فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (125)

قوله : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت } هو : الكعبة غلب عليه كما غلب النجم على الثريا ، و { مَثَابَةً } مصدر من ثاب يثوب مثاباً ، ومثابة ، أي : مرجعاً يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه ، ومنه قول ورقة بن نوفل في الكعبة :

مَثاب لأقفاءِ القبائل كُلَّها *** تَخُبُّ إلَيها اليَعْمَلاتُ الذَّوابلُ

وقرأ الأعمش «مثابات » وقيل المثابة من الثواب ، أي : يثابون هنالك . وقال مجاهد : المراد أنهم لا يقضون منه أوطارهم ، قال الشاعر :

جُعِل البيْتُ مَثابات لَهُم *** ليْسَ منه الدهرَ يَقْضُونَ الوَطرْ

قال الأخفش : ودخلت الهاء لكثرة من يثوب إليه ، فهي كعلامة ونسابة . وقال غيره : هي للتأنيث ، وليست للمبالغة . وقوله : { وَأَمْناً } هو اسم مكان أي : موضع أمن . وقد استدل بذلك جماعة من أهل العلم على أنه لا يقام الحدّ على من لجأ إليه ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً } [ آل عمران : 97 ] وقيل إن ذلك منسوخ . وقوله : { واتخذوا مِن مقَامِ إبراهيم مُصَلّىً } قرأ نافع ، وابن عامر بفتح الخاء على أنه فعل ماض : أي : جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوه مصلى . وقرأ الباقون على صيغة الأمر عطفاً على { اذكروا } المذكور أوّل الآيات ، أو على " اذكروا " المقدّر عاملاً في قوله : { وَإِذْ } ويجوز أن يكون على تقدير القول ، أي : وقلنا اتخذوا . والمقام في اللغة : موضع القيام ، قال النحاس ، هو من قام يقوم ، يكون مصدراً واسماً للموضع ، ومقام من أقام ، وليس من هذا قول الشاعر :

وَفيِهم مَقَامات حِسانٌ وجوهها *** وأنديةٌ ينتابُها القولُ والفعلُ

لأن معناه أهل مقامات . واختلف في تعيين المقام على أقوال ، أصحها أنه الحجر الذي يعرفه الناس ، ويصلون عنده ركعتي الطواف ، وقيل المقام الحج كله ، روى ذلك عن عطاء ، ومجاهد ، وقيل : عرفة والمزدلفة ، روي عن عطاء أيضاً ، وقال الشعبي : الحرم كله مقام إبراهيم ، وروى عن مجاهد .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْناً } قال : يثوبون إليه ، ثم يرجعون . وأخرج ابن جرير ، عنه أنه قال : لا يقضون منه وطراً يأتونه ، ثم يرجعون إلى أهليهم ، ثم يعودون إليه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَأَمْناً } قال : أمناً للناس . وأخرج البخاري ، وغيره من حديث أنس ، عن عمر بن الخطاب قال : وافقت ربي في ثلاث ووافقني ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : { واتخذوا مِن مقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } وقلت : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهنّ البرّ ، والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ، فنزلت آية الحجاب ، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة ، فقلت لهنّ : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزواجا خَيْراً منكُنَّ } [ التحريم : 5 ] فنزلت كذلك ، وأخرجه مسلم ، وغيره مختصراً من حديث ابن عمر عنه . وأخرج مسلم ، وغيره من حديث جابر : «أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً ، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم ، فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ : { واتخذوا مِن مقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } » وفي مقام إبراهيم عليه السلام أحاديث كثيرة مستوفاة في الأمهات وغيرها ، والأحاديث الصحيحة تدل على أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار ، أتاه إسماعيل به ليقوم فوقه ، كما في البخاري من حديث ابن عباس ، وهو الذي كان ملصقاً بجدار الكعبة ، وأوّل من نقله عمر بن الخطاب كما أخرجه عبد الرزاق ، والبيهقي بإسناد صحيح ، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة .

وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جابر في وصف حج النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ قال : «لما طاف النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له عمر : هذا مقام إبراهيم ؟ » قال : «نعم » . وأخرج نحوه ابن مردويه .

قوله : { عَهِدْنَا } معناه هنا : أمرنا أو أوجبنا . وقوله : { أَن طَهّرَا } في موضع نصب بنزع الخافض ، أي : بأن طهراً قاله الكوفيون ، وقال سيبويه : هو بتقدير أي المفسرة : أي أن طهراً ، فلا موضع لها من الإعراب ، والمراد بالتطهير قيل : من الأوثان ، وقيل من الآفات ، والريب . وقيل : من الكفار . وقيل : من النجاسات ، وطواف الجنب ، والحائض ، وكل خبيث . والظاهر أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع ، وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير ، فهو يتناوله ، إما تناولاً شمولياً أو بدلياً . والإضافة في قوله : { بَيْتِىَ } للتشريف والتكريم ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ، وأهل المدينة ، وهشام ، وحفص «بيتي » بفتح الياء ، وقرأ الآخرون بإسكانها . والطائف : الذي يطوف به . وقيل : الغريب الطارئ على مكة . والعاكف : المقيم : وأصل العكوف في اللغة : اللزوم ، والإقبال على الشيء ، وقيل : هو : المجاور دون المقيم من أهلها ، والمراد بقوله : { والركع السجود } المصلون ، وخص هذين الركنين بالذكر ؛ لأنهما أشرف أركان الصلاة .