البيت : معروف ، وصار علماً بالغلبة على الكعبة ، كالنجم للثريا .
الأمن : مصدر أمن يأمن ، إذا لم يخف واطمأنت نفسه .
المقام : مفعل من القيام ، يحتمل المصدر والزمان والمكان .
اسماعيل : اسم أعجمي علم ، ويقال إسماعيل باللام وإسماعين بالنون ، قال :
قال جواري الحي لماجينا *** هذا ورب البيت اسماعينا
ومن غريب ما قيل في التسمية به أن إبراهيم كان يدعو أن يرزقه الله ولداً ويقول : اسمع ايل ، وايل هو الله تعالى .
التطهير : مصدر طهر ، والتضعيف فيه للتعدية .
يقال : طهر الشيء طهارة : نطف .
الطائف : اسم فاعل من طاف به إذا دار به ، ويقال أطاف : بمعنى طاف ، قال :
والعاكف : اسم فاعل من عكف بالشيء : أقام به ولازمه ، قال :
وقال يعكفون على أصنام لهم : أي يقيمون على عبادتها .
{ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } : لما رد على اليهود في إنكارهم التوجه إلى الكعبة ، وكانت الكعبة بناء إبراهيم أبيهم ، كانوا أحق بتعظيمها ، لأنها من مآثر أبيهم .
ولوجه آخر من إظهار فضلها ، وهو كونها مثابة للناس وأمناً ، وأن فيها مقام إبراهيم ، وأنه تعالى أوحى إليه وإلى ولده ببنائها وتطهيرها ، وجعلها محلاً للطائف والعاكف والراكع والساجد ، وأمره بأن ينادي في الناس بحجها .
والبيت هنا : الكعبة ، على قول الجمهور .
وقيل : المراد البيت الحرام لا نفس الكعبة ، لأنه وصفه بالأمن ، وهذه صفة جميع الحرم ، لا صفة الكعبة فقط .
ويجوز إطلاق البيت ، ويراد به كل الحرم .
وأما الكعبة فلا تطلق إلا على البناء الذي يطاف به ، ولا تطلق على كل الحرم .
والتاء في مثابة للمبالغة ، لكثرة من يثوب إليه ، قاله الأخفش ، أو لتأنيث المصدر ، أو لتأنيث البقعة ، كما يقال مقام ومقامه ، قال الشاعر :
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة*** فهل يعجزني بقعة من بقاعها
ذكر رحباً على مراعاة المكان ، وأنث فسيحة على اللفظ .
وقرأ الأعمش وطلحة : مثابات على الجمع ، وقال ورقة بن نوفل :
مثاباً لا فناء القبائل كلها***
ووجه قراءة الجميع أنه مثابة لكل من الناس ، لا يختص به واحد منهم ، { سواء العاكف فيه والباد } .
ومثابة ، قال مجاهد وابن جبير معناه : يثوبون إليه من كل جانب ، أي يحجونه في كل عام ، فهم يتفرّقون ، ثم يثوبون إليه أعيانهم أو أمثالهم ، ولا يقضي أحد منهم وطراً ، وقال الشاعر :
جعل البيت مثاباً لهم*** ليس منه الدهر يقضون الوطر
وقال ابن عباس : معاذاً وملجأ .
وقال بعض أهل اللغة ، فيما حكاه الماوردي : أي مكان .
إثابة : واحدة من الثواب ، وأورد هذا القول ابن عطية احتمالاً منه .
والألف واللام في قوله للناس : أما لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أن الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان ، وإما للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك .
وجعلنا هنا بمعنى صيرنا ، فمثابة مفعول ثان .
وقيل : جعل هنا بمعنى : خلق ، أو وضع ، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره : مثابة كائنة ، إذ هو في موضع الصفة .
وقيل : يتعلق بلفظ جعلنا ، أي لأجل الناس .
والأمن : مصدر جعل البيت إياه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع به من الأمن ، أو على حذف مضاف ، أي ذا أمن ، أو على أنه أطلق على اسم الفاعل مجازاً ، أي آمنا ، كما قال تعالى : { اجعل هذا البلد آمناً } ، وجعله آمناً ، اختلفوا ، هل ذلك في الدنيا أو في الآخرة ؟ فمن قال : إنه في الدنيا ، فقيل معناه : أن الناس كانوا يقتتلون ، ويغير بعضهم على بعض حول مكة ، وهي آمنة من ذلك ، ويلقى الرجل قاتل أبيه فلا يهيجه ، لأنه تعالى جعل لها في النفوس حرمة ، وجعلها أمناً للناس والطير والوحش ، إلا الخمس الفواسق ، فخصصت من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما من أحدث حدثاً خارج الحرم ، ثم أتى الحرم ، ففي أمنه من أن يهاج فيه خلاف مذكور في الفقه .
وقيل معناه : إنه آمن من لأهله ، يسافر أحدهم الأماكن البعيدة ، فلا يروعه أحد .
