أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{هَـٰٓأَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبۡخَلُۖ وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُۚ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ يَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمۡثَٰلَكُم} (38)

{ ها أنتم هؤلاء } أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون وقوله : { تدعون لتنفقوا في سبيل الله } استئناف مقرر لذلك ، أو صلة ل { هؤلاء } على أنه بمعنى الذين وهو يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرهما . { فمنكم من يبخل } ناس يبخلون وهو كالدليل على الآية المتقدمة . { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } فإن نفع الإنفاق وضر البخل عائدان إليه ، والبخل يعدى بعن وعلى لتضمنه معنى الإمساك والتعدي فإنه إمساك عن مستحق . { والله الغني وأنتم الفقراء } فما يأمركم به فهو لاحتياجكم إليه فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم . { وإن تتولوا } عطف على { إن تومنوا } . { يستبدل قوما غيركم } يقم مقامكم قوما آخرين . { ثم لا يكونوا أمثالكم } في التولي والزهد في الإيمان ، وهم الفرس لأنه سئل عليه الصلاة والسلام عنه وكان سلمان إلى جنبه فضرب فخذه وقال : " هذا وقومه " : أو الأنصار أو اليمن أو الملائكة .

ختام السورة:

عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة محمد كان حقا على الله أن يسقيه من أنهار الجنة " .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{هَـٰٓأَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبۡخَلُۖ وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُۚ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ يَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمۡثَٰلَكُم} (38)

{ هَآ أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سبيل الله فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء } .

كلام المفسرين من قوله : { ولا يسألْكُم أموالَكم } إلى قوله : { عن نفسه } [ محمد : 36 38 ] يعرب عن حَيرة في مراد الله بهذا الكلام . وقد فسرناه آنفاً بما يشفي وبقي علينا قوله : { ها أنتم هؤلاء تُدْعَوْن لتنفقوا } الخ كيف موقعه بعد قوله : { ولا يسألكم أموالكم } فإن الدعوة للإنفاق عين سؤال الأموال فكيف يجمع بين ما هنا وبين قوله آنفاً { ولا يسألكم أموالكم } .

فيجوز أن يكون المعنى : تُدْعَون لتنفقوا في سبيل الله لتدفعوا أعداءكم عنكم وليس ذلك لينتفع به الله كما قال : { والله الغني وأنتم الفقراء } . ونظم الكلام يقتضي أن هذه دعوة للإنفاق في الحال وليس إعلاماً لهم بأنهم سيدعون للإنفاق فهو طلبٌ حاصل . ويحمل { تدْعَون } على معنى تؤمرون أي أمر إيجاب .

ويجوز أن يحمل { تدعون } على دعوة الترغيب ، فتكون الآية تمهيداً للآيات المقتضية إيجاب الإنفاق في المستقبل مثل آية { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } [ التوبة : 41 ] ونحوها ، ويجوز أن يكون إعلاماً بأنهم سيدعون إلى الإنفاق في سبيل الله فيما بعد هذا الوقت فيكون المضارع مستعملاً في زمن الاستقبال والمضارع يحتمله في أصْل وضعه .

وعلى الاحتمالين فقوله : { فمنكم من يبْخل ومن يبْخل فإنما يبْخل عن نفسه } إما مسوق مساق التوبيخ أو مساق التنبيه على الخطإ في الشح ببذل المال في الجهاد الذي هو محلّ السياق لأن المرء قد يبخل بُخلاً ليس عائداً بخلُه عن نفسه .

ومعنى قوله : { فإنما يبخل عن نفسه } على الاحتمال الأول فإنما يبْخل عن نفسه إذ يتمكن عدّوه من التسلط عليه فعاد بُخله بالضر عليه ، وعلى الاحتمال الثاني فإنما يبْخل عن نفسه بحرمانها من ثواب الإنفاق .

