البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَ فَٱذۡهَبۡ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَۖ وَإِنَّ لَكَ مَوۡعِدٗا لَّن تُخۡلَفَهُۥۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ إِلَٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلۡتَ عَلَيۡهِ عَاكِفٗاۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِي ٱلۡيَمِّ نَسۡفًا} (97)

وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي ، فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا ، وجعل له أن يقول مدة حياته { لا مساس } أي لا مماسّة ولا إذاية .

وقال الزمخشري : عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش ، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً ، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضاً ، وإذا اتفق أن يماس أحداً رجلاً أو امرأة حمّ الماسّ والممسوس فتحامى الناس وتحاموه ، وكان يصيح { لا مساس } ويقال إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم انتهى .

وكون الحمى تأخذ الماس والممسوس قول قتادة والأمر بالذهاب حقيقة ، ودخلت الفاء للتعقيب إثر المحاورة وطرده بلا مهلة زمانية ، وعبر بالمماسة عن المخالطة لأنها أدنى أسباب المخالطة فنبه بالأدنى على الأعلى ، والمعنى لا مخالطة بينك وبين الناس فنفر من الناس ولزم البرية وهجر البرية وبقي مع الوحوش إلى أن استوحش وصار إذا رأى أحداً يقول { لا مساس } أي لا تمسني ولا أمسك .

وقيل : ابتلي بعذاب قيل له { لا مساس } بالوسواس وهو الذي عناه الشاعر بقوله :

فأصبح ذلك كالسامري *** إذ قال موسى له لا مساسا

ومنه قول رؤبة :

حتى تقول الأزد لا مساسا . . .

وقيل : أراد موسى قتله فمنعه الله من قتله لأنه كان شيخاً .

قال بعض شيوخنا وقد وقع مثل هذا في شرعنا في قصة الثلاثة الذين خلفوا أمر الرسول عليه السلام أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله عليهم .

وقرأ الجمهور { لا مِسَاس } بفتح السين والميم المكسورة و { مساس } مصدر ماس كقتال من قاتل ، وهو منفي بلا التي لنفي الجنس ، وهو نفي أريد به النهي أي لا تمسني ولا أمسك .

وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين .

فقال صاحب اللوامح : هو على صورة نزال ونظار من أسماء الأفعال بمعنى أنزل وأنظر ، فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف ولا تدخل عليها لا النافية التي تنصب النكرات نحو لا مال لك ، لكنه فيه نفي الفعل فتقديره لا يكون منك مساس ، ولا أقول مساس ومعناه النهي أي لا تمسني انتهى .

وظاهر هذا أن مساس اسم فعل .

وقال الزمخشري { لا مساس } بوزن فجار ونحوه قولهم في الظباء :

إن وردن الماء فلا عباب *** وإن فقدنه فلا إباب

وهي أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب وهو الطلب .

وقال ابن عطية { لا مساس } هو معدول عن المصدر كفجار ونحوه ، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه ، والشبه صحح من حيث هي معدولات ، وفارقه في أن هذه عدلت عن الأمر ومساس وفجار عدلت عن المصدر .

ومن هذا قول الشاعر :

تميم كرهط السامري وقوله***ألا لا يريد السامري مساس

انتهى .

فكلام الزمخشري وابن عطية يدل على أن مساس معدول عن المصدر الذي هو المسة ، كفجار معدولاً عن الفجرة { وإن لك موعداً } أي في يوم القيامة .

وقرأ الجمهور { لن تُخْلَفَهُ } بالتاء المضمومة وفتح اللام على معنى لن يقع فيه خلف بل ينجزه لك الله في الآخرة على الشرك والفساد بعدما عاقبك في الدنيا .

وقال الزمخشري : وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً .

قال الأعشى :

أثوى وقصر ليله ليزوّدا *** فمضى وأخلف من قتيلة موعدا

وقرأ ابن كثير والأعمش وأبو عمرو بضم التاء وكسر اللام أي لن تستطيع الروغان عنه والحيدة فتزول عن موعد العذاب .

وقرأ أبو نهيك : لن تَخْلُفُه بفتح التاء وضم اللام هكذا بالتاء منقوطة من فوق عن أبي نهيك في نقل ابن خالويه .

وفي اللوامح أبو نهيك لن يَخْلُفه بفتح الياء وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده أي الموعد الذي لك لا يدفع قولك الذي تقوله فيما بعد { لا مساس } بالفعل فهو مسند إلى الموعد أو الموعد لن يختلف ما قدر لك من العذاب في الآخرة .