وقيل : معناه : إنه يؤمن من أن يحول الجبابرة بينه وبين من قصده .
ومن قال هذا الأمن في الآخرة ، قيل : من المكر عند الموت .
وقيل : من بخس ثواب من قصده ، قال قوم : وهذا الأمن مختص بالبيت .
وقال في ريّ الظمآن معناه : ذا أمن لقاطنيه من أن يجري عليهم ما يجري على سكان البوادي وسائر بلدان العرب .
والظاهر أن قوله : وأمناً ، معطوف على قوله : مثابة ، ويفسر الأمن بما تقدّم ذكره .
وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر ، التقدير : واجعلوه آمناً ، أي جعلناه مثابة للناس ، فاجعلوه آمناً لا يتعدّى فيه أحد على أحد .
فمعناه أن الله أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمناً من الغارة والقتل ، وكان البيت محرّماً بحكم الله ، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ : واتخذوا على الأمر ، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل ، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية ، وعلى القول الظاهر يكون من عطف المفردات .
{ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } : قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، والجمهور : واتخذوا ، بكسر الخاء على الأمر .
وقرأ نافع ، وابن عامر : بفتحها ، جعلوه فعلاً ماضياً .
فأما قراءة : واتخذوا على الأمر ، فاختلف من المواجه به ، فقيل : إبراهيم وذريته ، أي وقال الله لإبراهيم وذريته : اتخذوا .
وقيل : النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، أي : وقلنا اتخذوا .
ويؤيده ما روي عن عمر أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، فذكر منها وقلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيد عمر فقال : «هذا مقام إبراهيم » ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى ؟ فقال : «لم أومر بذلك » .
وعلى هذين القولين يكون اتخذوا معمولاً لقول محذوف .
وقيل : المواجه به بنو إسرائيل ، وهو معطوف على قوله : { اذكروا نعمتي } وقيل : هو معطوف على قوله : { وإذ جعلنا البيت مثابة } ، قالوا : لأن المعنى : ثوبوا إلى البيت ، فهو معطوف على المعنى .
وأما قراءة : واتخذوا ، بفتح الخاء ، فمعطوف على ما قبله ، فأما على مجموع ، إذ جعلنا فيحتاج إلى إضمار إذ ، وإما على نفس جعلنا ، فلا يحتاج إلى تقديرها ، بل يكون في صلة إذ .
والمعنى : واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به ، وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها ، قاله الزمخشري .
من مقام : جوّزوا في من أن تكون تبعيضية ، وبمعنى في ، وزائدة على مذهب الأخفش ، والأظهر الأول .
وقال القفال : هي مثل اتخذت من فلان صديقاً ، وأعطاني الله من فلان أخاً صالحاً ، دخلت من لبيان المتخذ الموهوب ، وتميزه في ذلك المعنى والمقام مفعل من القيام ، يراد به المكان ، أي مكان قيامه ، وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت ، وغرقت قدماه فيه ، قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم ، وخرجه البخاري ، وهو الآن موضع ذلك الحجر والمسمى مقام إبراهيم .
وعن عمر أنه سأل المطلب بن أبي رفاعة : هل تدري أين كان موضعه الأول ؟ قال نعم ، فأراه موضعه اليوم .
قال أنس : رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه ، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم ، حكاه القشيري .
أو حجر جاءت به أم إسماعيل إليه وهو راكب ، فاغتسل عليه ، فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه ، قاله الربيع بن أنس ؛ أو مواقف الحج كلها ، قاله ابن عباس أيضاً وعطاء ومجاهد ، أو عرفة والمزدلفة والجمار ، قاله عطاء والشعبي ، لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها ؛ أو الحرم كله ، قاله النخعي ومجاهد ؛ أو المسجد الحرام ، قاله قوم .
واتفق المحققون على القول الأول ورجح بحديث عمر : أفلا نتخذه مصلى ؟ الحديث ، وبقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الطواف وأتى المقام : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ، فدل على أن المراد منه ذلك الموضع ، ولأن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع ، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حين غاصت فيه رجلاه ، وفي ذلك معجزة له ، فكان اختصاصه به أقوى من اختصاص غيره .
فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى ، ولأن المقام هو موضع القيام ، وثبت قيامه على الحجر ولم يثبت على غيره .
موضع دعاء ، قاله مجاهد ، والأولى الحمل على الصلاة الشرعية لا على الصلاة لغة .
قال ابن عطية : موضع صلاة على قول من قال المقام : الحجر ، ومن قال غيره قال : مصلى ، مدعى على أصل الصلاة ، يعني في اللغة . انتهى .
{ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أي أمرنا أو وصينا ، أو أوحينا ، أو قلنا أقوال متقاربة المعنى .
{ أن طهرا } : يحتمل أن تكون أن تفسيرية ، أي طهرا ، ففسر بها العهد ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، أي بأن طهرا .
فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب ، وعلى الثاني يحتمل الجرّ والنصب على اختلاف النحويين .
إذا حذف من أن حرف الجر ، هل المحل نصب أو خفض ؟ وقد تقدّم لنا الكلام مرة في وصل أن بفعل الأمر ، وأنه نص على ذلك سيبويه وغيره ، وفي ذلك نظر ، لأن جميع ما ذكر من ذلك محتمل ، ولا أحفظ من كلامهم : عجبت من أن أضرب زيداً ، ولا يعجبني أن أضرب زيداً ، فتوصل بالأمر ، ولأن انسباك المصدر يحيل معنى الأمر ويصيره مستنداً إليه وينافي ذلك الأمر .
والتطهير : المأمور به هو التنظيف من كل ما لا يليق به .
وقد فسروا التطهير بالبناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد ، قاله السدّي ، وهو بعيد ، وبالتطهير من الأوثان .
وذكروا أنه كان عامراً على عهد نوح ، وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم ، وأنه طال العهد ، فعبدت من دون الله ، فأمر الله بتطهيره من تلك الأوثان ، قاله جبير ومجاهد وعطاء ومقاتل .
والمعنى : أنه لا ينصب فيه وثن ، ولا يعبد فيه غير الله .
وقال يمان : معناه بخّراه ونظفاه وخلقاه .
وقيل : من الفرث والدم الذي كان يطرح فيه .
وقيل : معناه أخلصاه لهؤلاء ، لا يغشاه غيرهم ، والأولى حمله على التطهير مما لا يناسب بيوت الله ، فيدخل فيه الأوثان والإنجاس ، وجميع الخبائث ، وما يمنع منه شرعاً ، كالحائض .
{ بيتي } : هذه إضافة تشريف ، لا أن مكاناً محل لله تعالى ، ولكن لما أمر ببنائه وتطهيره وإيفاد الناس من كل فج إليه ، صار له بذلك اختصاص ، فحسنت إضافته إلى الله بذلك ، وصار نظير قوله : { ناقة الله } { وروح الله } من حيث أن في كل منهما خصوصية لا توجد في غيره ، فناسب الإضافة إليه تعالى .
والأمر بتطهيره يقتضي سبق وجوده ، إلا إذا حملنا التطهير على البناء والتأسيس على الطهارة والتقوى .
وقد تقدّم أنه كان مبنياً على عهد نوح .
{ للطائفين والعاكفين } : ظاهره أنه كل من يطوف من حاضر أو باد ، قاله عطاء وغيره .
وقال ابن جبير : الغرباء الطارئون على مكة حجاجاً وزوّاراً ، فيرحلون عن قريب ، ويؤيده أنه ذكر بعده .
والعاكفين ، قال : وهم أهل البلد الحرام المقيمون ، والمقيم مقابل المسافر .
وقال عطاء : العاكفون هم الجالسون من غير طواف من بلديّ وغريب .
وقال مجاهد : المجاورون له من الغرباء .
وقال ابن عباس : المصلون ، لأن الذي يكون يدخل إلى البيت ، إنما يدخل لطواف أو صلاة .
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالعاكفين : الواقفين ، يعني القائمين ، كما قال للطائفين والقائمين والركع السجود .
والمعنى للطائفين والمصلين ، لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي . انتهى .
ولو قال : القائم هنا معناه : العاكف ، من قوله : ما دمت عليه قائماً ، لكان حسناً ، ويكون في ذلك جمع بين أحوال من دخل البيت للتعبد ، لأنه لا يخلو إذ ذاك من طواف أو اعتكاف أو صلاة ، فيكون حمله على ذلك أجمع لما هيىء البيت له .
{ والركع السجود } : هو المصلون عند الكعبة ، قاله عطاء وغيره .
وقال الحسن : هم جميع المؤمنين ، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي ، لأنهما أقرب أحواله إلى الله ، وقدّم الركوع على السجود لتقدمه عليه في الزمان ، وجمعا جمع تكسير لمقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة ، فكان ذلك تنويعاً في الفصاحة ، وخالف بين وزني تكسيرهما تنويعاً في الفصاحة أيضاً ، وكان آخرهما على فعول ، لا على فعل ، لأجل كونها فاصلة ، والفواصل قبلها وبعدها آخر ما قبله حرف مدّ ولين ، وعطفت تينك الصفتان لفرط التباين بينهما بأي تفسير فسرتهما مما سبق .
ولم يعطف السجود على الركع ، لأن المقصود بهما المصلون .
والركع والسجود ، وإن اختلفت هيآتهما فيقابلهما فعل واحد وهو الصلاة .
فالمراد بالركع السجود : المصلون ، فناسب أن لا يعطف ، لئلا يتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها ، وليستا مجتمعتين في عبادة واحدة ، وليس كذلك .
وفي قوله : { والركع السجود } دلالة على جواز الصلاة في البيت فرضاً ونفلاً ، إذ لم يخصص .