والقصر المستفاد من { إنما } قصر قلب باعتبار لازم بُخله لأن الباخل اعتقد أنه منع من دَعاه إلى الإنفاق ولكن لازم بخله عاد عليه بحرمان نفسه من منافع ذلك الإنفاق ، فالقصر مجاز مرسل مركَّب . وفعل ( بخل ) يتعدى ب { عن } لما فيه من معنى الإمساك ويتعدى ب ( على ) لما فيه من معنى التضييق على المبخول عليه . وقد عدي هنا بحرف { عن } .

{ وها أنتم هؤلاء } مركب من كلمة ( ها ) تنبيه في ابتداء الجملة ، ومن ضمير الخطاب ثم من ( هَا ) التنبيه الداخلة على اسم الإشارة المفيدة تأكيد مدلول الضمير . ونظيرُه قوله : { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } في سورة النساء ( 109 ) . والأكثر أن يكون اسم الإشارة في مثله مجرداً عن ( ها ) اكتفاء ب ( هاء ) التنبيه التي في أول التركيب كقوله تعالى : { ها أنتم أولاء تحبونهم } في سورة آل عمران ( 119 ) .

وجملة { تُدْعَون } في موضع الحال من اسم الإشارة ، ومجموع ذلك يفيد حصول مدلول جملة الحال لصاحبها حصولاً واضحاً .

وزعم كثير من النحاة أن عدم ذكر اسم الإشارة بعد ( ها أنا ) ونحوه لحن ، لأنه لم يسمع دخول ( ها ) التنبيه على اسم غير اسم الإشارة كما ذكره صاحب « مغني اللبيب » ، بناء على أن ( ها ) التنبيه المذكورة في أول الكلام هي التي تدخل على أسماء الإشارة في نحو : هذا وهؤلاء ، وأن الضمير الذي يذكر بعدها فصل بينها وبين اسم الإشارة . ولكن قد وقع ذلك في كلام صاحب « المغني » في ديباجة كتابه إذ قال : وها أنا بائح بما أسررته ، وفي موضعين آخرين منه نبه عليهما بدر الدين الدماميني في شرحه « المزج على المغني » ، وذكر في شرحه الذي بالقول المشتهر ب« الحواشي الهندية » أن تمثيل الزمخشري في « المفصل » بقوله : ها إن زيداً منطلق يقتضي جواز : ها أنا أفعل ، لكن الرضِيّ قال : لم أعثر بشاهد على وقوع ذلك .

وجملة { والله الغني وأنتم الفقراء } تذييل للشيء قبلها فالله الغني المطلق ، والغني المطلق لا يسأل الناس مالاً في شيء ، والمخاطبون فقراء فلا يطمع منهم البذل فتعين أن دعاءهم لينفقوا في سبيل الله دعاء بصرف أموالهم في منافعهم كما أشار إلى ذلك قوله : { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } .

والتعريف باللام في { الغني } وفي { الفقراء } تعريف الجنس ، وهو فيهما مؤذن بكمال الجنس في المخبر عنه ، ولما وقعا خبرين وهما معرفتان أفادا الحصْر ، أي قصر الصفة على الموصوف ، أي قصر جنس الغنِيّ على الله وقصر جنس الفقراء على المخاطبين ب { أنتم } وهو قصر ادعائي فيهما مرتب على دلالة ال على معنى كمال الجنس ، فإن كمال الغنى لله لا محالة لعمومه ودوامه ، وإن كان يثبت بعض جنس الغني لغيره . وأما كمال الفقر للناس فبالنسبة إلى غنى الله تعالى وإن كانوا قد يغْنَون في بعض الأحوال لكن ذلك غنًى قليل وغير دائم .

{ وإن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أمثالكم } .

عطف على قوله : { وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم } [ محمد : 36 ] . والتولي : الرجوع ، واستعير هنا لاستبدال الإيمان بالكفر ، ولذلك جعل جزاؤه استبدال قوم غيرهم كما استبدلوا دينَ الله بدين الشرك .

