{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } من إذن المنافقين في التخلف أو برأهم عن علقة الذنوب كقوله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وقيل : هو بعث على التوبة والمعنى : ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعا } إذ ما من أحد إلا وله مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة وإظهار لفضلها بأنها مقام الأنبياء والصالحين من عباده . { الذين اتبعوه في ساعة العُسرة } في وقتها هي حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد والزاد حتى قيل إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة والماء حتى شربوا القيظ . { من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم } عن الثبات على الإيمان أو اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام وفي { كاد } ضمير الشأن أو ضمير القوم والعائد إليه الضمير في { منهم } . وقرأ حمزة وحفص { يزيغ } بالياء لأن تأنيث القلوب غير حقيقي . وقرئ " من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم " يعني المتخلفين . { ثم تاب عليهم } تكرير للتأكيد وتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة ، أو المراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم . { إنه بهم رءوف رحيم } .
انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف ، وما طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تُجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده ، فالجملة استئناف ابتدائي .
وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالاً ماضية .
ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك .
وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغُزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
ومعنى { تاب } عليه : غفر له ، أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنباً أم لم يكنه ، كقوله تعالى : { علم أنْ لن تحصوه فتاب عليكم } [ المزمل : 20 ] أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة . فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبي صلى الله عليه وسلم « لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم »
وأما توبة الله على الثلاثة الذين خُلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم .
والمهاجرون والأنصار : هم مجموع أهل المدينة ، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة ، ولكنهم خُصوا بالثناء لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحوا بأموالهم ، فكانوا إسوة لمن اتَّسى بهم من غيرهم من القبائل .
ووصف المهاجرون والأنصار ب { الذين اتبعوه } للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسبباً في هذه المغفرة .
ومعنى { اتبعوه } أطاعوه ولم يخالفوا عليه ، فالاتباع مجازي .
والعسرة : اسم العسر ، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة . وساعة العسرة هي زمن استنفار النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة تبوك . فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقوله : { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه ، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد . ويدل لذلك قوله : { من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم } أي من المهاجرين والأنصار ، فإنه متعلق ب { اتبعوه } أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقاً منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين ، فإن ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج ، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع .
و { كاد } من أفعال المقاربة تعمل في اسمين عَملَ كانَ ، واسمُها هنا ضمير شأن مقدر ، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن ، وإنما جُعل اسمها هنا ضمير شأن لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ .
وقرأ الجمهور { تَزيغ } بالمثناة الفوقية . وقرأه حمزة ، وحفص عن عاصم ، وخلف بالمثناة التحتية . وهما وجهان في الفعل المسند لجمع تكسير ظاهر . والزيغ : الميل عن الطريق المقصود . وتقدم عند قوله تعالى : { ربنا لا تزغ قلوبنا } في سورة آل عمران ( 8 ) .
وجملة { ثم تاب عليهم } عطف على جملة { لقد تاب الله } أي تاب على غير هذا الفريق مطلقاً ، وتاب على هذا الفريق بعد ما كادت قلوبهم تزيغ ، فتكون { ثم } على أصلها من المهلة . وذلك كقوله في نظير هذه الآية { ثم تاب عليهم ليتوبوا } [ التوبة : 118 ] . والمعنى تاب عليهم فأهموا به وخرجوا فلقوا المشقة والعسر ، فالضمير في قوله { عليهم } لل { فريق } . وجوز كثير من المفسرين أن تكون { ثم } للترتيب في الذكر ، والجملة بعدها توكيداً لجملة { تاب الله } ، فالضمير للمهاجرين والأنصار كلهم .
وجملة : { إنه بهم رءوف رحيم } تعليل لما قبلها على التفسيرين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.