البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنۡهُمۡ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (117)

{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم } : لما تقدم الكلام في أحوال المنافقين من تخلفهم عن غزوة تبوك ، واستطرد إلى تقسيم المنافقين إلى أعراب وغيرهم ، وذكر ما فعلوا من مسجد الضرار ، وذكر مبايعة المؤمنين الله في الجهاد وأثنى عليهم ، وأنه ينبغي أن يباينوا المشركين حتى الذين ماتوا منهم بترك الاستغفار لهم ، عاد إلى ذكر ما بقي من أحوال غزوة تبوك ، وهذه شنشنة كلام العرب يشرعون في شيء ثم يذكرون بعده أشياء مناسبة ويطيلون فيها ، ثم يعودون إلى ذلك الشيء الذي كانوا شرعوا فيه .

قال ابن عطية : التوبة من الله رجوعه لعبده من حالة إلى حالة أرفع منه ، وقد يكون في الأكثر رجوعاً عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة ، وقد يكون رجوعاً من حالة طاعة إلى أكمل منها .

وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه رجع به من حالة قبل تحصيل الغزوة وتحمل مشاقها ، إلى حاله بعد ذلك أكمل منها .

وأما توبته على المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأنْ تكون من نقصان إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين ، وأما توبته على الفريق فرجوع من حالة محطوطة إلى حالة غفران ورضا .

وقال الزمخشري : تاب الله على النبي كقوله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر } { واستغفر لذنبك } وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبي والمهاجرون والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى ، وأنّ صفة الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين لتظهر فضيلة الصلاح .

وقيل : معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه لقوله تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } انتهى .

وقيل : لا يبعد إن صدر عن المهاجرين والأنصار أنواع من المخالفات ، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر ، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذكرهم تنبيهاً على عظم مراتبهم في قبول التوبة .

اتبعوه : أي اتبعوا أمره ، فهو من مجاز الحذف .

ويجوز أن يكون هو ابتدأ بالخروج ، وخرجوا بعده فيكون الاتباع حقيقة ساعة العسرة أي : في وقت العسرة ، والتباعة مستعارة للزمان المطلق ، كما استعاروا الغداة والعشية واليوم .

قال :

غداة طفت علماء بكر بن وائل *** عشية قارعنا جذام وحِميرا

وآخر :

إذا جاء يوماً وارثي يبتغي الغنى ***

وهي غزوة تبوك كانت تسمى غزوة العسرة ، ويجوز أن يريد بساعة العسرة الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة ، إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة ، وبها وفيها يقع الأجر على الله وترتبط النية ، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد أنفع في ساعة عسرة ، ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرهم لما اختل كونهم متبعين في ساعة العسرة .

والعسرة : الضيق والشدة والعدم ، وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من جهز جيش العسرة فله الجنة » فجهزه عثمان بن عفان بألف جمل وألف دينار .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب الدنانير بيده وقال :

« وما على عثمان ما عمل بعد هذا » وجاء أنصاري بسبعمائة وسق من بر .

وقال مجاهد ، وقتادة ، والحسن : بلغت العسرة بهم إلى أن كان العشرة منهم يعتقبون على بعير واحد من قلة الظهر ، وإلى أن قسموا التمرة بين الرجلين ، وكان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمصها أحدهم ويشرب عليها الماء ، ثم يفعل بها كلهم ذلك .

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ، ويعصرون الفرث حتى استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه يدعو ، فما رجعها حتى انسكبت سحابة ، فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا ، فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر .

وفي هذه الغزوة هموا من المجاعة بنحر الإبل ، فأمر بجمع فضل أزوادهم حتى اجتمع منه على النطع شيء يسير ، فدعا فيه بالبركة ثم قال : « خذوا في أوعيتكم فملأوها حتى لم يبق وعاء » وأكل القوم كلهم حتى شبعوا ، وفضلت فضلة .