والاستبدال : التبديل ، فالسين والتاء للمبالغة ، ومفعوله { قوماً } . والمستبدَل به محذوف دل على تقديره قوله { غيركم } ، فعلم أن المستبدل به هو ما أضيف إليه ( غير ) لِتعيّن انحصار الاستبدال في شيئين ، فإذا ذكر أحدهما علم الآخر . والتقدير : يستبدل قوماً بكم لأن المستعمَل في فعل الاستبدال والتبديل أن يكون المفعولُ هو المعوَّض ومجرور الباء هو العوَض كقوله : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } تقدم في سورة البقرة ( 61 ) . وإن كان كلا المتعلقين هو في المعنى معوض وعوض باختلاف الاعتبار ، ولذلك عدل في هذه الآية عن ذكر المجرور بالباء مع المفعول للإيجاز . والمعنى : يتخذ قوماً غيركم للإيمان والتقوى ، وهذا لا يقتضي أن الله لا يوجد قوماً آخرين إلاّ عند ارتداد المخاطبين ، بل المراد : أنكم إن ارتددتم عن الدين كان لله قوم من المؤمنين لا يرتدون وكان لله قوم يدخلون في الإيمان ولا يرتدون .

روى الترمذي عن أبي هريرة قال : تَلا رسول الله هذه الآية وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } . قالوا : ومن يُستبدَل بنا ؟ قال : فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على منكب سَلْمان الفارسي ثم قال : هذا وقومُه ، هذا وقومه » قال الترمذي حديث غريب . وفي إسناده مقال . وروى الطبراني في « الأوسط » : هذا الحديث على شرطِ مسلم وزاد فيه " والذي نفسي بيده لو كان الإيمانُ منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس " .

وأقول هو يدل على أن فارس إذا آمنوا لا يرتدون وهو من دلائل نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم فإن العرب ارتد منهم بعض القبائل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتدّ البربر بعد فتح بلادهم وإيمانهم ثنتي عشرة مرة فيما حكاه الشيخ أبو محمد ابن أبي زيد ، ولم يرتد أهل فارس بعد إيمانهم .

و { ثم } للترتيب الرتبي لإفادة الاهتمام بصفة الثبات على الإيمان وعلوّها على مجرد الإيمان ، أي ولا يكونوا أمثالكم في التولِّي . والجملة معطوفة ب ( ثم ) على جملة { يستبدل قوماً غيركم } فهي في حيّز جواب الشرط والمعطوف على جواب الشرط بحرف من حروف التشريك يجوز جزمه على العطف ، ويجوز رفعه على الاستئناف . وقد جاء في هذه الآية على الجزم وجاء في قوله تعالى : { وإن يقاتلوكم يولُّوكم الأدبار ثم لا ينصرون } [ آل عمران : 111 ] على الرفع . وأبدى الفخر وجهاً لإيثار الجزم هنا وإيثار الاستئناف هنالك فقال : وهو مع الجواز فيه تدقيق وهو أن ههنا لا يكون متعلقاً بالتولّي لأنهم إن لم يتولوا يكونون ممن يأتي الله بهم على الطاعة ، وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين وكون من يأتي الله بهم مطيعين ، وأما هنالك فسواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا يُنصرون فلم يكن للتعليق أي بالشرط هنالك وجه فرفع بالابتداء وههنا جُزم للتعليق اه . وهو دقيق ويزاد أن الفعل المعطوف على الجزاء في آية آل عمران وقع في آخر الفاصلة التي جرت أخواتها على حرف الواو والنون فلو أوثر جزم الفعل لأزيلت النون فاختلّت الفاصلة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{هَـٰٓأَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبۡخَلُۖ وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُۚ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ يَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمۡثَٰلَكُم} (38)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره للمؤمنين:"ها أنْتُمْ" أيها الناس "هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ "يقول: تدعون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونُصرة دينه "فمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ" بالنفقة فيه، وأدخلت «ها» في موضعين، لأن العرب إذا أرادت التقريب جعلت المكنيّ بين «ها» وبين «ذا»، فقالت: ها أنت ذا قائما، لأن التقريب جواب الكلام، فربما أعادت «ها» مع «ذا»، وربما اجتزأت بالأولى، وقد حُذفت الثانية، ولا يقدّمون أنتم قبل «ها»، لأن ها جواب فلا تقرب بها بعد الكلمة.

