{ كيف تكفرون بالله } استخبار فيه إنكار ، وتعجيب لكفرهم بإنكار الحال التي يقع عليها على الطريق البرهاني ، فإن صدوره لا ينفك عن حال وصفة فإذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها استلزم ذلك إنكار وجوده ، فهو أبلغ وأقوى في إنكار الكفر ، من ( أتكفرون ) وأوفق لما بعده من الحال ، والخطاب مع الذين كفروا لما وصفهم بالكفر وسوء المقال وخبث الفعال ، خاطبهم على طريقة الالتفات ، ووبخهم على كفرهم مع علمهم بحالهم المقتضية خلاف ذلك ، والمعنى أخبروني على أي حال تكفرون .
{ وكنتم أمواتا } أي أجساما لا حياة لها ، عناصر وأغذية ، وأخلاطا ونطفا ، ومضغا مخلفة وغير مخلفة .
فأحياكم بخلق الأرواح ونفخها فيكم ، وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي .
{ ثم يميتكم } عندما تقضي آجالكم . { ثم يحييكم } بالنشور يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور { ثم إليه ترجعون } بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم . أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب ، فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه . فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم ، لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون . قلت تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر ، سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو : أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا قدر على أن يحييهم ثانيا ، فإن بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته . أو الخطاب مع القبيلين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوة ، ووعدهم على الإيمان ، وأوعدهم على الكفر ، أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة والخاصة ، واستقبح صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة ، فإن عظم النعم يوجب عظم معصية النعم ، فإن قيل : كيف تعد الإماتة من النعم المقتضية للشكر ؟ قلت : لما كانت وصلة إلى الحياة الثانية التي هي الحياة الحقيقية كما قال تعالى : { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } ، كانت من النعم العظيمة مع أن المعدود عليهم نعمة هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها ، كما أن الواقع حالا هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل ، فإن بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح أن يقع حالا . أو مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم ، وتبعيد الكفر عنهم على معنى ، كيف يتصور منكم الكفر وكنتم أمواتا جهالا ، فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ، ثم يميتكم الموت المعروف ، ثم يحييكم الحياة الحقيقية ، ثم إليه ترجعون ، فيثيبكم بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . والحياة حقيقة في القوة الحساسة ، أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيوانا مجازا في القوة النامية ، لأنها من طلائعها ومقدماتها ، وفيما يخص الإنسان من الفضائل كالعقل والعلم والإيمان من حيث إنها كمالها وغايتها ، والموت بإزائها على ما يقابلها في كل مرتبة قال تعالى : { قل الله يحييكم ثم يميتكم } . وقال { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } وقال : { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } وإذا وصف به الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا ، أو معنى قائم بذاته يقتضي ذلك على الاستعارة . وقرأ يعقوب ترجعون بفتح التاء في جميع القرآن .
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 28 )
وقوله تعالى : { كيف تكفرون } لفظه الاستفهام وليس به ، بل هو تقرير وتوبيخ ، أي كيف تكفرون بالله ونعمه عليكم وقدرته هذه ؟ و { كيف } في موضع نصب على الحال والعامل فيها { تكفرون } ، وتقديرها أجاحدين تكفرون أمنكرين تكفرون ؟ و { كيف } مبنية ، وخصت بالفتح لخفته ، ومن قال إن { كيف } تقرير وتعجب فمعناه إن هذا الأمر إن عن فحقه أن يتعجب منه لغرابته وبعده عن المألوف من شكر المنعم ، والواو في قوله { وكنتم } واو الحال( {[389]} ) ، واختلف في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين : فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد .
«فالمعنى كنتم أمواتاً معدومين قبل أن تخلقوا دارسين ، كما يقال للشيء الدارس ميت ، ثم خلقتم وأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم أماتكم الموت المعهود ، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة »( {[390]} ) .
وقال آخرون : «كنتم أمواتاً بكون آدم من طين ميتاً قبل أن يُحيى ثم نفخ فيه الروح فأحياكم بحياة آدم ثم يميتكم ثم يحييكم على ما تقدم » .
وقال قتادة : «كنتم أمواتاً في أصلاب آبائكم فأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم كما تقدم » .
وقال غيره : «كنتم أمواتاً في الأرحام قبل نفخ الروح ثم أحياكم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم » .
وقال ابن زيد : «إن الله تعالى أخرج نسم بني آدم أمثال الذر ثم أماتهم بعد ذلك فهو قوله وكنتم أمواتاً ، ثم أحياهم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم » .
وقال ابن عباس وأبو صالح : «كنتم أمواتاً بالموت المعهود ثم أحياكم للسؤال في القبور ، ثم أماتكم فيها ، ثم أحياكم للبعث » .
