{ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود 125 } .
{ وإذ جعلنا البيت } أي الذي بناه إبراهيم بأم القرى . وهو اسم غالب للكعبة . كالنجم للثريا { مثابة للناس } مباءة ومرجعا للحجاج والعمّار ، يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه . ومثابة مفعلة . من " الثوب " وهو الرجوع تراميا إليه بالكلية . وسر هذا التفضيل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها له . فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد . فهو الأولى بقول القائل :
محاسنه هيولى كل حسن***ومغناطيس أفئدة الرجال
فهم يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار . ولا يقضون منه وطراًَ . بل كلما ازدادوا له زيادة ، ازدادوا له اشتياقا .
لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها*** حتى يعود إليها الطرف مشتاقا
فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح ! وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ! ورضى المحب بمفارقة فلذ الأكباد الأهل والأحباب والأوطان ، مقدما بين يديه أنواع المخاوف والمتآلف والمعاطب والمشتاق ، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه !
ذكر هذه الشذرة الإمام ابن القيم في أوائل ( زاد المعاد ) .
{ وأمنا } موضع أمن . كقوله : { حرما آمنا ويتخطّف الناس من حولهم } {[725]} وكقوله : { ومن دخله كان آمنا } {[726]} وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسْبَوْن . وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له . وفي هذا بيان شرف البيت من كونه محلا تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطرا ، ولو ترددت إليه كل عام ، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } {[727]} إلى أن قال : { ربنا وتقبّل دعاء } {[728]} ومن كونه مأمنا لمن دخله . كما بيّنا .
وفي ( الصحيحين ) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال{[729]} يوم فتح مكة : ( إن هذا بلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض . وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي . ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ) الحديث . وقوله تعالى : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى } قرئ بكسر الخاء ، أمرا معترضا بين الجملتين الخبريتين . أو بتقدير : وقلنا اتخذوا . وقرئ بفتح الحاء ماضيا معطوفا على جعلنا . أي واتخذوه مصلى ، ومقام إبراهيم هو الحرم كله . عن مجاهد . وعنه : هو جمع ومزدلفة ومنى ومكة . ويقال : هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام . فقد قال قتادة : إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه . ولقد تكلفت الأمم شيئا مما تكلفته الأمم قبلها .
/ قال الراغب الأصفهانيّ : والأولى أنه الحرم كله . فما من موضع ذكروه إلا وهو مصلى أو مدّعى أو موضع صلاة .
أقول : كأن الأصل في الآية : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ومصلى . إلا أنه عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك ، ودون أن يقال مثلا : واتخذوا منه مصلى لوجوه :
( أحدها ) : التنويه بأمر الصلاة فيه والتعظيم لشأنها حيث أفرد ، للعناية بها ، جملة على حدة .
( وثانيها ) : التذكير بأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة . وما كان مقامه فجدير أن يحترم ويعظم .
( وثالثها ) : التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر ، تمهيدا للأمر باستقباله ، وإلزاما لمن جادل فيه ، وهم اليهود . وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله عنه قال{[730]} : ( يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى } قال ابن كثير : ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة . وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار . وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى ، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه ، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها . وهكذا حتى تم جدران الكعبة . كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاريّ{[731]} .
قال ابن كثير : وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما . ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك ، وكان الخليل عليه السلام ، لما فرغ من بناء البيت ، وضعه إلى جدار الكعبة ، أو أنه انتهى عنده البناء ، فتركه هناك . ولهذا ، والله أعلم ، أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف . وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه . كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإنه لما قدم مكة طاف بالبيت سبعا ، وجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين .
قال ابن كثير : وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر رضي الله عنه . ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة . وقد روى البيهقيّ بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت : ( إن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي يكر رضي الله عنه ملتصقا بالبيت . ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه ) .
وقال سفيان بن عُيَيْنَة ، وهو إمام المكيين في زمانه : كان المقام من سُقع{[732]} البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم . قال : ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فردّه عمر إليه . وقال سفيان : لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله . وقال أيضا : لا أدري أكان لاصقا بها أم لا . وأثر عائشة المتقدم يدل على أنه كان لاصقا بها . والله أعلم . وقال الحافظ الشيخ عمر بن الحافظ التقيّ محمد بن فهد المكيّ الهاشميّ ، في كتاب " إتحاف الورى بأخبار أم القرى " في حوادث سنة سبع عشرة : ( فيها جاء سيل عظيم يعرف بسيل أم نهشل من أعلى مكة من طريق الردم . فدخل المسجد الحرام واقتلع مقام إبراهيم من موضعه ، وذهب به حتى وجد بأسفل مكة . وعيّن مكانه الذي كان فيه لما عفاه السيل . فأتى به وربط بلصق الكعبة في وجهها . وذهب السيل بأم نهشل بنت عبيدة بن سعد ابن العاص بن أمية . فماتت فيه واستخرجت بأسفل مكة ، وكان سيلا هائلا . فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة الشريفة . فهاله ذلك . وركب فزعا إلى مكة . فدخلها بعمرة في شهر رمضان . فلما وصل إلى مكة وقف على حجر المقام وهو ملصق بالبيت الشريف . ثم قال : أنشد الله عبدا عنده علم في هذا المقام . فقال المطلب بن أبي وداعة السهميّ رضي الله عنه : أنا يا أمير المؤمنين عندي علم ذلك . فقد كنت أخشى عليه مثل هذا الأمر ، فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجر . ومن موضعه إلى زمزم بمِقاط{[733]} . وهي عندي في البيت . فقال له عمر : اجلس عندي وأرسل إليها من يأتي بها . فجلس عنده وأرسل إليها فأتى بها . فقيس ، ووضع حجر المقام في هذا المحل الذي هو فيه الآن . وأحكم ذلك واستمر إلى الآن ) . انتهى { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أي أمرناهما . وتعديته ب " إلى " لأنه في معنى : تقدمنا وأوحينا { أن طهّرا بيتي } أي عن كل رجس حسيّ ومعنويّ : فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع . أو ابنياه على طهر من الشرك بي . كما قال تعالى : { وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } {[734]} أو أخلصاه للطائفين وما بعده ، لئلا يغشاه غيرهم . فاللام صلة { طهرا } على هذا . وعلى ما قبله ، لام العلة . أي طهراه لأجلهم . وقوله تعالى :
{ للطائفين } أي حوله . وعن سعيد بن جبير : يعني من أتاه من غربة { والعاكفين } يعني أهله المقيمين فيه أو المعتكفين . كما روى ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال : ( قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير : ما أُراني إلا مكلِّم الأمير : أن امْنَع الذين ينامون في المسجد الحرام . فإنهم يُجنبون ويُحدثون . قال : لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال : هم العاكفون ) . ورواه عبد بن حُمَيْد في ( مسنده ) . وقد ثبت في ( الصحيح ) {[735]} ! ( أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب ) .
وفي ( الكشاف ) : يجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين . يعني القائمين في الصلاة . كما قال للطائفين والقائمين { والركع السجود } جمع راكع وساجد والمعنى للطائفين والمصلين . لأن القيام والركوع والسجود هيئات المصلي . ولتقارب الأخيرين ذاتا وزمانا ترك العاطف بين موصوفيهما . وجمع صفتين جمع سلامة ، وأخريين جمع تكسير لأجل المقابلة . وهو نوع من الفصاحة . وأخّر صيغة " فُعُول " على " فُعَّل " لأنها فاصلة . والمراد من الآية الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له . ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى : { إن الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } {[736]} ففي ذلك تبكيت لهم وتنبيه على توبيخهم بترك دينه .