وقال بعض نحويي البصرة: جعل التنبيه في موضعين للتوكيد.

وقوله: "وَمَنْ يَبْخَلْ فإنّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ" يقول تعالى ذكره: ومن يبخل بالنفقة في سبيل الله، فإنما يبخل عن بخل نفسه، لأن نفسه لو كانت جوادا لم تبخل بالنفقة في سبيل الله، ولكن كانت تجود بها.

"وَاللّهُ الغَنِيّ وأنْتُمُ الفُقَرَاءُ" يقول تعالى ذكره: ولا حاجة لله أيها الناس إلى أموالكم ولا نفقاتكم، لأنه الغنيّ عن خلقه والخلق الفقراء إليه، وأنتم من خلقه، فأنتم الفقراء إليه، وإنما حضكم على النفقة في سبيله، ليُكسبكم بذلك الجزيل من ثوابه... وقوله تعالى ذكره: "وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ" يقول تعالى ذكره: وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم، فترتدّوا راجعين عنه، "يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ" يقول: يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلاً منكم يصدّقون به، ويعملون بشرائعه.

"ثُمّ لا يكُونُوا أمْثالَكُمْ" يقول: ثم لا يبخلوا بما أُمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يُؤمرون به...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{هؤلاء} موصول بمعنى الذين صلته {تُدْعَوْنَ} أي أنتم الذين تدعون. أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، ثم استأنف وصفهم، كأنهم قالوا: وما وصفنا؟ فقيل: تدعون {لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} قيل: هي النفقة في الغزو. وقيل: الزكاة، كأنه قيل: الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء واضطغنتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر، فمنكم ناس يبخلون به، ثم قال: {وَمَن يَبْخَلْ} بالصدقة وأداء الفريضة. فلا يتعداه ضرر بخله، وإنما {يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} يقال بخلت عليه وعنه، وكذلك ضننت عليه وعنه. ثم أخبر أنه لا يأمر بذلك ولا يدعو إليه لحاجته إليه، فهو الغني الذي تستحيل عليه الحاجات، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} معطوف على: وإن تؤمنوا وتتقوا {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} يخلق قوماً سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى، غير متولين عنهما...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{هؤلاء} يحتمل وجهين:

(أحدهما) أن تكون موصولة كأنه قال: أنتم هؤلاء الذين تدعون لتنفقوا في سبيل الله.

(وثانيهما) {هؤلاء} وحدها خبر {أنتم} كما يقال أنت هذا تحقيقا للشهرة والظهور أي ظهر أثركم بحيث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمر مغاير ثم يبتدئ {تدعون}.

وقوله {تدعون} أي إلى الإنفاق إما في سبيل الله تعالى بالجهاد، وإما في صرفه إلى المستحقين من إخوانكم، وبالجملة ففي الجهتين تخذيل الأعداء ونصرة الأولياء. {فمنكم من يبخل}، ثم بين أن ذلك البخل ضرر عائد إليه فلا تظنوا أنهم لا ينفقونه على غيرهم بل لا ينفقونه على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة الطبيب وثمن الدواء وهو مريض فلا يبخل إلا على نفسه، ثم حقق ذلك بقوله {والله الغني} غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله {وأنتم الفقراء} حتى لا تقولوا إنا أيضا أغنياء عن القتال، ودفع حاجة الفقراء فإنهم لا غنى لهم عن ذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنه لولا القتال لقتلوا، فإن الكافر إن [لم] يُغز يَغز، والمحتاج إن لم يدفع حاجته يقصده، لاسيما أباح الشارع للمضطر ذلك، وأما في الآخرة فظاهر فكيف لا يكون فقيرا وهو موقوف مسؤول {يوم لا ينفع مال ولا بنون}...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ها أنتم} وحقر أمرهم أو أحضره في الذهن وصوره بقوله: {هؤلاء تدعون} أي- إلى ربكم الذي لا يريد بدعائكم إلا نفعكم وأما هو فلا يلحقه نفع ولا ضر {لتنفقوا} شيئاً يسيراً من الزكاة ...