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : «وكنتم أمواتاً بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والقول الأول هو أولى هذه الأقوال ، لأنه الذي لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه ، ثم إن قوله أولاً { كنتم أمواتاً } وإسناده آخراً الإماتة إليه تبارك وتعالى مما يقوي ذلك القول ، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتاً معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر ، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها ، والضمير في { إليه } عائد على الله تعالى أي إلى ثوابه أو عقابه ، وقيل هو عائد على الاحياء ، والأول أظهر .
وقرأ جمهور الناس «تُرجَعون » بضم التاء وفتح الجيم .
وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن يعمر وسلام والفياض بن غزوان( {[391]} ) ويعقوب الحضرمي : «يَرجع ويَرجعون وتَرجعون » بفتح الياء والتاء حيث وقع . ( {[392]} )
ثُني عنان الخطاب إلى الناس الذين خوطبوا بقوله آنفاً : { يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة : 21 ] ، بعد أن عقب بأفانين من الجمل المعترضة من قوله : { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري } [ البقرة : 25 ] إلى قوله : { الخاسرون } [ البقرة : 27 ] .
وليس في قوله : { كيف تكفرون بالله } تناسب مع قوله : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما } [ البقرة : 26 ] وما بعده مما حكى عن الذين كفروا في قولهم : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } [ البقرة : 26 ] حتى يكون الانتقالُ إلى الخطاب في قوله : { تكفرون } التفاتاً ، فالمناسبة بين موقع هاته الآية بعد ما قبلها هي مناسبة اتحاد الغرض ، بعد استيفاء ما تخلل واعترض .
ومن بديع المناسبة وفائق التفنن في ضروب الانتقالات في المخاطبات أن كانت العلل التي قرن بها الأمر بعبادة الله تعالى في قوله : { يأيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] الخ هي العلل التي قرن بها إنكار ضد العبادة وهو الكفر به تعالى في قوله هنا : { كيف تكفرون بالله } فقال فيما تقدم : { الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } [ البقرة : 21 ] { الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء } [ البقرة : 22 ] الآية وقال هنا : { وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء } [ البقرة : 29 ] وكان ذلك مبدأ التخلص إلى ما سيرد من بيان ابتداء إنشاء نوع الإنسان وتكوينه وأطواره .
فالخطاب في قوله : { تكفرون } متعين رجوعه إلى { الناس } وهم المشركون لأن اليهود لم يكفروا بالله ولا أنكروا الإحياء الثاني .
و { كيف } اسم لا يعرف اشتقاقه يدل على حالة خاصة وهي التي يقال لها الكيفية نسبة إلى كيف ويتضمن معنى السؤال في أكثر موارد استعماله فلدلالته على الحالة كان في عداد الأسماء لأنه أفاد معنى في نفسه إلا أن المعنى الاسمي الذي دل عليه لما كان معنى مبهماً شابه معنى الحرف فلما أشربوه معنى الاستفهام قوي شبهه بالحروف لكنه لا يخرج عن خصائص الأسماء فلذلك لا بد له من محلِّ إعراب ، وأكثر استعماله اسمُ استفهام فيعرب إعراب الحال . ويستفهم بكيف عن الحال العامة . والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والإنكار بقرينة قوله : { وكنتم أمواتاً } الخ أي إن كفركم مع تلك الحالة شأنه أن يكون منتفياً لا تركن إليه النفس الرشيدة لوجود ما يصرف عنه وهو الأحوال المذكورة بعْدُ فكان من شأنه أن يُنكر فالإنكار متولد من معنى الاستفهام ولذلك فاستعماله فيهما من إرادة لازم اللفظ ، وكأن المنكر يريد أن يقطع معذرة المخاطب فيظهر له أنه يتطلب منه الجواب بما يُظهر السبب فيُبطل الإنكار والعجَب حتى إذا لم يبد ذلك كان حقيقاً باللوم والوعيد .
والكفر بضم الكاف مصدر سماعي لكَفَر الثلاثي القاصر وأصله جَحْد المنعَم عليه نعمةَ المنْعِم ، اشتق من مادة الكَفر بفتح الكاف وهو الحَجب والتغطية لأن جاحد النعمة قد أخفى الاعتراف بها كما أن شاكرها أعلنها .
