إنا أنذرناكم عذابا قريبا يعني عذاب الآخرة وقربه لتحققه فإن كل ما هو آت قريب ولأن مبدأه الموت يوم ينظر المرء ما قدمت يداه يرى ما قدمه من خير أو شر و المرء عام وقيل هو الكافر لقوله إنا أنذرناكم فيكون الكافر ظاهرا وضع موضع الضمير لزيادة الذم و ما موصولة منصوبة بينظر أو استفهامية منصوبة ب قدمت أي ينظر أي شيء قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف أو في هذا اليوم فلم أبعث وقيل يحشر سائر الحيوانات للاقتصاص ثم ترد ترابا فيود الكافر حالها .
والضمير الذي هو الكاف والميم في { أنذركم } هو لجميع العالم وإن كانت المخاطبة لمن حضر النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار ، و «العذاب القريب » : عذاب الآخرة ، ووصفه بالقرب لتحقق وقوعه وأنه آت وكل آت قريب الجمع داخل في النذارة منه ، ونظر المرء إلى { ما قدمت يداه } من عمل قيام الحجة عليه ، وقال ابن عباس { المرء } هنا المؤمن ، وقرأ ابن ابي إسحق : «المُرء » بضم الميم وضعفها أبو حاتم ، وقوله تعالى : { ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } قيل إن هذا تمنٍّ أن يكون شيئاً حقيراً لا يحاسب ولا يلتفت إليه ، وهذا قد نجده في الخائفين من المؤمنين فقد قال عمر بن الخطاب : ليتني كنت بعرة ، وقال أبو هريرة وعبد الله بن عمر : إن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول لها من بعد ذلك : كوني تراباً ، فيعود جميعها تراباً ، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله ، قال أبو القاسم بن حبيب : رأيت في بعض التفاسير أن { الكافر } هنا إبليس إذا رأى ما حصل للمؤمنين من بني آدم من الثواب قال : { يا ليتني كنت تراباً } ، أي كآدم الذي خلق من تراب واحتقره هو أولاً .
{ إِنَّآ أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً } .
اعتراض بين { مئاباً } [ النبأ : 39 ] وبين { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } كيفما كان موقع ذلك الظرف حسبما يأتي .
والمقصود من هذه الجملة الإِعذار للمخاطبين بقوارع هذه السورة بحيث لم يبق بينهم وبين العلم بأسباب النجاة وضدها شُبهةٌ ولا خفاء .
فالخبر وهو { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } مستعمل في قطع العذر وليس مستعملاً في إفادة الحكم لأن كون ما سبق إنذاراً أمر معلوم للمخاطبين . وافتُتح الخبر بحرف التأكيد للمبالغة في الإِعذار بتنزيلهم منزلة من يتردد في ذلك .
وجُعل المسند فعلاً مسنداً إلى الضمير المنفصل لإفادة تقوّي الحكم ، مع تمثيل المتكلم في مَثَل المتبرىء من تبعه ما عسى أن يلحق المخاطبين من ضرَ إن لم يأخذوا حذرهم مما أنذرهم به كما يقول النذير عند العرب بعد الإِنذار بالعدوّ « أنا النذير العريان » .
والإِنذار : الإِخبار بحصول ما يسوء في مستقبل قريب .
وعُبر عنه بالمضي لأن أعظم الإِنذار قد حصل بما تقدم من قوله : { إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين مئاباً } إلى قوله : { فلن نزيدكم إلا عذاباً } [ النبأ : 21 30 ] .
وقرب العذاب مستعمل مجازاً في تحققه وإلا فإنه بحسب العرف بعيد ، قال تعالى : { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } [ المعارج : 6 ، 7 ] ، أي لتحققه فهو كالقريب على أن العذاب يصدق بعذاب الآخرة وهو ما تقدم الإِنذار به ، ويصدق بعذاب الدنيا من القتل والأسر في غزوات المسلمين لأهل الشرك . وعن مقاتل : هو قَتْل قريش ببدر . ويشمل عذاب يوم الفتح ويوم حنين كما ورد لفظ العذاب لذلك في قوله تعالى : { يعذبهم اللَّه بأيديكم } [ التوبة : 14 ] وقوله : { وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك } [ الطور : 47 ] .
{ يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا } .
يجوز أن يتعلق بفعلِ : { اتخذ إلى ربه مئاباً } [ النبأ : 39 ] فيكون { يوم ينظر } ظرفاً لغْواً متعلقاً ب { أنذرناكم } .
ويجوز أن يكون بدلاً من { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } [ النبأ : 38 ] لأن قيام الملائكة صفّاً حضور لمحاسبة الناس وتنفيذ فصل القضاء عليهم وذلك حين ينظر المرء ما قدمت يداه ، أي ما عمله سالفاً فهو بدل من الظرف تابع له في موقعه .
وعلى كلا الوجهين فجملة { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } معترضة بين الظرف ومتعلقه أو بينه وبين ما أبدل منه .