... {في سبيل الله} أي الملك الأعظم الذي يرجى خيره ويخشى ضيره، بخلاف من يكون وما يكون به اللهو اللعب...

. {فمنكم} أي أيها المدعون {من يبخل} وهو منكم لا شك فيه، وحذف القسم الآخر- وهو "ومنكم من يجود "لأن المراد الاستدلال على ما قبله من البخل. ولما كان بخله عمن أعطاه المال بجزء يسير منه إنما طلبه ليقع المطلوب منه فقط زاد العجب بقوله: {ومن} أي والحال أنه من {يبخل} بذلك {فإنما يبخل} أي بماله بخلاً صادراً {عن نفسه} التي هي منبع الدنايا، فلا تنفس ولا تنافس إلا في الشيء الخسيس، فإن نفع ذلك الذي طلب منه فبخل به إنما هو له، وأكده لأنه لا يكاد أحد يصدق أن عاقلاً يتجاوز بماله عن نفع نفسه...

{والله} أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {الغني} أي وحده {وأنتم} أيها المكلفون خاصة {الفقراء} لأن العطاء ينفعكم والمنع يضركم. فمن افتقر منكم إلى فقير مثله وقع في الذل والهوان، وقد جرت عادتكم أن يداخلكم من السرور ما لا يجد إذا طلب من أحد منكم أحد من- الأجود الأغنياء شيئاً طمعاً في جزائه، فكونوا كذلك وأعظم إذا طلب منكم الغنى المطلق...

{وإن تتولوا} أي توقعوا التولي عنه تكلفوا أنفسكم ضد ما تدعو إليه الفطرة الأولى من السماح بذلك الجزاء اليسير جداً الموجب للثواب الخطير والفوز الدائم، ومن الجهاد في سبيله، والقيام بطاعته، لكونه المحسن الذي لا محسن في الحقيقة غيره {يستبدل} أي يوجد {قوماً} فيهم قوة وكفاية لما يطلب منهم محاولته...

{غيركم} أي بدلاً منكم وهو على غير صفة التولي. ولما كان الناس متقاربين في الجبلات، وكان المال محبوباً، كان من المستبعد جداً أن يكون هذا البذل على غير ما هم عليه، قال تعالى مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي تأكيداً لما أفهمه ما قلته من التعبير ب "غير" وتثبيتاً له-: {ثم} أي بعد استبعاد من يستبعد و- علو الهمة في مجاوزة جميع عقبات النفس والشيطان: {لا يكونوا أمثالكم *} في التولي عنه بترك شيء مما أمر به أو فعل شيء مما نهى عنه، ومن قدر على الإيجاد قدر على الإعدام. بل هو أهون في مجاري العادات...

.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

والدليل على أن الله لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها، أنكم تمتنعون منها، أنكم {تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على هذا الوجه، الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية. {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} أي: فكيف لو سألكم، وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة؟ أليس من باب أولى وأحرى امتناعكم من ذلك. ثم قال: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} لأنه حرم نفسه ثواب الله تعالى، وفاته خير كثير، ولن يضر الله بترك الإنفاق شيئا. فإن الله هو {الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم، لجميع أموركم. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} عن الإيمان بالله، وامتثال ما يأمركم به {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} في التولي، بل يطيعون الله ورسوله، ويحبون الله ورسوله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والآية ترسم صورة وصفية لواقع الجماعة المسلمة يومذاك. ولواقع الناس تجاه الدعوة إلى البذل في كل بيئة. فهي تقرر أن منهم من يبخل. ومعنى هذا أن هنالك من لا يبخلون بشيء. وقد كان هذا واقعا، سجلته الروايات الكثيرة الصادقة، وسجله القرآن في مواضع أخرى. وقد حقق الإسلام في هذا المجال مثلا تحسب من خوارق الأمثال في البذل والتضحية عن رضى وعن فرح بالبذل والعطاء. ولكن هذا لم يمنع أن يكون هنالك من يبخل بالمال. ولعل الجود بالنفس أرخص عند بعضهم من الجود بالمال!... فما يبذله الناس إن هو إلا رصيد لهم مذخور، يجدونه يوم يحتاجون إلى رصيد...