وضده الشكر ولذلك صيغ له مصدر على وزان الشُّكر وقالوا أيضاً كفران على وزن شُكران ، ثم أطلق الكفر في القرآن على الإشراك بالله في العبادة بناء على أنه أشد صور كفر النعمة إذ الذي يترك عبادة من أنعم عليه في وقت من الأوقات قد كفر نعمته في تلك الساعة إذ توجَّهَ بالشكر لغير المنعِم وتركَ المنعِم حين عزمه على التوجه بالشكر ولأن عزم نفسه على مداومة ذلك استمرار في عقد القلب على كفر النعمة وإن لم يتفطن لذلك ، فكان أكثرُ إطلاق الكفر بصيغة المصدر في القرآن على الإشراك بالله ولم يَرد الكفر بصيغة المصدر في القرآن لغير معنى الإشراك بالله . وقل ورود فعل الكفر أو وصف الكافر في القرآن لجحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك حيث تكون قرينة على إرادة ذلك كقوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } [ البقرة : 105 ] وقولِه : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة : 44 ] يريد اليهود .
وأما إطلاقه في السنة وفي كلام أئمة المسلمين فهو الاعتقاد الذي يخرج معتقده عن الإسلام وما يدل على ذلك الاعتقاد من قول أو فعل دلالة لا تحتمل غير ذلك .
وقد ورد إطلاق الكفر في كلام الرسول عليه السلام وكلام بعض السلف على ارتكاب جريمة عظيمة في الإسلام إطلاقاً على وجه التغليظ بالتشبيه المفيد لتشنيع ارتكاب ما هو من الأفعال المباحة عند أهل الكفر ولكن بعض فرق المسلمين يتشبثون بظاهر ذلك الإطلاق فيقضون بالكفر على مرتكب الكبائر ولا يلتفتون إلى ما يعارض ذلك في إطلاقات كلام الله ورسوله . وفرق المسلمين يختلفون في أن ارتكاب بعض الأعمال المنهي عنها يدخل في ماهية الكفر وفي أن إثبات بعض الصفات لله تعالى أو نفي بعض الصفات عنه تعالى داخل في ماهية الكفر على مذاهب شتى .
ومذهب أهل الحق من السلف والخلف أنه لا يكفر أحد من المسلمين بذنب أو ذنوب من الكبائر فقد ارتكبت الذنوب الكبائر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء فلم يعاملوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين ، والقول بتكفير العصاة خطر على الدين لأنه يؤول إلى انحلال جامعة الإسلام ويهون على المذنب الانسلاخ من الإسلام منشداً « أنا الغريق فما خوفي من البلل » .
ولا يكفر أحد بإثبات صفة لله لا تنافي كماله ولا نفي صفة عنه ليس في نفيها نقصان لجلاله فإن كثيراً من الفرق نفوا صفات ما قصدوا بنفيها إلا إجلالاً لله تعالى وربما أفرطوا في ذلك كما نفى المعتزلة صفات المعاني وجواز رؤية الله تعالى ، وكثير من الفرق أثبتوا صفات ما قصدوا من إثباتها إلا احترام ظواهر كلامه تعالى كما أثبت بعض السلف اليد والإصبع مع جزمهم بأن الله لا يشبه الحوادث .
والإيمان ذكر معناه عند قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] .
وقوله : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } جملة حالية وهي تخلص إلى بيان ما دلت عليه { كيف } بطريق الإجمال وبيان أولى الدلائل على وجوده وقدرته وهي ما يشعر به كل أحد من أنه وجد بعد عدم .
ولقد دل قوله تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } أن هذا الإيجاد على حال بديع وهو أن الإنسان كان مركب أشياء موصوفاً بالموت أي لا حياة فيه إذ كان قد أخذ من العناصر المتفرقة في الهواء والأرض فجمعت في الغذاء وهو موجود ثانٍ ميت ثم استخلصت منه الأمزجة من الدم وغيره وهي ميتة ، ثم استخلص منه النطفتان للذكر والأنثى ، ثم امتزج فصار علقة ثم مضغة كل هذه أطوار أولية لوجود الإنسان وهي موجودات ميتة ثم بثت فيه الحياة بنفخ الروح فأخذ في الحياة إلى وقت الوضع فما بعده ، وكان من حقهم أن يكتفوا به دليلاً على انفراده تعالى بالإلهية .
وإطلاق الأموات هنا مجاز شائع بناء على أن الموت هو عدم اتصاف الجسم بالحياة سواء كان متصفاً بها من قبل كما هو الإطلاق المشهور في العرف أم لم يكن متصفاً بها إذا كان من شأنه أن يتصف بها فعلى هذا يقال للحيوان في أول تكوينه نطفة وعلقة ومضغة ميت لأنه من شأنه أن يتصف بالحياة فيكون إطلاق الأموات في هذه الآية عليهم حين كانوا غير متصفين بالحياة إطلاقاً شائعاً والمقصود به التمهيد لقوله : { فأحياكم } ثم التمهيد والتقريب لقوله : { ثم يميتكم ثم يحييكم } .