وقال سهل : يعني أبا حاتم لا يعرف لقراءة أبي نهيك مذهباً انتهى .

وقرأ ابن مسعود والحسن بخلاف عنه نخلفه بالنون وكسر اللام أي لا ننقص مما وعدنا لك من الزمان شيئاً .

وقال ابن جني لن يصادفه مخلفاً .

وقال الزمخشري : لن يخلفه الله .

حكى قوله عز وجل كما مر في { لأهب لك } انتهى .

ثم وبخ موسى عليه السلام السامري بما أراد أن يفعل بالعجل الذي اتخذه إلهاً من الاستطالة عليه بتغيير هيئته ، فواجهه بقوله { وانظر إلى إلهك } وخاطبه وحده إذ كان هو رأس الضلال وهو ينظر لقولهم { لن نبرح عليه عاكفين } وأقسم { لنحرقنه } وهو أعظم فساد الصورة { ثم لننسفنه في اليم } حتى تتفرق أجزاؤه فلا يجتمع ، ويظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريل وهو داخل البحر حالة تقدم فرعون وتبعه فرعون في الدخول ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه السامري من الحليّ الذي كان أصله للقبط .

وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيهاً على أن ما كان به قيام الحياة آل إلى العدم .

وأُلقي في محل ما قامت به الحياة وإن أموال القبط قذفها الله في البحر بحيث لا ينتفع بها كما قذف الله أشخاص مالكيها في البحر وغرقهم فيه .

وقرأ الجمهور ونصر بن عاصم لابن يعمر { ظَلْتَ } بظاء مفتوحة ولام ساكنة .

وقرأ ابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن يعمر بخلاف عنه كذلك إلا أنهم كسروا الظاء ، وعن ابن يعمر ضمها وعن أُبَيّ والأعمش ظللت بلامين على الأصل ، فأما حذف اللام فقد ذكره سيبويه في الشذوذ يعني شذوذ القياس لا شذوذ الاستعمال مع مست وأصله مسست وأحست أصله أحسست ، وذكر ابن الأنباري همت وأصله هممت ولا يكون ذلك إلاّ إذا سكن آخر الفعل نحو ظلت إذ أصله ظللت .

وذكر بعض من عاصرناه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث تسكن آخر الفعل .

وقد أمعنّا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل من تأليفنا ، فأما من كسر الظاء فلأنه نقل حركة اللام إلى الظاء بعد نزع حركتها تقديراً ثم حذف اللام ، وأما من ضمها فيكون على أنه جاء في بعض اللغات على فعل بضم العين فيهما ، ونقلت ضمة اللام إلى الظاء كما نقلت في حالة الكسر على ما تقرر .

وقرأ الجمهور { لنحرّقنه } مشدداً مضارع حرَّق مشدداً .

وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر وأبو رجاء والكلبي مخففاً من أحرق رباعياً .

وقرأ عليّ وابن عباس وحميد وأبو جعفر في رواية وعمرو بن فائد بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء ، والظاهر أن حرق وأحرق هو بالنار .

وأما القراءة الثالثة فمعناها لنبردنه بالمبرد يقال حرق يحرق ويحرق بضم راء المضارع وكسرها .

وذكر أبو عليّ أن التشديد قد يكون مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد .

وفي مصحف أُبَيّ وعبد الله لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه وتوافق هذه القراءة من روى أنه صار لحماً ودماً ذا روح ، ويترتب الإحراق بالنار على هذا ، وأما إذا كان جماداً مصوغاً من الحليّ فيترتب برده لا إحراقه إلا إن عنى به إذابته .

وقال السّدي : أمر موسى بذبح العجل فذبح وسال منه الدم ثم أحرق ونسف رماده .

وقيل : بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها .

وقرأ الجمهور { لَنَنسِفَنَّهُ } بكسر السين .

وقرأت فرقة منهم عيسى بضم السين .

وقرأ ابن مقسم : لِنُنَسِّفنه بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين .

والظاهر وقول الجمهور أن موسى تعجل وحده فوقع أمر العجل ، ثم جاء موسى وصنع بالعجل ما صنع ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل وأن يطلعهم أيضاً على أمر المناجاة ، فكان لموسى عليه السلام نهضتان .

وأسند مكي خلاف هذا أن موسى كان مع السبعين في المناجاة وحينئذ وقع أمر العجل ، وأن الله أعلم موسى بذلك فكتمه عنهم وجاء بهم حتى سمعوا لغط بني إسرائيل حول العجل ، فحينئذ أعلمهم موسى انتهى .