نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنۡهُمۡ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (117)

ولما أشار إلى أنه هو وليهم أحياهم بروح منه مبين لهم ما يصلحهم وأنه لا ولي {[37305]}لهم غيره{[37306]} ، أقام الدليل على ذلك بقوله : { لقد تاب الله } أي الذي له الجلال والإكرام { على النبي } أي الذي لا يزال عنده من الله خبر عظيم يرشده إلى ما يؤذن بتقوية حياته برفع درجاته ، فما من مقام يرقيه إليه إلا رأى أنه لمزيد {[37307]}علوه وتقربه{[37308]} للمقام الذي كان دونه ، فهو في كل لمحة في ارتقاء من كامل إلى أكمل إلى ما لا نهاية له .

ولما أخبر تعالى بعلو رتبة النبي صلى الله عليه وسلم {[37309]}بترقيته في{[37310]} رتب الكمالات والأكمليات إلى ما لا نهاية له على وجه هو في غاية البعث لكل مؤمن على المبادرة إلى التوبة ، أكد ذلك بقوله : { والمهاجرين والأنصار } بمحو هفواتهم ورفع درجاتهم { الذين اتبعوه } أي النبي صلى الله عليه وسلم { في ساعة العسرة } أي أزمنة غزوة تبوك ، كانوا في عسرة من الزمان بالجدب والضيقة الشديدة والحر الشديد ، وعسرة من الظهر " {[37311]}يعتقب العشرة " {[37312]} على بعير واحد . وعسرة من الزاد " تزودوا التمر المدوّد{[37313]} والشعير المسوّس{[37314]} والإهالة الزنخة " وبلغت بهم الشدة أن اقتسم التمرة اثنان ، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء ، وفي{[37315]} عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها ؛ وسماها ساعة تهويناً{[37316]} لأوقات{[37317]} الكروب وتشجيعاً على مواقعة المكاره فإن أمدها{[37318]} يسير وأجرها عظيم خطير ، فكانت حالهم باتباعه في هذه الغزوة أكمل من حالهم قبلها ، وأشار سبحانه إلى تفاوتهم في الثبات على مقامات عالية ، ترقوا بالتوبة{[37319]} إلى أعلى منها ، وفي قبول وساوس أبعدتهم التوبة عن قبولها بقوله : { من بعد ما كاد } أي قرب قرباً عظيماً { تزيغ }{[37320]} أي تزول عن أماكنها الموجبة لصلاحها ، وأشار ب " من " إلى تقارب{[37321]} ما بين كيدودة{[37322]} الزيغ والتدارك بالتوبة . ولما كان المقام للزلازل{[37323]} ، ناسب التعبير بما منه الانقلاب والفرقة فقال : { قلوب فريق } أي هم بحيث تحصل{[37324]} منهم الفرقة لما هناك من الزلازل المميلة{[37325]} { منهم } أي من{[37326]} عظيم ما نالهم من الشدائد فتميل{[37327]} لذلك عن الحق كأبي خيثمة ومن أحب الراحة وهاب السفر في ذلك الحر الشديد إلى بني الأصفر الملوك الصيد الأبطال الصناديد ، وهم ملء الأرض كثرة وقدر الحصى عدة ومثل الجبال شدة ، ثم عزم الله له فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع سبحانه بالجميع إلى ما كانوا عليه قبيل{[37328]} مقاربة الزيغ من مباعدته ، ولما صاروا كمن لم{[37329]} يقارب الزيغ .

أعلاهم إلى مقام آخر عبرعن عظمته بأداة التراخي فقال : { ثم تاب عليهم } أي كلهم تكريراً للرفعة ، أو على من كاد يزيغ{[37330]} بالثبات على مباعدة الزلات وبالترقي في أعالي الدرجات إلى الممات ؛ ونقل أبو حيان عن الحسن أن زيغها همها بالانصراف لما لقيت من المشقة ، قال وقيل : ساء ظنها بما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر{[37331]} وبعد الشقة وقوة العدو المقصود -انتهى . ويجوز أن يكون عبر ب { ثم } لوصولهم إلى حالة يبعد{[37332]} معها الثبات فضلاً عن مباعدة مواقع الزلات فثبتها حتى عادت كالحديد من غير سبب ظاهر من {[37333]} " جيش أو غيره " {[37334]} فثبت بذلك أنه{[37335]} مالك الملك متمكن من فعل كل ما يريده وأنه لا ولي لهم سواه : ثم علل لطفه بهم بقوله : { إنه بهم رؤوف رحيم* } والرأفة : شدة الرحمة ، فقدم الأبلغ فيقال فيه ما قيل في { الرحمن الرحيم }{[37336]} فالمعنى أنه يرحمهم أعلى الرحمة بإسباغ جلائل النعم ودفع جلائل النقم ، ويرحمهم{[37337]} أيضاً بإسباغ دقائق النعم ودفع دقائق النقم ، وقيل : الرأفة : إزالة الضر ، والرحمة : إيصال النفع ، ومادة رأف تدور مع السعة{[37338]} على ما أُشير إليه في سورة سبحان على شدة الوصلة . فالرأفة{[37339]} - كما قال الحرالي في البقرة - عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة ، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم ، والرحمة تعم من لا صلة له بالراحم - انتهى . فتكون الرأفة حينئذ للثابتين{[37340]} والرحمة لمن قارب الزيغ . فيصير الثابت مرحوماً مرتين لأنه منظور إليه بالصفتين ، وتقدم عند الحزبين من البقرة ما ينفع هنا .


[37305]:في ظ: له غيرهم.
[37306]:في ظ: له غيرهم.
[37307]:في ظ: علو رتبة.
[37308]:في ظ: علو رتبة.
[37309]:في ظ: بترقيه إلى.
[37310]:في ظ: بترقيه إلى.
[37311]:من ظ وروح المعاني 3/384، وفي الأصل: يعتقب العسرة ـ كذا.
[37312]:من ظ وروح المعاني 3/384، وفي الأصل: يعتقب العسرة ـ كذا.
[37313]:زيد من الروح.
[37314]:زيد من ظ والروح.
[37315]:سقط من ظ.
[37316]:في ظ: تهويلا.
[37317]:من ظ، وفي الأصل: لأهل.
[37318]:في ظ: أمرها.
[37319]:من ظ، وفي الأصل: بالسوية.
[37320]:والقراءة الثابتة في مصاحفنا: يزيغ.
[37321]:في ظ: تفاوت.
[37322]:من ظ، وفي الأصل: كيدورة.
[37323]:من ظ، وفي الأصل: للزلزال.
[37324]:في ظ: تصل.
[37325]:في ظ: المهيلة.
[37326]:سقط من ظ.
[37327]:من ظ، وفي الأصل: فيميل.
[37328]:في ظ: قبل.
[37329]:من ظ، وفي الأصل: لا.
[37330]:زيد من ظ.
[37331]:من ظ والبحر المحيط 5/109، وفي الأصل: الوفد.
[37332]:من ظ، وفي الأصل: تبعد.
[37333]:من ظ، وفي الأصل: عيش أو عبرة.
[37334]:من ظ، وفي الأصل: عيش أو عبرة.
[37335]:في ظ: أن.
[37336]:في ظ: الرحيم الرحمن.
[37337]:في ظ: يرحم.
[37338]:من ظ، وفي الأصل: السبعة.
[37339]:من ظ، وفي الأصل: فالراء.
[37340]:من ظ، وفي الأصل: لليايس.