أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَٰلِكَ نُـۨجِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (88)

{ فاستجبنا له ونجيناه من الغم } بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات كان في بطنه . وقيل ثلاثة أيام والغم غم الالتقام وقيل غم الخطيئة . { وكذلك ننجي المؤمنين } من غموم دعوا الله فيها بالإخلاص وفي الإمام : " نجي " ولذلك أخفى الجماعة النون الثانية فإنها تخفى مع حروف الفم ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بتشديد الجيم على أن أصله { ننجي } النون الثانية كما حذفت التاء الثانية في { تظاهرون } ، وهي وإن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة التي لمعنى ولا يقدح فيه اختلاف حركتي النونين فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام وامتناع الحذف في تتجافى لخوف اللبس . وقيل هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وسكن آخره تخفيفا ورد بأنه لا يسند إلى المصدر والمفعول مذكور والماضي لا يسكن آخره .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَٰلِكَ نُـۨجِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (88)

فاستجاب الله تعالى له وأخرجه إلى البر ، ووصف هذا يأتي في موضعه ، و { الغم } ما كان ناله حين التقمه الحوت ، وقرأ الجمهور القراء «ننْجي » بنونين الثانية ساكنة ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «نُجي » بنون واحدة مضمونة وشد الجيم ، ورويت عن أبي عمرو ، وقرأت فرقة «نُنَجّي » بنونين الأولى مضمونة والثانية مفتوحة والجيم مشددة ، فأما القراءة الأولى والثالثة فبينتان الأولى فعلها معدى بالهمزة والأخرى بالتضعيف ، وأَما القراءة الوسطى التي هي بنون واحدة مضمونة وجيم مشددة وياء ساكنة فقال أَبو علي لا وجه لها وإنما هي وهم من السامع ، وذلك أن عاصماً قرأ «ننجي » والنون الثانية لا يجوز إظهارها لأنها تخفى مع هذه الحروف يعني الجيم وما جرى مجراها فجاء الإخفاء يشبهها بالإدغام ، ويمتنع أن يكون الأصل «ننجي » ثم يدعو اجتماع النونين إلى إدغام إحداهما في الجيم لأَن اجتماع المثلين إنما يدعو إلى ذلك إذا كانت الحركة فيهما متفقة ، ويمتنع أَن يكون الأصل «نجي » وتسكن الياء ويكون المفعول الذي لم يسم فاعله المصدر كأنه قال «نجي » النجاء المؤمنين لأن هذه لا تجيء إلا في ضرورة فليست في كتاب الله والشاهد فيها قول الشاعر : [ الوافر ]

ولو ولدت قفيزة جرو كلب . . . لسب بذلك الجرو الكلابا{[8272]}

وأيضاً فإن الفعل الذي يبنى للمفعول إذا كان ماضياً لم يسكن آخره ع والمصاحف فيها نون واحدة كتبت كذلك من حيث النون الثانية مخفية .


[8272]:(قفيرة) على وزن جهينة هي أم الفرزدق، والبيت لجرير، قاله من قصيدة يهجو بها الفرزدق. والجرو: الصغير من ولد الكلب والأسد والسباع، ومن هنا تظهر فائدة الإضافة إلى الكلب، لأنها تحدد المراد من الجرو بأنه ابن كلب، وقد كان جرير قاسيا في هجائه، وكثيرا ما ذكر قفيرة ونعتها بأقبح الصفات، وهو القائل فيها: وهل أم تكون أشد رعيا وصرا من قفيرة واحتلابا؟ والتقدير في البيت: لسب السب بذلك الجرو، وهذا شاذ، كما تقول: ضرب زيدا، بمعنى: ضرب الضرب زيدا، وتسكين الياء في الآية لغة عربية. ولكن ابن عطية يرفض هذا في الآية.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَٰلِكَ نُـۨجِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (88)

الاستجابة : مبالغة في الإجابة . وهي إجابة توبته مما فرط منه . والإنجاء وقع حين الاستجابة إذ الصحيح أنه ما بقي في بطن الحوت إلا ساعة قليلة ، وعطف بالواو هنا بخلاف عطف { فكشفْنا } على { فاستجبنا } وإنجاؤه هو بتقدير وتكوين في مزاج الحوت حتى خرج الحوت إلى قرب الشاطىء فتقاياه فخرج يسبَح إلى الشاطىء .

وهذا الحوت هو من صنف الحوت العظيم الذي يبتلع الأشياء الضخمة ولا يقضمها بأسنانه . وشاع بين الناس تسمية صنففٍ من الحوت بحوت يونس رجماً بالغيب .

وجملة { وكذلك ننجي المؤمنين } تذييل . والإشارة ب { كذلك } إلى الإنجاء الذي أُنجي به يونس ، أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين من غُموم بحسب من يقع فيها أن نجاته عسيرة . وفي هذا تعريض للمشركين من العرب بأن الله منجي المؤمنين من الغمّ والنكد الذي يلاقونه من سوء معاملة المشركين إياهم في بلادهم .

واعلم أن كلمة { فنجّيَ } كتبت في المصاحف بنون واحدة كما كتبت بنون واحدة في قوله في [ سورة يوسف : 110 ] { فننجي من نشاء } ووجّه أبو علي هذا الرسم بأن النون الثانية لما كانت ساكنة وكان وقوع الجيم بعدها يقتضي إخفاءها لأن النون الساكنة تخفى مع الأحرف الشجرية وهي الجيم والشين والضاد فلما أُخفيت حذفت في النطق فشابَه إخفاؤُها حالةَ الإدغام فحذَفَها كاتبُ المصحف في الخطّ لخفاء النطق بها في اللفظ ، أي كما حذفوا نون ( إن ) مع ( لا ) في نحو إلا فعلوه من حيث إنها تدغم في اللام .

وقرأ جمهور القراء بإثبات النونين في النطق فيكون حذف إحدى النونين في الخط مجرد تنبيه على اعتبارٍ من اعتبارات الأداء . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم بنون واحدة وبتشديد الجيم على اعتبار إدغام النون في الجيم كما تدغم في اللام والراء . وأنكر ذلك عليهما أبو حاتم والزجّاج وقالا : هو لَحن . ووجّه أبو عبيد والفراء وثعلب قراءتهما بأن نُجِي سكنت ياؤه ولم تحرك على لغة من يقول بَقِي ورضِي فيسكن الياء كما في قراءة الحسن { وذروا ما بقِي من الرِبا } [ البقرة : 278 ] بتسكين ياء { بقي . وعن أبي عبيد والقُتبي أن النون الثانية أدغمت في الجيم .

ووجّه ابن جني متابعاً للأخفش الصغير بأن أصل هذه القراءة : نُنَجّي بفتح النون الثانية وتشديد الجيم فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين فصار نُجي . وعن بعض النحاة تأويل هذه القراءة بأن نُجِّي فعل مضي مبني للنائب وأن نائب الفاعل ضمير يعود إلى النجاء المأخوذ من الفعل ، أو المأخوذ من اسم الإشارة في قوله وكذلك .

وانتصب { المؤمنين } على المفعول به على رأي من يجوز إنابة المصدر مع وجود المفعول به . كما في قراءة أبي جعفر { ليُجزَى } بفتح الزاي { قوماً بما كانوا يكسبون } [ الجاثية : 14 ] بتقدير ليجزَى الجزاءُ قوماً . وقال الزمخشري في « الكشاف » : إن هذا التوجيه بارد التعسف .