والمرء : اسم للرجل إذ هو اسم مؤنثُه امرأة .
والاقتصار على المرء جَريٌ على غالب استعمال العرب في كلامهم ، فالكلام خرج مخرج الغالب في التخاطب لأن المرأة كانت بمعزل عن المشاركة في شؤون ما كان خارجَ البيت .
والمراد : ينظر الإِنسان من ذكر أو أنثى ، ما قدمت يداه ، وهذا يعلم من استقراء الشريعة الدال على عموم التكاليف للرجال والنساء إلا ما خُص منها بأحد الصنفين لأن الرجل هو المستحضَر في أذهان المتخاطبين عند التخاطب .
وتعريف { المرء } للاستغراق مثل { إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ العصر : 2 3 ] .
وفعل { ينظر } يجوز أن يكون من نظر العين أي البصر ، والمعنى : يوم يرى المرء ما قدمته يداه . ومعنى نظر المرء ما قدمت يداه : حصول جزاء عمله له ، فعبر عنه بالنظر لأن الجزاء لا يخلو من أن يكون مرئياً لِصاحِبِه من خير أو شر ، فإطلاق النظر هنا على الوجدان على وجه المجاز المرسل بعلاقة الإِطلاق ونظيره قوله تعالى : { ليروا أعمالهم } [ الزلزلة : 6 ] ، وقد جاءت الحقيقة في قوله تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً } [ آل عمران : 30 ] الآية ، و ( ما ) موصولة صلتها جملة { قدمت يداه } .
ويجوز أن يكون مِن نظر الفكر ، وأصله مجاز شاع حتى لحق بالمعاني الحقيقية كما يقال : هو بخير النظرين . ومنه التَنظُّر : توقُع الشيء ، أي يوم يترقب ويتأمل ما قدمت يداه ، وتكون ( ما ) على هذا الوجه استفهامية وفعل { ينظر } معلقاً عن العمل بسبب الاستفهام ، والمعنى : ينظر المرء جوابَ من يسأل : ما قدمت يداه ؟
ويجوز أن يكون من الانتظار كقوله تعالى : { هل ينظرون إلاَّ تأويله } [ الأعراف : 53 ] .
وتعريف { المرء } تعريف الجنس المفيد للاستغراق .
والتقديم : تسبيق الشيء والابتداء به .
و { ما قدمت يداه } هو ما أسلفه من الأعمال في الدنيا من خير أو شر فلا يختص بما عمله من السيئات فقد قال تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء } [ آل عمران : 30 ] الآية .
وقوله : { ما قدمت يداه } إما مجاز مرسل بإطلاق اليدين على جميع آلات الأعمال وإما أن يَكون بطريقة التمثيل بتشبيه هيئة العامل لأعماله المختلفة بهيئة الصانع للمصنوعات بيديه كما قالوا في المثل : « يَداك أوْكَتا » ولو كان ذلك على قول بلسانه أو مشي برجليه .
ولا يحسن أن يجعل ذكر اليدين من التغليب لأن خصوصية التغليب دون خصوصية التمثيل .
وشمل { ما قدمت يداه } الخير والشر .
وخُص بالذكر من عموم المرء الإِنسانُ الكافر الذي يقول : { يا ليتني كنت تراباً } لأن السورة أقيمت على إنذار منكري البعث فكان ذلك وجه تخصيصه بالذكر ، أي يوم يتمنى الكافر أنه لم يخلق من الأحياء فضلاً عن أصحاب العقول المكلفين بالشرائع ، أي يتمنى أن يكون غير مدرك ولا حسّاس بأن يكون أقل شيء مما لا إدراك له وهو التراب ، وذلك تلهف وتندم على ما قدمت يداه من الكفر .
وقد كانوا يقولون : { أئذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون } [ الإسراء : 98 ] فجعل الله عقابهم بالتحسر وتمني أن يكونوا من جنس التراب .
وذكر وصف الكافر يفهم منه أن المؤمن ليس كذلك لأن المؤمن وإن عمل بعض السيئات وتوقع العقاب على سيئاته فهو يرجو أن تكون عاقبته إلى النعيم وقد قال الله تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً } [ آل عمران : 30 ] وقال : { ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } [ الزلزلة : 6 8 ] ، فالمؤمنون يرون ثواب الإيمان وهو أعظم ثواب ، وثواب حسناتهم على تفاوتهم فيها ويرجون المصير إلى ذلك الثواب وما يرونه من سيئاتهم لا يطغى على ثواب حسناتهم ، فهم كلهم يرجون المصير إلى النعيم ، وقد ضرب الله لهم أو لمن يقاربهم مثلاً بقوله : { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون } [ الأعراف : 46 ] على ما في تفسيرها من وجوه .
وهذه الآية جامعة لما جاء في السورة من أحوال الفريقين وفي آخرها رد العجز على الصدر من ذكر أحوال الكافرين الذين عُرِّفوا بالطاغين وبذلك كان ختام السورة بها براعة مقطع .