : { بصرت بما لم يبصروا به } أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق ، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول ، أي شيئا من سنتك ودينك . فقذفته ، أي طرحته . فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة . وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب ، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له : ما يقول الأمير في كذا ؟ وبماذا يأمر الأمير ؟

وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولا ، مع جحده ، وكفره ، فعلى مثل مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله : { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } وإن لم يؤمنوا بالإنزال . انتهى .

قال الرازي : ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون ، لوجوه :

أحدها : أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول . ولم يجر له فيما تقدم ذكر ، حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه . فإطلاق لفظ ( الرسول ) لإرادة جبريل عليه السلام ، كأنه تكليف بعلم الغيب .

وثانيها : أنه لا بد فيه من الإضمار . وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول . والاضمار خلاف الأصل .

وثالثها : أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته ؟ ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر ؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه ، فبعيد . لأن السامري ، إن عرف جبريل حال كمال عقله ، عرف قطعا أن موسى عليه السلام نبي صادق . فكيف يحاول الإضلال ؟ وإن كان ما عرفه حال البلوغ ، فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربيا له حال الطفولية ، في حصول تلك المعرفة ؟ انتهى .

التنبيه الثالث : في قوله تعالى : { لا مساس } وجوه :

أحدها : إني لا أمس ولا أمس .

وثانيها : المراد المنع من أن يخالط أحدا أو يخالطه أحد ، عقوبة له .

ثالثها : ما ذكره أبو مسلم من أنه يجوز في حمله ( ما أريد مس النساء ) فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله . فلا يكون له ولد يؤنسه ، فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } أي لأن المس يكنى به عن النكاح كما في آية : { من قبل أن تمسوهن } والله أعلم .