وقال كثير من أئمة اللغة الموت انعدام الحياة بعد وجودها وهو مختار الزمخشري والسكاكي وهو الظاهر ، وعليه فإطلاق الأموات عليهم في الحالة السابقة على حلول الحياة استعارة . واتفق الجميع على أنه إطلاق شائع في القرآن فإن لم يكن حقيقة فهو مجاز مشهور قد ساوى الحقيقة وزال الاختلاف .
والحياة ضد الموت ، وهي في نظر الشرع نفخ الروح في الجسم . وقد تعسر تعريف الحياة أو تعريف دوامها على الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين تعريفاً حقيقياً بالحد ، وأوضح تعاريفها بالرسم أنها قوة ينشأ عنها الحس والحركة وأنها مشروطة باعتدال المزاج والأعضاء الرئيسية التي بها تدوم الدورة الدموية ، والمراد بالمزاج التركيب الخاص المناسب مناسبة تليق بنوع ما من المركبات العنصرية وذلك التركيب يحصل من تعادل قوى وأجزاء بحسب ما اقتضته حالة الشيء المركب مع انبثاث الروح الحيواني ، فباعتدال ذلك التركيب يكون النوع معتدلاً ولكل صنف من ذلك النوع مزاج يخصه بزيادة تركيب ، ولكل شخص من الصنف مزاج يخصه ويتكون ذلك المزاج على النظام الخاص تنبعث الحياة في ذي المزاج في إبان نفخ الروح فيه وهي المعبر عنها بالروح النفساني .
وقد أشار إلى هذا التكوين حديث الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه المَلك فينفخ فيه الروح " فأشار إلى حالات التكوين التي بها صار المزاج مزاجاً مناسباً حتى انبعثت فيه الحياة ، ثم بدوام انتظام ذلك المزاج تدوم الحياة وباختلاله تزول الحياة ، وذلك الاختلال هو المعبر عنه بالفساد ، ومن أعظم الاختلال فيه اختلال الروح الحيواني وهو الدم إذا اختلت دورته فعرض له فساد ، وبعروض حالة توقف عمل المزاج وتعطل آثاره يصير الحي شبيهاً بالميت كحالة المغمى عليه وحالة العضو المفلوج ، فإذا انقطع عمل المزاج فذلك الموت . فالموت عدم والحياة ملكة وكلاهما موجود مخلوق قال تعالى : { الذي خلق الموت والحياة } في سورة الملك ( 2 ) .
وليس المقصود من قوله : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } الامتنان بل هو استدلال محض ذكر شيئاً يعده الناس نعمة وشيئاً لا يعدونه نعمة وهو الموتتان فلا يشكل وقوع قوله : { أمواتاً } وقوله : { ثم يميتكم } في سياق الآية .
وأما قوله : { ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } فذلك تفريع عن الاستدلال وليس هو بدليل ، إذ المشركون ينكرون الحياة الآخرة فهو إدماج وتعليم وليس باستدلال ، أو يكون ما قام من الدلائل على أن هناك حياة ثانية قد قام مقام العلم بها وإن لم يحصل العلم فإن كل من علم وجود الخالق العدل الحكيم ورأى الناس لا يجْرُون على مقتضى أوامره ونواهيه فيرى المفسد في الأرض في نعمة والصالح في عناء علم أن عدل الله وحكمته ما كان ليُضيع عمل عامل وأن هنالك حياة أحكم وأعدل من هذه الحياة تكون أحوال الناس فيها على قدر استحقاقهم وسمو حقائقهم .
وقوله : { ثم إليه ترجعون } أي يكون رجوعكم إليه ، شُبِّه الحضور للحساب برجوع السائر إلى منزله باعتبار أن الله خلق الخلق فكأنهم صَدروا من حضرته فإذا أحياهم بعد الموت فكأنهم أرجعَهم إليه وهذا إثبات للحشر والجزاء .
وتقديم المتعلِّق على عامله مفيد القصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطَبين لإفادتهم ذلك إذ كانوا منكرين ذلك وفيه تأييس لهم من نفع أصنامهم إياهم إذ كان المشركون يحاجون المسلمين بأنه إن كان بعث وحشر فسيجدون الآلهة ينصرونهم .
و { تُرجَعون } بضم التاء وفتح الجيم في قراءة الجمهور ، وقرأهُ يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم والقراءة الأولى على اعتبار أن الله أرجعهم وإن كانوا كارهين لأنهم أنكروا البعث والقراءة الثانية باعتبار وقوع الرجوع منهم بقطع النظر عن الاختيار أو الجبر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم": يقول لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة...
وقال بعضهم: عن عبد الله في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال هي كالتي في البقرة كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم...
وقال بعضهم: عن أبي مالك في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال خلقتنا ولم نكن شيئا ثم أمتنا ثم أحييتنا.
وقال بعضهم: عن قتادة قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية. قال كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله وخلقهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما حياتان وموتتان...
