نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (125)

ولما كان من إمامته اتباع الناس له في حج البيت الذي شرفه الله ببنائه قال إثر ذلك ناعياً على أهل الكتاب مخالفته وترك دينه وموطئاً لأمر القبلة : { وإذ جعلنا البيت } أي الذي بناه إبراهيم بأم القرى { مثابة للناس } أي مرجعاً يرجعون إليه بكلياتهم{[4880]} . كلما{[4881]} تفرقوا عنه اشتاقوا إليه هم{[4882]} أو غيرهم آية{[4883]} على رجوعهم من الدنيا إلى ربهم . قال الحرالي : وهو مفعلة من الثوب وهو الرجوع ترامياً إليه بالكلية . وفي صيغة المفعلة دوام المعاودة{[4884]} مثابرة { وأمناً } لكونه بيت الملك . من حرب الدنيا ومن عذاب الآخرة إلا في حق من استثناه الله من الكافرين فعلاً بالشرك وقوة بالإلحاد ، والأمن براءة عيب{[4885]} من تطرق أذى إليه - قاله الحرالي . {[4886]}وقد كانوا في الجاهلية يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض{[4887]} له . قال الأصبهاني{[4888]} : وهذا شيء توارثوه من زمن{[4889]} إسماعيل عليه السلام فقرأ عليه إلى أيام النبي صلى الله عليه وسلم{[4890]} ، فاليوم من أصاب في الحرم جريرة أقيم عليه الحد بالإجماع .

ولما كان التقدير : فتاب الناس إليه{[4891]} ائتماماً ببانيه وآمنوا بدعوته فيه عطف عليه قوله : { واتخذوا } ، وعلى قراءة الأمر يكون التقدير : فتوبوا إليه أيها الناس ائتماماً به واتخذوا { من مقام إبراهيم } خليلنا { مصلى } وهو مفعل لما تداوم فيه الصلاة ، ومقام إبراهيم هو الحجر الذي قام عليه حين جاء لزيارة ولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام فلم يجده ، فغسلت امرأة إسماعيل رأسه وهو معتمد برجله عليه وهو راكب ، غسلت شق رأسه الأيمن{[4892]} وهو معتمد{[4893]} على الحجر برجله اليمنى ، ثم أدارت الحجر إلى الجانب الأيسر وغسلت شقه الأيسر ، فغاصت رجلاه فيه ؛ ولهذا أثر قدميه مختلف ، أصابع هذه{[4894]} عند عقب هذه ، وهو قبل أن يبني{[4895]} البيت - والله أعلم بمراده .

وعهدنا } عطف على قوله { جعلنا } { إلى إبراهيم } الوفي { وإسماعيل } ابنه الصادق الوعد ، وفي ذكره إفصاح بإجابة دعوته فيه في قوله :{ ومن ذريتي }[ البقرة : 124 ] و [ إبراهيم : 37 ] وإشارة إلى أن في ذريته من يختم{[4896]} الأمم بأمته ويكون استقباله بيته في أجل العبادات{[4897]} من شرعته وأتم الإشارة بقوله : { أن طهرا بيتي } أي عن كل رجس حسي ومعنوي ، {[4898]}فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع{[4899]} ؛ والبيت موضع المبيت المخصوص من الدار المخصوصة من المنزل المختص من البلد - قاله الحرالي{[4900]} . { للطائفين } به الذين فعلهم فعل العارف بأنه ليس وراء الله مرمى ولا مهرب منه إلا إليه { والعاكفين } فيه ، والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته والاقتصار عليه ، والطواف التحليق بالشيء في غيب أو لمعنى غيب - قاله الحرالي . { والركع السجود } قال الحرالي : وفي ذكر الركوع تخصيص للعرب الذين إنما شرع الركوع في دينهم ، وفي ذلك تبكيت لمن أخرج المؤمنين ومنعهم من البيت ، وفي تكرير تفصيل هذه الآيات بإذ تنبيه على توبيخهم بترك دينه وهو الخليل واتباع من لا يعلم وهو العدو .


[4880]:العبارة من هنا إلى "غيرهم" ليست في ظ
[4881]:في مد: كما
[4882]:ليس في مد
[4883]:في الأصل: أنه والتصحيح من مد و م و ظ
[4884]:زيد في م: له
[4885]:ليس في ظ. وزيد بعده في م ومد: المرء
[4886]:العبارة من هنا إلى "بالإجماع ليست في ظ
[4887]:وقع في الأصل: يعوض –مصحفا، والتصحيح من مد، وفي م: فلا يعرض
[4888]:وقع في الأصل: يعوض –مصحفا، والتصحيح من مد، وفي م: فلا يعرض
[4889]:في م ومد: الأصفهاني
[4890]:في م ومد: دين
[4891]:والظاهر أن جعله أمنا هو في الدنيا، إذ كان العرب يقتتلون ويغير بعضهم على بعض ومكة آمنة من ذلك، فيلقى الرجل قاتل وأبيه فيها فلا يهيجه، فأمن الناس فيه والطير والوحش إلا الخمس الفواسق – المد في البحر المحيط 1/ 379
[4892]:ليس في ظ ومد.
[4893]:زيدت من ظ و م زيدت في الأصل "برجله عليه وهو راكب غسلت شق رأسه وهو معتمد" وقد كانت مكررة ولم تكن في م و مد و ظ فحذفناها.
[4894]:ليس في م ومد
[4895]:في م: يلى -كذا
[4896]:في م فقط: تختم
[4897]:في ظ: عبادته
[4898]:ليست في ظ
[4899]:ليست في ظ
[4900]:قال أبو حيان الأندلسي: هذه إضافة تشرف لا أن مكانا محل الله تعالى، ولكن لما أمر ببنائه وتطهيره وإيفاد الناس من كل فج إليه صار له بطلك اختصاص فحسنت إضافته إلى الله بطلك وصار نظير قوله "ناقة الله" و "روح الله" من حيث أن في كل منهما خصوصية لا توجد في غيره فناسب الإضافة إليه تعالى. والأمر بتطهيره يقتضي سبق وجوده إلا إذا حملنا التطهير على البناء والتاسيس على الطهارة والتقوى وقد تقدم أنه كان مبينا على عهد نوح –البحر المحيط 1/ 382.