لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (125)

قوله عز وجل : { وإذ جعلنا البيت } يعني البيت الحرام ، وهو الكعبة ويدخل فيه الحرم فإن الله تعالى وصفه بكونه آمناً وهذه صفة جميع الحرم

{ مثابة للناس } أي مرجعاً من ثاب يثوب إذا رجع ، والمعنى يثوبون إليه من كل جانب يحجونه { وأمناً } أي موضعاً ذا أمن يؤمنون فيه من أذى المشركين فإنهم كانوا لا يتعرضون لأهل مكة . ويقولون : هم أهل الله . وقال ابن عباس : معاذاً وملجأ ( ق ) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاه فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال : إلا الإذخر " معنى الحديث : أنه لا يحل لأحد أن ينصب القتال والحرب في الحرم وإنما أحل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقط ولا يحل لأحد بعده . قوله : لا يعضد شوكه أي لا يقطع شوك الحرم وأراد به ما لا يؤذي منه أما ما يؤذي منه كالعوسج فلا بأس بقطعه . قوله : ولا ينفر صيده أي لا يتعرض له بالاصطياد ولا يهاج . قوله : ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها أي ينشدها . والنشد رفع الصوت بالتعريف . واللقطة في جميع الأرض لا تحل إلا لمن يعرفها حولاً فإن جاء صاحبها أخذها . وإلا انتفع بها الملتقط بشرط الضمان . وحكم مكة في اللقطة أن يعرفها على الدوام بخلاف غيرها من البلاد فإنه محدود بسنة . قوله : ولا يختلى خلاه . الخلي مقصور الرطب من النبات الذي يرعى وقيل : هو اليابس من الحشيش وخلاه قطعه . وقول : لقينهم القين الحداد وقوله تعالى : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } قيل : الحرم كله مقام إبراهيم ، وقيل : أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج مثل عرفة والمزدلقة والرمي وسائر المشاهد ، والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة ، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت ، وقيل : كان أثر أصابع رجلي إبراهيم عليه السلام فيه فاندرست بكثرة المسح بالأيدي وقيل : إنما أمروا بالصلاة عنده ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله ( ق ) عن أنس بن مالك قال قال عمر : " وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى } الحديث . وكان بدء قصة المقام على ما رواه البخاري في صحيحه ، عن ابن عباس قال : أول ما اتخذت النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم من أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هناك ، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل . فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء فقالت له : ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له : آلله أمرك بهذا قال : نعم قالت إذا لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه وقال ربنا : إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت ، وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال : يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً فهبطت من الصفا حتى بلغت الوادي ، ورفعت طرف درعها وسعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ، فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضاً فقالت يا من قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول : بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها ، وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم " يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم ، أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً " قال : فشربت وأرضعت ولدها . فقال : لها الملك لا تخافي الضيعة ، فإن ها هنا بيتاً لله يبتنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول فتأخذ عن يمنيه وعن شماله فكانت كذلك ، حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك قالت : نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا : نعم . قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فألقى ذلك أم إسماعيل ، وهي تحب الأنس فأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام وتعلم العربية منهم ، وآنسهم وأعجبهم حيث شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم ، وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته ، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا وفي رواية ذهب يصيد لنا ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بشر نحن في ضيق وشدة وشكت إليه فقال إذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام وقولي له : يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً فقال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد ، وشدة فقال : هل أوصاك بشيء قالت : نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول لك غير عتبة بابك قال ذلك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها ، وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ، ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه . فقالت : خرج يبتغي لنا ، قال : كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على الله عز وجل فقال : وما طعامكم ؟ قالت اللحم قال : وما شرابكم قالت : الماء قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم حب دعا لهم فيه " ، قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه وفي رواية فجاء فقال : أين إسماعيل ؟ فقالت امرأته : قد ذهب يصيد ، فقالت امرأته : ألاّ تنزل عندنا فتطعم وتشرب . قال : وما طعامكم وشرابكم قالت : طعامنا اللحم وشرابنا الماء قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم . قال : فقال أبو القاسم بركة دعوة إبراهيم . قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه أن يثبت عتبة بابه فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد ؟ قالت : نعم أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير قال فأوصاك بشيء قالت : نعم يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك فقال : ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم ، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ، ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال : فاسمع ما أمرك ربك . قال : وتعينني قال وأعينك قال : فإن الله أمرني أن أبني بيتاً ها هنا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها فعند ذلك رفع القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاءه بهذا الحجر فوضعه له ، فقام إبراهيم عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم : وفي رواية حتى إذا ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام ، فجعل يناوله الحجارة ويقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وقيل : إن امرأة إسماعيل قالت لإبراهيم : انزل اغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بالمقام فوضعته عند شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولته إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه .

عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب " أخرجه الترمذي . وقال هذا يروى عن ابن عمر موقوفاً . واختلفوا في قوله : مصلى فمن فسر المقام بمشاهد الحج ومشاعره قال مصلّى مدعى من الصلاة التي هي الدعاء ، ومن فسر المقام بالحجر قال معناه واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى قبلة ، أمروا بالصلاة عنده وهذا القول هو الصحيح ، لأن لفظ الصلاة إذا أطلق لا يعقل منه إلا الصلاة المعهودة ذات الركوع والسجود ، ولأن مصلى الرجل هو الموضع الذي يصلي فيه { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أي أمرناهما وألزمناهما وأوجبنا عليهما . قيل : إنما سمي إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولداً ، ويقول في دعائه : اسمع يا إيل وإيل بلسان السريانية هو الله . فلما رزق الولد سماه به { أن طهرا بيتي } يعني الكعبة أضافه إليه تشريفاً وتفضيلاً وتخصيصاً ، أي ابنياه على الطهارة والتوحيد ، وقيل طهراه من سائر الأقذار والأنجاس ، وقيل طهراه من الشرك والأوثان وقول الزور { للطائفين } يعني الدائرين حوله { والعاكفين } يعني المقيمين به والمجاورين له { والركع السجود } جمع راكع وساجد وهم المصلون وقيل : الطائفين يعني الغرباء الواردين إلى مكة والعاكفين يعني أهل مكة المقيمين بها . قيل : إن الطواف للغرباء أفضل والصلاة لأهل مكة بمكة أفضل .