وقال بعضهم: عن ابن زيد في قول الله تعالى "ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين "قال خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق وقرأ: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم" حتى بلغ "أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون" قال فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق.، قال وذلك قول الله تعالى "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء"، قال وبث منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا، وقرأ: "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق"، قال خلقا بعد ذلك، قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله "ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا"، وقرأ قول الله: "وأخذنا منهم ميثاقا غليظا"؛ قال يومئذ، قال: وقرأ قول الله: "واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا"...
ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن رويناها عنه وجه ومذهب من التأويل:
... فأما وجه تأويل من تأول قوله "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم" أي لم تكونوا شيئا، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر؛ هذا شيء ميت وهذا أمر ميت، يراد بوصفه بالموت، خمول ذكره ودروس أثره من الناس، وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمر حي وذكر حي، يراد بوصفه بذلك أنه نابه متعالم في الناس... فكذلك تأويل قول من قال في قوله: "وكنتم أمواتا ": لم تكونوا شيئا، أي كنتم خمولا لا ذكر لكم وذلك كان موتكم، فأحياكم فجعلكم بشرا أحياء تذكرون وتعرفون، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم كالذي كنتم قبل أن يحييكم من دروس ذكركم وتعفي آثاركم وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها ونفخ الروح فيها وتصييركم بشرا كالذي كنتم قبل الإماتة لتعارفوا في بعثكم وعند حشركم.
وأولى ما ذكرنا من الأقوال التي بينا بتأويل قول الله جل ذكره: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم" الآية: القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس من أن معنى قوله:"وكنتم أمواتا": أموات الذكر خمولا في أصلاب آبائكم نطفا لا تعرفون ولا تذكرون فأحياكم بإنشائكم بشرا سويا حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتا لا تعرفون ولا تذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصيحة القيامة، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك كما قال: "ثم إليه ترجعون" لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبل حشرهم، ثم يحشرهم لموقف الحساب كما قال جل ذكره: "يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون"، وقال: "ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون". والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل ما قد قدمنا ذكره للقائلين به وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل.
وهذه الآية توبيخ من الله جل ثناؤه للقائلين: آمنا بالله وباليوم الآخر، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم غير مؤمنين به، وأنهم إنما يقولون ذلك خداعا لله وللمؤمنين، فعذلهم الله بقوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم، ووبخهم واحتج عليهم في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة، فقال: "كيف تكفرون بالله" فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم وإعادتكم بعد إفنائكم وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم. ثم عدد ربنا عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود الذين جمع بين قصصهم وقصص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبر عنهم فيها بقوله: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" نعمه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم التي عظمت منهم مواقعها، ثم سلب كثيرا منهم كثيرا منها بما ركبوا من الآثام واجترموا من الإجرام وخالفوا من الطاعة إلى المعصية، يحذرهم بذلك تعجيل العقوبة لهم كالتي عجلها للأسلاف والأفراط قبلهم، ويخوفهم حلول مثلاته بساحتهم كالذي أحل بأوليهم، ويعرفهم مالهم من النجاة في سرعة الأوبة إليه وتعجيل التوبة من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب؛ فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدد من نعمه التي هم فيها مقيمون، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه وما سلف منه من كرامته إليه وآلائه لديه، وما أحل به وبعدوه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به، وما كان من تغمده آدم برحمته إذ تاب وأناب إليه، وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل وإعداده له ما أعد له من العذاب المقيم في الآجل، إذا استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة. منبها لهم على حكمه في المنيبين إليه بالتوبة وقضائه في المستكبرين عن الإنابة، إعذارا من الله بذلك إليهم وإنذارا لهم، ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب، وخاصا أهل الكتاب بما ذكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأمية من مشركي عبدة الأوثان، بالاحتجاج عليهم دون غيرهم من سائر أصناف الأمم الذين لا علم عندهم بذلك لنبيه محمد ليعلموا بإخباره إياهم بذلك أنه لله رسول مبعوث، وأن ما جاءهم به فمن عنده. إذ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص من مكنون علومهم ومصون ما في كتبهم وخفي أمورهم التي لم يكن يدعي معرفة علمها غيرهم وغير من أخذ عنهم وقرأ كتبهم، وكان معلوما من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبا ولا لأسفارهم تاليا ولا لأحد منهم مصاحبا ولا مجالسا، فيمكنهم أن يدعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم فقال جل ذكره في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه مع كفرهم به وتركهم شكره عليها مما يجب له عليهم من طاعته
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
معنى الهمزة التي في {كَيْفَ} مثله في قولك: أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان، وهو الإنكار والتعجب. ونظيره قولك: أتطير بغير جناج، وكيف تطير بغير جناح؟
فإن قلت: قولك: أتطير بغير جناح إنكار للطيران، لأنه مستحيل بغير جناح، وأما الكفر فغير مستحيل مع ما ذكر من الإماتة والإحياء. قلت: قد أخرج في صورة المستحيل لما قوى من الصارف عن الكفر والداعي إلى الإيمان.
