أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (125)

{ وإذ جعلنا البيت } أي الكعبة ، غلب عليها كالنجم على الثريا . { مثابة للناس } مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم ، أو موضع ثواب يثابون بحجة واعتماره . وقرئ : " مثابات " أي لأنه مثابة كل أحد . { وأمنا } وموضع أمن لا يتعرض لأهله كقوله تعالى : { حرما آمنا } . ويتخطف الناس من حولهم ، أو يأمن حاجه من عذاب الآخرة من حيث أن الحج يجب ما قبله ، أولا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه حتى يخرج ، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه . { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } على إرادة القول ، أو عطف على المقدر عاملا لإذ ، أو اعتراض معطوف على مضمر تقديره توبوا إليه واتخذوا ، على أن الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو أمر استحباب ، ومقام إبراهيم هو الحجر الذي فيه أثر قدمه ، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ، أو رفع بناء البيت وهو موضعه اليوم . روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه وقال : " هذا مقام إبراهيم ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى ، فقال : لم أومر بذلك ، فلم تغب الشمس حتى نزلت " وقيل المراد به الأمر بركعتي الطواف ، لما روى جابر أنه عليه الصلاة والسلام : لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وللشافعي رحمه الله تعالى في وجوبهما قولان . وقيل : مقام إبراهيم الحرم كله . وقيل مواقف الحج واتخاذها مصلى أن يدعى فيها ، ويتقرب إلى الله تعالى . وقرأ نافع وابن عامر { واتخذوا } بلفظ الماضي عطفا على { جعلنا } أي : واتخذوا الناس مقامه الموسوم به ، يعني الكعبة قبلة يصلون إليها . { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أمرناهما . { أن طهرا بيتي } ويجوز أن تكون أن مفسرة لتضمن العهد معنى القول ، يريد طهراه من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به ، أو أخلصاه . { للطائفين } حوله . { والعاكفين } المقيمين عنده ، أو المعتكفين فيه { والركع السجود } . أي المصلين ، جمع راكع وساجد .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (125)

قوله عز وجل :

{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }( 125 )

قوله { وإذ } عطف على { إذ } المتقدمة و { البيت } الكعبة ، و { مثابة } يحتمل أن تكون من ثاب إذا رجع لأن الناس يثوبون إليها أي ينصرفون ، ويحتمل أن تكون من الثواب أي يثابون هناك ، قال الأخفش : دخلت الهاء فيها للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع ، لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطراً( {[1227]} ) ، فهي كنسابة وعلامة ، وقال غيره : هي هاء تأنيث المصدر ، فهي مفعلة أصلها مثوبة نقلت حركة الواو إلى الثاء فانقلبت الواو ألفاً لانفتاح ما قبلها ، وقيل : هو على تأنيث البقعة ، كما يقال : مقام ومقامة ، وقرأ الأعمش «مثابات » على الجمع ، وقال ورقة بن نوفل في الكعبة( {[1228]} ) : [ الطويل ] :

مثاب لأفناءِ القبائلِ كلِّها . . . تخبُّ إليها اليَعْمَلاتُ الطلائِحُ( {[1229]} )

و { أمناً } معناه أن الناس يغيرون ويقتتلون حول مكة وهي أمنة من ذلك ، يلقى الرجل بها قاتل أبيه فلا يهيجه ، لأن الله تعالى جعل في النفوس حرمة وجعلها أمناً للناس والطير والوحوش ، وخصص الشرع من ذلك الخمس الفواسق ، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وجمهور الناس «واتخِذوا » بكسر الخاء على جهة الأمر ، فقال أنس بن مالك وغيره : معنى ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، في الحجاب ، وفي { عسى ربه إن طلقكن }( {[1230]} ) [ التحريم : 5 ] ، وقلت يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }( {[1231]} ) .

قال القاضي أبو محمد : فهذا أمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال المهدوي : وقيل ذلك عطف على قوله { اذكروا } فهذا أمر لبني إسرائيل ، وقال الربيع بن أنس : ذلك أمر لإبراهيم ومتبعيه ، فهي من الكلمات( {[1232]} ) ، كأنه قال : { إني جاعلك للناس إماماً } [ البقرة : 124 ] { واتخذوا } ، وذكر المهدوي رحمه الله أن ذلك عطف على الأمر يتضمنه قوله : { جعلنا البيت مثابة } ، لأن المعنى : توبوا ، وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا » بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم ، وذلك معطوف على قوله { وإذا جعلنا } ، كأنه قال : وإذ اتخذوا ، وقيل هو معطوف على جعلنا دون تقدير إذ ، فهي جملة واحدة( {[1233]} ) ، وعلى تقدير إذ فهي جملتان .