وكان الجيش ثلاثين ألفاً وزيادة ، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم ، وفيها خلف علياً بالمدينة .

وقال المنافقون خلفه بغضاً له ، فأخبره بقولهم فقال : « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى » ؟ ووصل صلى الله عليه وسلم إلى أوائل بلاد العدو ، وبث السرايا ، فصالحه أهل أذرح وأيلة وغيرهما على الجزية وانصرف .

{ تزيغ قلوب فريق } قال الحسن : همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة .

وقيل : زيغها كان بظنون لها ساءت في معنى عزم الرسول على تلك الغزوة ، لما رأته من شدّة العسرة وقلة الوفر ، وبعد الشقة ، وقوة العدو المقصود .

وقال ابن عباس : تزيغ ، تعدل عن الحق في المبايعة .

وكاد تدل على القرب ، لا على التلبس بالزيغ .

وقرأ حمزة وحفص : يزيغ بالياء ، فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن ، وارتفاع قلوب بتزيغ لامتناع أن يكون قلوب اسم كاد وتزيغ في موضع الخبر ، لأنّ النية به التأخير .

ولا يجوز من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء .

وقرأ باقي السبعة : بالتاء ، فاحتمل أن يكون قلوب اسم كاد ، وتزيغ الخبر وسط بينهما ، كما فعل ذلك بكان .

قال أبو علي : ولا يجوز ذلك في عسى ، واحتمل أن يكون فاعل كاد ضمير يعود على الجمع الذي يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار ، أي من بعد ما كاد هو أي : الجمع .

وقد قدر المرفوع بكاد باسم ظاهر وهو القوم ابن عطية وأبو البقاء ، كأنه قال : من بعد ما كاد القوم .

وعلى كل واحد من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرّر في علم النحو : من أنّ خبر أفعال المقاربة لا يكون إلا مضارعاً رافعاً ضمير اسمها .

فبعضهم أطلق ، وبعضهم قيد بغير عسى من أفعال المقاربة ، ولا يكون سبباً ، وذلك بخلاف كان .

فإنّ خبرها يرفع الضمير ، والسبي لاسم كاد ، فإذا قدّرنا فيها ضمير الشأن كانت الجملة في موضع نصب على الخبر ، والمرفوع ليس ضميراً يعود على اسم كاد بل ولا سبباً له ، وهذا يلزم في قراءة الياء أيضاً .

وأما توسيط الخبر فهو مبني على جواز مثل هذا التركيب في مثل كان : يقوم زيد ، وفيه خلاف ، والصحيح المنع .

وأما توجيه الآخر فضعيف جداً من حيث أضمر في كاد ضمير ليس له على من يعود إلا بتوهم ، ومن حيث يكون خبر كاد واقعاً سببياً ، ويخلص من هذه الإشكالات اعتقاد كون كاد زائدة ، ومعناها مراد ، لا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر ، فتكون مثل كان إذا زيدت ، يراد معناها ولا عمل لها .

ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود : من بعد ما زاغت ، بإسقاط كاد .

وقد ذهب الكوفيون إلا زيادتها في قوله تعالى : { لم يكد يراها } مع تأثيرها للعامل ، وعملها هي .

فأحرى أن يدعي زيادتها ، وهي ليست عاملة ولا معمولة .

وقرأ الأعمش والجحدري : تزيغ برفع التاء .

وقرأ أبي : من بعد ما كادت تزيغ ثم تاب عليهم ، الضمير في عليهم عائد على الأولين ، أو على الفريق فالجملة كرّرت تأكيداً .

أو يراد بالأول إنشاء التوبة ، وبالثاني استدامتها .

أو لأنه لما ذكر أنّ فريقاً منهم كادت قلوبهم تزيغ نص على التوبة ثانياً رفعاً لتوهم أنهم مسكوت عنهم في التوبة ، ثم ذكر سبب التوبة وهو رأفته بهم ورحمته لهم .