فإن قلت: فقد تبين أمر الهمزة وأنها لإنكار الفعل والإيذان باستحالته في نفسه، أو لقوة الصارف عنه، فما تقول في {كَيْفَ} حيث كان إنكاراً للحال التي يقع عليها كفرهم؟ قلت: حال الشيء تابعة لذاته، فإذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال؛ فكان إنكار حال الكفار لأنها تبيع ذات الكفر ورديفها إنكاراً لذات الكفر، وثباتها على طريق الكناية، وذلك أقوى لإنكار الكفر وأبلغ.
فإن قلت: كيف قيل لهم أموات في حال كونهم جماداً، وإنما يقال ميت فيما يصح فيه الحياة من البتى؟ قلت: بل يقال ذلك لعادم الحياة، كقوله {بَلْدَةً مَّيْتاً} [الفرقان: 49]، {وَءايَةٌ لَّهُمُ الارض الميتة} [يس: 33]، {أموات غَيْرُ أَحْيَاء} [النحل: 21]. ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس،
فإن قلت: ما المراد بالإحياء الثاني؟ قلت: يجوز أن يراد به الإحياء في القبر: وبالرجوع: النشور. وأن يراد به النشور، وبالرجوع: المصير إلى الجزاء.
فإن قلت: لم كان العطف الأوّل بالفاء والإعقاب بثم؟ قلت: لأنّ الإحياء الأوّل قد تعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء. والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخيا ظاهراً. وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن النشور.
فإن قلت: من أين أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله، ألأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر، أم على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعاً، لأنّ ما عدّده آيات وهي مع كونها آيات من أعظم النعم. {قبلكمْ} لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم.
وأمّا الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم، وما فيه من التذكير بالآخرة وبثوابها وعقابها، لاشتماله على أسباب الأنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية، وعلى أسباب الوحشة والمشقة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {كيف تكفرون} لفظه الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون بالله ونعمه عليكم وقدرته هذه؟...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
فإن قيل: كيف تعدّ الإماتة من النعم المقتضية للشكر؟ أجيب: بأنها لما كانت وصلة للحياة الدائمة التي هي الحقيقية كما قال تعالى: {وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان} (العنكبوت، 64) يعني: الحياة، كانت من النعم العظيمة، مع أنّ المعدود عليهم نعمة هو المعنى المتنزع من القصة بأسرها، كما أن الواقع حالاً هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل، فإنّ بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح حالاً. ويصح أن يكون الخطاب مع الكفار والمؤمنين، فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوّة، ووعدهم على الإيمان، وأوعدهم على الكفر، أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامّة والخاصة، واستبعد صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة، فإنّ عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم وأن يكون مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم وتبعيد الكفر عنهم على معنى كيف يتصوّر الكفر منكم وكنتم أمواتاً أي: جهالاً، فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ثم يميتكم الموت المعروف، ثم يحييكم الحياة الحقيقية، ثم إليه ترجعون، فينبئكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. والحياة حقيقة في القوّة الحاسة أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيواناً مجاز في القوّة النامية لأنها من طلائعها ومقدّماتها، وفيما يخص الإنسان من الفضائل كالعلم والعقل والإيمان من حيث إنه كمالها وغايتها والموت بإزائها، يقال على ما يقابلها في كل مرتبة مثال ما يقابل الحقيقة قوله تعالى: {قل الله يحييكم ثم يميتكم} (الجاثية، 26) ومثال ما يقابل المجاز الأوّل قوله تعالى: {اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها} (الحديد، 17) ومثال ما يقابل المجاز الثاني قوله تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} (الأنعام، 122) وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوّة فينا أو معنى قائم بذاته تعالى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعند هذا البيان الكاشف لآثار الكفر والفسوق في الأرض كلها يتوجه إلى الناس باستنكار كفرهم بالله المحيي المميت الخالق الرازق المدبر العليم:
(كيف تكفرون بالله، وكنتم أمواتا فأحياكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون؟ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا؛ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم)..