واختلف في { مقام إبراهيم } ، فقال ابن عباس وقتادة وغيرهما ، وخرجه البخاري : إنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت وغرقت قدماه فيه( {[1234]} ) .

وقال الربيع بن أنس : هو حجر ناولته إياه امرأته فاغتسل عليه وهو راكب ، جاءته به من شق ثم من شق فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه( {[1235]} ) ، وقال فريق من العلماء : المقام المسجد الحرام ، وقال عطاء بن أبي رباح : المقام عرفة والمزدلفة والجمار ، وقال ابن عباس : مقامه مواقف الحج كلها ، وقال مجاهد : مقامه الحرم كله .

و { مصلى } موضع صلاة ، هذا على قول من قال : المقام الحجر ، ومن قال بغيره قال { مصلى } مدعى ، على أصل الصلاة( {[1236]} ) .

وقوله تعالى : { وعهدنا } العهد في اللغة على أقسام ، هذا منها( {[1237]} ) الوصية بمعنى الأمر ، و { أن } في موضع نصب على تقدير بأن وحذف الخافض ، قال سيبويه : إنها بمعنى أي مفسرة ، فلا موضع لها من الإعراب ، و { طهرا } قيل معناه ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة( {[1238]} ) ، فيجيء مثل قوله : { أسس على التقوى } [ التوبة : 108 ] وقال مجاهد : هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان ، وقيل : من الفرث والدم . ( {[1239]} )

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لا تعضده الأخبار ، وقيل : من الشرك ، وأضاف الله البيت إلى نفسه تشريفاً للبيت ، وهي إضافة مخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك ، و { للطائفين } ظاهره أهل الطواف ، وقاله عطاء وغيره ، وقال ابن جبير : معناه للغرباء الطارئين على مكة ، و

{ العاكفين } قال ابن جبير : هم أهل البلد المقيمون ، وقال عطاء : هم المجاورون بمكة ، وقال ابن عباس : المصلون ، وقال غيره : المعتكفون .

قال القاضي أبو محمد : والعكوف في اللغة اللزوم للشيء والإقامة عليه ، كما قال الشاعر [ العجاج ] : [ الرجز ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . عكف النبيط يلعبون الفنزجا( {[1240]} )

فمعناه لملازمي البيت إرادة وجه الله العظيم ، و { الركع السجود } المصلون ، وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى ، وكل مقيم عند بيت الله إرادة ذات الله( {[1241]} ) فلا يخلو من إحدى هذه الرتب الثلاث ، إما أن يكون في صلاة أو في طواف فإن كان في شغل من دنياه فحال العكوف على مجاورة البيت لا يفارقه .