(والله الغني وأنتم الفقراء).. فهو الذي أعطاكم أموالكم...

. (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم).. وإنها لنذارة رهيبة لمن ذاق حلاوة الإيمان، وأحس بكرامته على الله، وبمقامه في هذا الكون وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم. ويمشي في الإرض بسلطان الله في قلبه؛ ونور الله في كيانه؛ ويذهب ويجيء وعليه شارة مولاه.. وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها ثم تسلب منه، ويطرد من الكنف، وتوصد دونه الأبواب. لا بل إن الحياة لتغدو جحيما لا يطاق عند من يتصل بربه ثم يطبق دونه الحجاب. إن الإيمان هبة ضخمة، لا يعدلها في هذا الوجود شيء؛ والحياة رخيصة رخيصة، والمال زهيد زهيد، حين يوضع الإيمان في كفة، ويوضع في الكفة الأخرى كل ما عداه.. ومن ثم كان هذا الإنذار أهول ما يواجهه المؤمن وهو يتلقاه من الله...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فيجوز أن يكون المعنى: تُدْعَون لتنفقوا في سبيل الله لتدفعوا أعداءكم عنكم وليس ذلك لينتفع به الله كما قال: {والله الغني وأنتم الفقراء}. ونظم الكلام يقتضي أن هذه دعوة للإنفاق في الحال وليس إعلاماً لهم بأنهم سيدعون للإنفاق فهو طلبٌ حاصل. ويحمل {تدْعَون} على معنى تؤمرون أي أمر إيجاب. ويجوز أن يحمل {تدعون} على دعوة الترغيب... {والله الغني وأنتم الفقراء}...

فالله الغني المطلق، والغني المطلق لا يسأل الناس مالاً في شيء، والمخاطبون فقراء فلا يطمع منهم البذل فتعين أن دعاءهم لينفقوا في سبيل الله دعاء بصرف أموالهم في منافعهم كما أشار إلى ذلك قوله: {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه}. والتعريف باللام في {الغني} وفي {الفقراء} تعريف الجنس، وهو فيهما مؤذن بكمال الجنس في المخبر عنه...

{وإن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أمثالكم}...

والتولي: الرجوع، واستعير هنا لاستبدال الإيمان بالكفر، ولذلك جعل جزاؤه استبدال قوم غيرهم كما استبدلوا دينَ الله بدين الشرك. والاستبدال: التبديل...

قوله {غيركم}، فعلم أن المستبدل به هو ما أضيف إليه (غير) لِتعيّن انحصار الاستبدال في شيئين، فإذا ذكر أحدهما علم الآخر. والتقدير: يستبدل قوماً بكم...

.والمعنى: يتخذ قوماً غيركم للإيمان والتقوى، وهذا لا يقتضي أن الله لا يوجد قوماً آخرين إلاّ عند ارتداد المخاطبين، بل المراد: أنكم إن ارتددتم عن الدين كان لله قوم من المؤمنين لا يرتدون وكان لله قوم يدخلون في الإيمان ولا يرتدون...

و {ثم} للترتيب الرتبي لإفادة الاهتمام بصفة الثبات على الإيمان وعلوّها على مجرد الإيمان، أي ولا يكونوا أمثالكم في التولِّي...

.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم). أجل، إنّ هذا الحمل لن يسقط على الأرض أبداً، وهذه الرسالة العظيمة لا يمكن أن يتوقّف مسيرها، فإن أنتم لم تستمروا في موقفكم في الذب عن دين الله، واستصغرتم شأن هذه الرسالة العظيمة، فإنّ الله سبحانه سوف يأتي بقوم يتحمّلون أعباء هذه الرسالة.. أُولئك قوم يفوقونكم مرّات في الإيثار والتضحية وبذل الأنفس والأموال والإنفاق في سبيل الله!...وقد جاء نظير هذا التهديد في الآية (54) من سورة المائدة، حيث تقول: (يا أيّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)...