والكفر بالله في مواجهة هذه الدلائل والآلاء كفر قبيح بشع، مجرد من كل حجة أو سند.. والقرآن يواجه البشر بما لا بد لهم من مواجهته، والاعتراف به، والتسليم بمقتضياته. يواجههم بموكب حياتهم وأطوار وجودهم. لقد كانوا أمواتا فأحياهم. كانوا في حالة موت فنقلهم منها إلى حالة حياة ولا مفر من مواجهة هذه الحقيقة التي لا تفسير لها إلا بالقدرة الخالقة. إنهم أحياء، فيهم حياة. فمن الذي أنشأ لهم هذه الحياة؟ من الذي أوجد هذه الظاهرة الجديدة الزائدة على ما في الأرض من جماد ميت؟ إن طبيعة الحياة شيء آخر غير طبيعة الموت المحيط بها في الجمادات. فمن أين جاءت؟ إنه لا جدوى من الهروب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على العقل والنفس؛ ولا سبيل كذلك لتعليل مجيئها بغير قدرة خالقة ذات طبيعة أخرى غير طبيعة المخلوقات. من أين جاءت هذه الحياة التي تسلك في الأرض سلوكا آخر متميزا عن كل ما عداها من الموات؟.. لقد جاءت من عند الله.. هذا هو أقرب جواب.. وإلا فليقل من لا يريد التسليم: أين هو الجواب!
وهذه الحقيقة هي التي يواجه بها السياق الناس في هذا المقام:
(كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم؟)..
كنتم أمواتا من هذا الموات الشائع من حولكم في الأرض فأنشأ فيكم الحياة (فأحياكم).. فكيف يكفر بالله من تلقى منه الحياة؟
ولعل هذه لا تلقى مراء ولا جدلا، فهي الحقيقة التي تواجه الأحياء في كل لحظة، وتفرض نفسها عليهم فرضا، ولا تقبل المراء فيها ولا الجدال.
وهذه كانوا يمارون فيها ويجادلون؛ كما يماري فيها اليوم ويجادل بعض المطموسين، المنتكسين إلى تلك الجاهلية الأولى قبل قرون كثيرة. وهي حين يتدبرون النشأة الأولى، لا تدعو إلى العجب، ولا تدعو إلى التكذيب.
كما بدأكم تعودون، وكما ذرأكم في الأرض تحشرون، وكما انطلقتم بإرادته من عالم الموت إلى عالم الحياة، ترجعون إليه ليمضي فيكم حكمه ويقضي فيكم قضاءه..
وهكذا في آية واحدة قصيرة يفتح سجل الحياة كلها ويطوى، وتعرض في ومضة صورة البشرية في قبضة الباريء: ينشرها من همود الموت أول مرة، ثم يقبضها بيد الموت في الأولى، ثم يحييها كرة أخرى، وإليه مرجعها في الآخرة، كما كانت منه نشأتها في الأولى.. وفي هذا الاستعراض السريع يرتسم ظل القدرة القادرة، ويلقي في الحس إيحاءاته المؤثرة العميقة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الكافرين يتعجبون من ضرب الأمثال، ويقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ وحالهم عجب لأنهم يرون المحسوس الذي يدفعهم إلى الإيمان بالله الذي خلق السموات والأرض ومن فيهن، ومع ذلك يكفرون ولا يؤمنون، ولقد وبخهم الله سبحانه وتعالى أبلغ توبيخ فقال تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم}.
{كيف} يستفهم بها للحال، والمعنى كيف حالكم وبعدكم عن الإدراك والحق وأنتم تكفرون بالله الذي أنشأكم وأخرجكم من الموت إلى الحياة؟! إنكم ترون أن الطفل يولد، ويجيء من غيب الله تعالى، وترونه يشب غلاما فصبيا فشابا فكهلا فشيخا فيموت ثم يقبر ثم تكون الحياة بعد ذلك، ترون الأمور الثلاثة؛ الأولى موت، ثم حياة، ثم موت، أفلا يكون بالقياس على البدء بالموت ثم الحياة ثم الموت أن نحييكم تارة أخرى؟ وقد قدر سبحانه على الأمور الأولى، أفلا يقدر على الأخيرة؟ {... كما بدأكم تعودون (29)} [الأعراف].
والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع لا لإنكار الوقوع، والفرق بينهما أن إنكار الوقوع معناه النفي، وهو لا يصلح هنا، وأما إنكار الواقع فمعناه التوبيخ أبلغ التوبيخ على ما وقع، فقد وقع ذلك الأمر الغريب، وهو أنهم يكفرون أو يجحدون بالله بألا يعبدوه وحده، وهو الذي خلقهم، فأحياهم، وقد كانوا أمواتا، وذلك محسوس مرئي، وأوثانهم لم تصنع شيئا من هذا ولا يمكن أن تفعل.
ومعنى الموت الأول الذي يدل عليه قوله تعالى: {وكنتم أمواتا} هو أنهم كانوا عدما ليست فيهم حياة، أو كانوا أجساما جامدة هي الطين، أو نطفا في بطون الأمهات ثم مضغا مخلقة وغير مخلقة، فجعلكم أحياء.