[1227]:- بل إليه مرة بعد أخرى، فليس هو مرة في الزمان فقط.
[1228]:- أي في وصفها، ورقة شيخ كبير كان على دين النصرانية، وهو ابن عم خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم أول الوحي: "إن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا" هذا والذي في لسان العرب وشرح القاموس في مادة (ثاب) أن البيت لأبي طالب.
[1229]:- وفي رواية الذوامل –يقال: (هو من أفناء الناس) أي لا يدري من أي قبيلة هو، والأفناء الأخلاط واحدها فنو، واليعملات بفتح الميم جمع يَعْمَلة وهي: النجيبة من الإبل، الطبوعة على العمل، والطلائح: الإبل التي أضمرها الإعياء.
[1230]:- من الآية 5 من سورة التحريم.
[1231]:- حديث الموافقة خرجه البخاري عن أنس بن مالك، وخرجه مسلم عن ابن عمر وعلى ما قاله أنس بن مالك فالأمر مقطوع عما قبله، والخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم- وعلى ما قاله غيره فالخطاب لبني إسرائيل على أنه معطوف على (اذكروا) أو لإبراهيم وأتباعه على أنه معطوف على معنى (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس)، فهو في معنى ثوبوا واتخذوا، والأظهر أنه أمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
[1232]:- أي التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه السلام.
[1233]:- أي كلمة واحدة من الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم.
[1234]:- هذا هو القول الصحيح كما ثبت في الصحيح، وهذا الحجر كان لاصقا بالكعبة ثم حوله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الموضع الذي يصلى فيه الآن، والمراد بالمقام المكان الذي فيه الحجر المسمى بذلك.
[1235]:- روى الطبري عن السدي: "والمقام هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب فغسلت شقه ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر فوضعته تحت الشق الآخر فغسلته فغابت رجله أيضا، فجعلها الله من شعائره فقال: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).
[1236]:- أي موضع دعاء على أصل الصلاة في اللغة، والأظهر فيه الصلاة الشرعية لا اللغوية والله أعلم.
[1237]:- هكذا في النسخ التي بين أيدينا- ويبدو أن في الكلام خطأ من الناسخين- والمعروف أن العهد إذا تعدى بإلى كما في هذه الآية كان بمعنى التوصية، ويمكن أن يراد به الأمر تجوزا. على أن كلام المؤلف يستقيم لو حذفنا لفظة (هذا)- وتصبح العبارة: "العهد في اللغة على أقسام، منها الوصية بمعنى الأمر".
[1238]:- أي على نية الطهارة والتوحيد حالا واستقبالا. فيكون مثل قوله تعالى: (لمسجد أسس على التقوى)- وهو من الآية108 من سورة التوبة.
[1239]:- أي لما كان يطرحه المشركون فيه من الفرث والدم في القرابين التي كانوا يتقربون بها إلى أصنامهم.
[1240]:- هذا عجز بيت للعجاج يصف ثورا عكفت حوله بقرات- وصدر البيت: فهن يعكفن به إذا حجا ............................. وعكف معناها: أقام حول الشيء، فهو يعكف بضم الكاف وبكسرها –والنبيط: جمع نبطي- وهم قوم من العجم كانوا ينزلون بين العراقين- والفتزج والفتزجة، هي رقصة هؤلاء العجم، إذا أخذ بعضهم بيد بعض ورقصوا. وحجا: معناها أقام- يقال: حجوت بالمكان أقمت به- والشاعر يريد أن يقول: إن الثور حين أقام بمكانه عكفت حوله هذه البقرات كأنها الأعاجم حين يرقصون ويلعبون.
[1241]:- أي وجه الله.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (125)

تدرجُ في ذكر منقبة إبراهيم إذ جعل الله بيته بهذه الفضيلة . و ( إذ ) أضافها إلى جلالته فقال : ( بيتي ) ، واستهلالٌ لفضيلة القبلة الإسلامية ، فالواو عاطفة على { ابتلى } [ البقرة : 124 ] وأعيدت ( إذ ) للتنبيه على استقلال القصة وأنها جديرة بأن تعد بنية أخرى ، ولا التفات إلى حصول مضمون هذه بعد حصول الأخرى أو قبله إذ لا غرض في ذلك في مقام ذكر الفضائل ، ولأن الواو لا تفيد ترتيباً .

والبيت اسم جنس للمكان المتخذ مسكناً لواحد أو عدد من الناس في غرض من الأغراض ، وهو مكان من الأرض يحيط به ما يميزه عن بقية بقعته من الأرض ليكون الساكن مستقلاً به لنفسه ولمن يتبعه فيكون مستقَراً له وكناً يكنه من البرد والحر وساتراً يستتر فيه عن الناس ومحطاً لأثاثه وشؤونه ، وقد يكون خاصاً وهو الغالب وقد يكون لجماعة مثل دار الندوة في العرب وخيمة الاجتماع في بني إسرائيل ، وقد يكون محيط البيت من حجر وطين كالكعبة ودار الندوة ، وقد يكون من أديم مثل القباب ، وقد يكون من نسيج صوف أو شعر قال تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها } [ النحل : 80 ] ، ولا يكون بيتاً إلا إذا كان مستوراً أعلاه عن الحر والقُر وذلك بالسقف لبيوت الحجر وبيوت الأديم والخيام .

والبيت علم بالغلبة على الكعبة كما غلب النجم على الثريا . وأصل أل التي في الأعلام بالغلبة هي أل العهدية وذلك إذا كثر عهد فرد من أفراد جنس بين طائفة أو قوم صار اسم جنسه مع أل العهدية كالعلم له ثم قد يتعهدون مع ذلك المعنى الأصلي كما في النجم للثريا والكتاب للقرآن والبيت للكعبة ، وقد ينسى المعنى الأصلي إما بقلة الحاجة إليه كالصعِق علم على خويلد بن نفيل وإما بانحصار الجنس فيه كالشمس .

