قوله : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت } هو : الكعبة غلب عليه كما غلب النجم على الثريا ، و { مَثَابَةً } مصدر من ثاب يثوب مثاباً ، ومثابة ، أي : مرجعاً يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه ، ومنه قول ورقة بن نوفل في الكعبة :
مَثاب لأقفاءِ القبائل كُلَّها *** تَخُبُّ إلَيها اليَعْمَلاتُ الذَّوابلُ
وقرأ الأعمش «مثابات » وقيل المثابة من الثواب ، أي : يثابون هنالك . وقال مجاهد : المراد أنهم لا يقضون منه أوطارهم ، قال الشاعر :
جُعِل البيْتُ مَثابات لَهُم *** ليْسَ منه الدهرَ يَقْضُونَ الوَطرْ
قال الأخفش : ودخلت الهاء لكثرة من يثوب إليه ، فهي كعلامة ونسابة . وقال غيره : هي للتأنيث ، وليست للمبالغة . وقوله : { وَأَمْناً } هو اسم مكان أي : موضع أمن . وقد استدل بذلك جماعة من أهل العلم على أنه لا يقام الحدّ على من لجأ إليه ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً } [ آل عمران : 97 ] وقيل إن ذلك منسوخ . وقوله : { واتخذوا مِن مقَامِ إبراهيم مُصَلّىً } قرأ نافع ، وابن عامر بفتح الخاء على أنه فعل ماض : أي : جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوه مصلى . وقرأ الباقون على صيغة الأمر عطفاً على { اذكروا } المذكور أوّل الآيات ، أو على " اذكروا " المقدّر عاملاً في قوله : { وَإِذْ } ويجوز أن يكون على تقدير القول ، أي : وقلنا اتخذوا . والمقام في اللغة : موضع القيام ، قال النحاس ، هو من قام يقوم ، يكون مصدراً واسماً للموضع ، ومقام من أقام ، وليس من هذا قول الشاعر :
وَفيِهم مَقَامات حِسانٌ وجوهها *** وأنديةٌ ينتابُها القولُ والفعلُ
لأن معناه أهل مقامات . واختلف في تعيين المقام على أقوال ، أصحها أنه الحجر الذي يعرفه الناس ، ويصلون عنده ركعتي الطواف ، وقيل المقام الحج كله ، روى ذلك عن عطاء ، ومجاهد ، وقيل : عرفة والمزدلفة ، روي عن عطاء أيضاً ، وقال الشعبي : الحرم كله مقام إبراهيم ، وروى عن مجاهد .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْناً } قال : يثوبون إليه ، ثم يرجعون . وأخرج ابن جرير ، عنه أنه قال : لا يقضون منه وطراً يأتونه ، ثم يرجعون إلى أهليهم ، ثم يعودون إليه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَأَمْناً } قال : أمناً للناس . وأخرج البخاري ، وغيره من حديث أنس ، عن عمر بن الخطاب قال : وافقت ربي في ثلاث ووافقني ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : { واتخذوا مِن مقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } وقلت : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهنّ البرّ ، والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ، فنزلت آية الحجاب ، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة ، فقلت لهنّ : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزواجا خَيْراً منكُنَّ } [ التحريم : 5 ] فنزلت كذلك ، وأخرجه مسلم ، وغيره مختصراً من حديث ابن عمر عنه . وأخرج مسلم ، وغيره من حديث جابر : «أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً ، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم ، فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ : { واتخذوا مِن مقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } » وفي مقام إبراهيم عليه السلام أحاديث كثيرة مستوفاة في الأمهات وغيرها ، والأحاديث الصحيحة تدل على أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار ، أتاه إسماعيل به ليقوم فوقه ، كما في البخاري من حديث ابن عباس ، وهو الذي كان ملصقاً بجدار الكعبة ، وأوّل من نقله عمر بن الخطاب كما أخرجه عبد الرزاق ، والبيهقي بإسناد صحيح ، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة .
وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جابر في وصف حج النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ قال : «لما طاف النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له عمر : هذا مقام إبراهيم ؟ » قال : «نعم » . وأخرج نحوه ابن مردويه .
قوله : { عَهِدْنَا } معناه هنا : أمرنا أو أوجبنا . وقوله : { أَن طَهّرَا } في موضع نصب بنزع الخافض ، أي : بأن طهراً قاله الكوفيون ، وقال سيبويه : هو بتقدير أي المفسرة : أي أن طهراً ، فلا موضع لها من الإعراب ، والمراد بالتطهير قيل : من الأوثان ، وقيل من الآفات ، والريب . وقيل : من الكفار . وقيل : من النجاسات ، وطواف الجنب ، والحائض ، وكل خبيث . والظاهر أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع ، وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير ، فهو يتناوله ، إما تناولاً شمولياً أو بدلياً . والإضافة في قوله : { بَيْتِىَ } للتشريف والتكريم ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ، وأهل المدينة ، وهشام ، وحفص «بيتي » بفتح الياء ، وقرأ الآخرون بإسكانها . والطائف : الذي يطوف به . وقيل : الغريب الطارئ على مكة . والعاكف : المقيم : وأصل العكوف في اللغة : اللزوم ، والإقبال على الشيء ، وقيل : هو : المجاور دون المقيم من أهلها ، والمراد بقوله : { والركع السجود } المصلون ، وخص هذين الركنين بالذكر ؛ لأنهما أشرف أركان الصلاة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.