وكيف يطلق على الجماد أنه ميت، مع أن الموت أمر نسبي تكون قبله حياة، ثم تسلب هذه الحياة فيكون الموت، والجماد لم تسبقه حياة، حتى يكون من بعدها موت؟.
ونقول في الجواب عن ذلك: إن الموت لا يقتضي وجود حياة سابقة، بل يطلق على الجماد ذاته، فيقال: أرض موات، وأرض ميتة، وإحياؤها يكون بوجود الغيث وإنباتها النبات بإذن الله تعالى، كما قال تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33)} [يس]، وقال تعالى: {رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج (11)} [ق].
فقوله تعالى: {كنتم أمواتا}، أي كنتم لا حياة فيكم فأحياكم فخلق التراب ثم أنشأكم منه، فأحياكم فأفاض عليكم بالحياة، وهم قبل هذا الإحياء لم يكونوا شيئا مذكورا كما قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا (1)} [الإنسان] وقوله تعالى: {وكنتم أمواتا فأحياكم} خطاب لهم بالانتقال من الغيبة إلى الخطاب، وهو دال على أن ذلك يعلمونه بالعيان والحس، لا بمجرد التصور والتفكر، {ثم يميتكم} و {ثم} هنا للتراخي؛ لأنه بعد الإحياء يعيش أجلا محدودا، ثم يموت، و {لكل أجل كتاب (38)} [الرعد]، {ثم يحييكم} بالبعث والنشور، ثم تكون القيامة، ثم إليه سبحانه ترجعون، وذلك هو مدلول قوله تعالى في آية أخرى: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا... (11)} [غافر]، وإنه كما ذكرنا أخذ من الواقع الذي يحسونه، دليلا على وقوع ما ينتظرهم، وينتظرونه، وهو البعث، فإذا كان سبحانه وتعالى أنشأ من العدم حياة ثم سلبها، فإنه قادر على إعادتها، ولكنهم يؤمنون بالحس وحده، ولا يؤمنون بالغيب الذي لا يحسون.
قوله تعالى: {ثم إليه ترجعون} وثم هنا للتراخي؛ أي بعد أن يقضوا حياتهم، ويموتوا ويدفنوا في قبورهم يرجعون ليحاسبهم على ما قدموا من عمل، فإن خيرا فخير، وإن شرا فالعذاب.
وتقديم {إليه} على {ترجعون} للإشارة إلى أنه وحده هو الذي إليه يرجعون، لا إلى آلهتهم التي يتوهمون بأوهامهم فيها قدرة، ولا قدرة، فالرجوع إليه سبحانه وتعالى.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أجمعت العلماء اليوم أن مسألة الحياة أعقد مسألة في عالمنا هذا، لأن لغز الحياة لم ينحل حتى اليوم على الرغم من كل ما حققه البشر من تقدّم هائل في حقل العلم والمعرقة. قد يستطيع العلم في المستقبل أن يكتشف بعض أسرار الحياة... لكن السؤال يبقى قائماً بحاله: كيف يكفر الإِنسان بالله وينسب هذه الحياة بتعقيداتها وغموضها وأسرارها إلى صنع الطبيعة العمياء الصّماء الفاقدة لكل شعور وإدراك؟...
إن ظاهرة الحياة في عالم الطبيعة أعظم سند لإثبات وجود الله تعالى. والقرآن يركز في الآية المذكورة على هذه المسألة بالذات، وهي مسألة تحتاج إلى مزيد من الدراسة و التعمق، لكننا نكتفي هنا بهذه الإشارة. بعد التذكير بهذه النعمة، تؤكد الآية على دليل واضح آخر وهو «الموت» (ثم يميتكم).
ويأتي ذكر المعاد في سياق هذه الآية ليبين أن مسألة الحياة بعد الموت (المعاد) مسألة طبيعية جداً لا تختلف عن مسألة إحياء الإِنسان في هذه الدنيا بل إنها أيسر من الخلق الأول (مع أن السهل والصعب ليس لها مفهوم بالنسبة للقادر المطلق).
وهل بمقدور إنسان أن ينكر إمكان المعاد وهو يرى أنه خلق من عناصر ميتة؟! وهكذا، وبعبارة موجزة رائعة يفتح القرآن أمام الإنسان سجل حياته منذ ولادته وحتى بعثه. وفي نهاية الآية يقول تعالى: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرجَعُونَ). والمقصود بالرجوع هو الرجوع إلى نعم الله تعالى يوم القيامة. والرجوع غير البعث. والقرآن يفصل بين الاثنين كما في قوله تعالى: (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمْ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُون) الأنعام، 36. قد يكون الرجوع في الآية الكريمة إشارة إلى معنى أدقّ.