والكعبة بيت بناه إبراهيم عليه السلام لعبادة الله وحده دون شريك فيأوي إليه من يدين بالتوحيد ويطوف به من يقصد تعظيم الله تعالى ولذلك أضافه إلى الله تعالى باعتبار هذا المعنى كما قال : { أن طهرا بيتي للطائفين } وفي قوله : { عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 37 ] وقد عرفت الكعبة باسم البيت من عهد الجاهلية قال زهير :

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله *** رجالٌ بنوه من قريش وجُرهم

والمثابة مفعلة من ثاب يثوب إذا رجع ويقال مثابة ومثاب مثل مقامة ومقام ، والمراد بالمثابة أنه يقصده الناس بالتعظيم ويلوذون به .

والمراد من الناس سكان مكة من ذرية إسماعيل وكل من يجاورهم ويدخل في حلفهم ، فتعريف الناس للجنس المعهود ، وتعليق للناس بمثابة على التوزيع أي يزوره ناس ويذهبون فيخلفهم ناس .

ولما كان المقصود من هذا ذكر منقبة البيت والمنة على ساكنيه كان الغرض التذكير بنعمة الله أن جعله لا ينصرف عنه قوم إلا ويخلفهم قوم آخرون ، فكان الذين يخلفون الزائرين قائمين مقامهم بالنسبة للبيت وسكانه ، ويجوز حمل تعريف الناس على العهد أي يثوب إليه الناس الذين ألفوه وهم كُمَّل الزائرين فهم يعودون إليه مراراً ، وكذلك كان الشأن عند العرب .

والأمن مصدر أخبر به عن البيت باعتبار أنه سبب أمن فجعل كأنه نفس الأمن مبالغة . والأمن حفظ الناس من الأضرار فتشريد الدعَّار وحراسة البلاد وتمهيد السبل وإنارة الطرق أمن ، والانتصاف من الجناة والضرب على أيدي الظلمة وإرجاع الحقوق إلى أهلها أمن ، فالأمن يفسر في كل حال بما يناسبه ، ولما كان الغالب على أحوال الجاهلية أخذ القوي مال الضعيف ولم يكن بينهم تحاكم ولا شريعة كان الأمن يومئذ هو الحيلولة بين القوي والضعيف ، فجعل الله لهم البيت أمناً للناس يومئذ أي يصد القوي عن أن يتناول فيه الضعيف قال تعالى : { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم } [ العنكبوت : 67 ] فهذه منة على أهل الجاهلية ، وأما في الإسلام فقد أغنى الله تعالى بما شرعه من أحكامه وما أقامه من حكامه فكان ذلك أمناً كافياً . قال السهيلي فقوله تعالى : { مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] إنما هو إخبار عن تعظيم حرمته في الجاهلية نعمة منه تعالى على أهل مكة فكان في ذلك مصلحة لذرية إسماعيل عليه السلام .

وقد اختلف الفقهاء في الاستدلال بهذه الآية وأضرابها على حكم إقامة الحدود والعقوبات في الحرم وسيأتي تفصيلها عند قوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } [ البقرة : 191 ] الآية وليس من غرض هذه الآية .

والمراد من الجعل في الآية إما الجعل التكويني لأن ذلك قدره الله وأوجد أسبابه فاستقر ذلك بين أهل الجاهلية ويسرهم إلى تعظيمه ، وإما الجعل أن أمر الله إبراهيم بذلك فأبلغه إبراهيم ابنه إسماعيل وبثه في ذريته فتلقاه أعقابهم تلقي الأمور المسلمة ، فدام ذلك الأمن في العصور والأجيال من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن أغنى الله عنه بما شرع من أحكام الأمن في الإسلام في كل مكان وتم مراد الله تعالى ، فلا يريبكم ما حدث في المسجد الحرام من الخوف في حصار الحجاج في فتنة ابن الزبير ولا ما حدث فيه من الرعب والقتل والنهب في زمن القرامطة حين غزاه الحسن ابن بهرام الجنابي ( نسبة إلى بلدة يقال لها جنابة بتشديد النون ) كبير القرامطة إذ قتل بمكة آلافاً من الناس وكان يقول لهم يا كلاب أليس قال لكم محمد المكي { ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] أيّ أمن هنا ؟ وهو جاهل غبي لأن الله أراد الأمر بأن يجعل المسجد الحرام مأمناً في مدة الجاهلية إذ لم يكن للناس وازع عن الظلم ، أو هو خبر مراد به الأمر مثل { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] .

وقوله : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } قرأه نافع وابن عامر بصيغة الماضي عطفاً على { جعلنا } فيكون هذا الاتخاذ من آثار ذلك الجعل فالمعنى ألهمنا الناس أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، أو أمرناهم بذلك على لسان إبراهيم فامتثلوا واتخذوه ، فهو للدلالة على حصول الجعل بطريق دلالة الاقتضاء فكأنه قيل جعلنا ذلك فاتخذوا ، وقرأه باقي العشرة بكسر الخاء بصيغة الأمر على تقدير القول أي قلنا اتخِذوا بقرينة الخطاب فيكون العامل المعطوف محذوفاً بالقرينة وبقي معموله كقول لبيد :

فَعَلاَ فروعُ الأَيهقان وأطفلتْ *** بالجَلْهَتَيْن ظِبَاؤُها ونَعَامُها

أراد وباضت نعامها فإنه لا يقال لأفراخ الطير أطفال ، فمآل القراءتين إلى مفاد واحد .

ومقام إبراهيم يطلق على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها يعبد الله تعالى ويدعو إلى توحيده ، قال زيد بن عمرو بن نفيل :

عذت بما عاذ به إبراهِمْ *** مُستقبِلَ الكعبةِ وهو قائمْ

وبهذا الإطلاق جاء في قوله تعالى : { مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] إذ الدخول من علائق البيت ، ويطلق مقام إبراهيم على الحَجَر الذي كان يقف عليه إبراهيم عليه السلام حين بنائه الكعبة ليرتفع لوضع الحجارة في أعلى الجدار كما أخرجه البخاري ، وقد ثبتت آثار قدميه في الحَجَر . قال أنس بن مالك رأيتُ في المقام أَثَر أصابعه وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم ، وهذا الحجر يعرف إلى اليوم بالمقام ، وقد ركع النبيء صلى الله عليه وسلم في موضعه ركعتين بعد طواف القدوم فكان الركوع عنده من سنة الفراغ من الطواف .

والمصلَّى موضع الصلاة وصلاتهم يومئذ الدعاء والخضوع إلى الله تعالى ، وكان إبراهيم قد وضع المسجد الحرام حول الكعبة ووضع الحَجَر الذي كان يرتفع عليه للبناء حولها فكان المصلَّى على الحجر المسمى بالمقام فذلك يكون المصلى متخَذاً من مقام إبراهيم على كلا الإطلاقين .

والقراءتان تقتضيان أن اتخاذ مقام إبراهيم مصلَّى كان من عهد إبراهيم عليه السلام ولم يكن الحَجَر الذي اعتلى عليه إبراهيم في البناء مخصوصاً بصلاة عنده ولكنه مشمول للصلاة في المسجد الحرام ولما جاء الإسلام بقي الأمر على ذلك إلى أن كان عام حجة الوداع أو عام الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجدَ الحرام ومعه عمر بن الخطاب ثم سنت الصلاة عند المقام في طواف القدوم . روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : « وافقت ربي في ثلاث : قلتُ يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ، وهذه الرواية تثير معنى آخر للآية وهي أن يكون الخطاب موجهاً للمسلمين فتكون جملة { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } معترضة بين جملة { جعلنا البيت مثابة للناس } وجملة { وعهدنا إلى إبراهيم } اعتراضاً استطرادياً ، وللجمع بين الاحتمالات الثلاثة في الآية يكون تأويل قول عمر « فنزلت » أنه نزل على النبيء صلى الله عليه وسلم شَرْع الصلاة عند حَجَر المقام بعد أن لم يكن مشروعاً لهم ليستقيم الجمع بين معنى القراءتين واتخَذوا بصيغة الماضي وبصيغة الأمر فإن صيغة الماضي لا تحتمل غير حكاية ما كان في زمن إبراهيم وصيغة الأمر تحتمل ذلك وتحتمل أن يراد بها معنى التشريع للمسلمين ، إعمالاً للقرآن بكل ما تحتمله ألفاظه حسبما بيناه في المقدمة التاسعة .

وقوله : { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } ، العهد أصله الوعد المؤكد وقوعُه وقد تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { قال لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] ، فإذا عدي بإلى كان بمعنى الوصية المؤكد على المُوصَى العمل بها فعهد هنا بمعنى أرسل عهداً إليه أي أرسل إليه يأخذ منهم عهداً ، فالمعنى وأوصينا إلى إبراهيم وإسماعيل .

وقوله : { أن طَهرا } أن تفسيرية لأن الوصية فيها معنى القول دون حروفه فالتفسير للقول الضمني والمفسِّر هو ما بعد ( أن ) فلا تقدير في الكلام ولولا قصد حكاية القول لما جاء بعد ( أن ) بلفظ الأمر ، ولقال بتطهير بيتي إلخ .

والمراد من تطهير البيت ما يدل عليه لفظ التطهير من محسوس بأن يحفظ من القاذورات والأوساخ ليكون المتعبِّد فيه مقبلاً على العبادة دون تكدير ، ومِن تطهير معنوي وهو أن يُبْعَد عنه ما لا يليق بالقصد من بنائه من الأصنام والأفعال المنافية للحق كالعدوان والفسوق ، والمنافية للمروءة كالطواف عرياً دون ثياب الرجال والنساء .

وفي هذا تعريض بأن المشركين ليسوا أهلاً لعمارة المسجد الحرام لأنهم لم يطهروه مما يجب تطهيره منه قال تعالى : { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } [ الأنفال : 34 ] وقال : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } [ لبتبة : 28 ] .

والطائفون والعاكفون والراكعون والساجدون أصناف المتعبدين في البيت من طوافٍ واعتكاف وصلاة ، وهم أصناف المتلبسين بتلك الصفات سواء انفردت بعض الطوائف ببعض هذه الصفات أو اجتمعت الصفات في طائفة أو طوائف ، وذلك كله في الكعبة قبل وضع المسجد الحرام ، وهؤلاء هم إسماعيل وأبناؤه وأصهاره من جرهم وكلّ من آمن بدين الحنيفية من جيرانهم .

وقد جمع الطائف والعاكف جمع سلامة ، وجمع الراكع والساجد جمع تكسير ، تفنناً في الكلام وبعداً عن تكرير الصيغة أكثر من مرة بخلاف نحو قوله : { مسلمات مؤمنات قانتات تائبات } [ التحريم : 5 ] الآية ، وقوله : { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } [ الأحزاب : 35 ] الآية ، وقال ابن عرفة « جمع الطائفين والعاكفين جمع سلامة لأنه أقرب إلى لفظ الفعل بمنزلة يطوفون أي يجددون الطواف للإشعار بعلة تطهير البيت وهو قرب هذين من البيت بخلاف الركوع والسجود فإنه لا يلزم أن يكونا في البيت ولا عنده فلذلك لم يجمع جمع سلامة » ، وهذا الكلام يؤذن بالفرق بين جمع السلامة وجمع التكسير من حيث الإشعار بالحدوث والتجدد ، ويشهد له كلام أبي الفتح ابن جني في « شرح الحماسة » عند قول الأحوص الأنصارى :

فإذا تزول تزول عن متخمِّط *** تُخشى بوادرُه على الأقران

قال أبو الفتح : « جاز أن يتعلق على ببوادر ، وإن كان جمعاً مكسراً والمصدر إذا كسر بَعُد بتكسيره عن شبه الفعل ، وإذا جاز تعلق المفعول به بالمصدر مكسراً نحو « مواعيد عرقوب أخاه » كان تعلق حرف الجر به أجوز » . فصريح كلامه أن التكسير يبعد ما هو بمعنى الفعل عن شبه الفعل .

وخولف بين الركوع والسجود زيادة في التفنن وإلا فإن الساجد يجمع على سجّد إلا أن الأكثر فيهما إذا اقترنا أن يخالف بين صيغتيهما قال كثير :

لو يسمعون كما سمعت كلامها *** خروا لعزة ركعاً وسجودا

وقد علمتم من النحو والصرف أن جمع فاعل على فعول سماعي فمنه شهود وهجوع وهجود وسجود .

ولم يعطف السجود على ( الركع ) لأن الوصفين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان .