الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِنَّآ أَنذَرۡنَٰكُمۡ عَذَابٗا قَرِيبٗا يَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلۡكَافِرُ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ تُرَٰبَۢا} (40)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا) يقول: إنا حذّرناكم أيها الناس عذابًا قد دنا منكم وقرُب، وذلك (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ) المؤمن (مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) من خير اكتسبه في الدنيا، أو شرّ سَلَفَهُ، فيرجو ثواب الله على صالح أعماله، ويخاف عقابه على سيئها... وقوله: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) يقول تعالى ذكره: ويقول الكافر يومئذ تمنيا لما يلقى من عذاب الله الذي أعدّه لأصحابه الكافرين به، يا ليتني كنت ترابًا كالبهائم التي جُعِلت ترابًا... حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرظيِّ، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَقْضِي اللهُ بَينَ خَلْقِهِ الجِنِّ والإنْسِ والبَهائم، وإنَّه لَيَقِيدُ يَوْمَئِذٍ الجَمَّاءَ مِنَ القَرْناءِ، حتى إذَا لَمْ يَبْقَ تَبِعَةٌ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لأخْرَى، قالَ اللهُ: كُونُوا تُرَابًا، فَعِنْدَ ذلكَ يَقُولُ الكافِرُ: "يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا".

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{إنا أنذرناكم عذابا قريبا} أي العذاب الذي أوعدتم به قريب مأتاه، وإن استبعدتموه في أوهامكم. قال الله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1].

وقوله تعالى: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} فجائز أن يكون منصرفا إلى الخلائق أجمع مؤمنهم وكافرهم. ثم تخصيص الأيدي بالذكر هو أن التقديم في الشاهد يقع بالأيدي، فأضيف إليها؛ وإن احتمل ألا يكون للأيدي صنع في ما ارتكب من الآثام أو في ما فعل من الخيرات، وهو كالمطر، يسمى رحمة الله، وإن لم يكن ذلك من أوصافه لأنه برحمة منه ينزل من السماء وسمى الكلام لسانا، وإن لم يكن هو لسانا لأنه باللسان ما يتكلم، فكذلك التقديم أضيف إلى الأيدي لما بها يقع التقديم في الشاهد، وإن لم يكن للأيدي صنع.

وقوله تعالى: {ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} إن هذا التمني في الكافر دون المؤمن لأن المؤمن يرى حسناته متقبّلة وسيئاته مغفورة، فيأمن من عقاب الله تعالى، والكافر يرى نفسه مؤاخذة بالسيئات، ولا يرى لها حسنات متقبلة، فيتمنى أن يكون ترابا ليتخلص من عذاب الله تعالى. قال بعضهم: إن الوحوش تحشر، والطيور كلها، ثم يقول الله تعالى: كونوا ترابا، فيتمنى الكافر في ذلك الوقت أن يكون ترابا، والله أعلم بالصواب...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهو الإنذار الذي يوقظ من الخمار: (إنا أنذرناكم عذابا قريبا).. ليس بالبعيد، فجهنم تنتظركم وتترصد لكم. على النحو الذي رأيتم. والدنيا كلها رحلة قصيرة، وعمر قريب!

وهو عذاب من الهول بحيث يدع الكافر يؤثر العدم على الوجود: (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه. ويقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا).. وما يقولها إلا وهو ضائق مكروب!

وهو تعبير يلقي ظلال الرهبة والندم، حتى ليتمنى الكائن الإنساني أن ينعدم. ويصير إلى عنصر مهمل زهيد. ويرى هذا أهون من مواجهة الموقف الرعيب الشديد.. وهو الموقف الذي يقابل تساؤل المتسائلين وشك المتشككين. في ذلك النبأ العظيم!!!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{إِنَّآ أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً}. اعتراض بين {مئاباً} [النبأ: 39] وبين {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} كيفما كان موقع ذلك الظرف حسبما يأتي. والمقصود من هذه الجملة الإِعذار للمخاطبين بقوارع هذه السورة بحيث لم يبق بينهم وبين العلم بأسباب النجاة وضدها شُبهةٌ ولا خفاء. فالخبر وهو {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} مستعمل في قطع العذر وليس مستعملاً في إفادة الحكم لأن كون ما سبق إنذاراً أمر معلوم للمخاطبين. وافتُتح الخبر بحرف التأكيد للمبالغة في الإِعذار بتنزيلهم منزلة من يتردد في ذلك. وجُعل المسند فعلاً مسنداً إلى الضمير المنفصل لإفادة تقوّي الحكم، مع تمثيل المتكلم في مَثَل المتبرئ من تبعة ما عسى أن يلحق المخاطبين من ضرَ إن لم يأخذوا حذرهم مما أنذرهم به كما يقول النذير عند العرب بعد الإِنذار بالعدوّ « أنا النذير العريان». والإِنذار: الإِخبار بحصول ما يسوء في مستقبل قريب. وعُبر عنه بالمضي لأن أعظم الإِنذار قد حصل بما تقدم من قوله: {إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين مئاباً} إلى قوله: {فلن نزيدكم إلا عذاباً} [النبأ: 21 -30]. وقرب العذاب مستعمل مجازاً في تحققه وإلا فإنه بحسب العرف بعيد، قال تعالى: {إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً} [المعارج: 6، 7]، أي لتحققه فهو كالقريب على أن العذاب يصدق بعذاب الآخرة وهو ما تقدم الإِنذار به، ويصدق بعذاب الدنيا من القتل والأسر في غزوات المسلمين لأهل الشرك...

.

والمرء: اسم للرجل إذ هو اسم مؤنثُه امرأة. والاقتصار على المرء جَريٌ على غالب استعمال العرب في كلامهم، فالكلام خرج مخرج الغالب في التخاطب لأن المرأة كانت بمعزل عن المشاركة في شؤون ما كان خارجَ البيت.

والمراد: ينظر الإِنسان من ذكر أو أنثى، ما قدمت يداه، وهذا يعلم من استقراء الشريعة الدال على عموم التكاليف للرجال والنساء إلا ما خُص منها بأحد الصنفين لأن الرجل هو المستحضَر في أذهان المتخاطبين عند التخاطب. وتعريف {المرء} للاستغراق مثل {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [العصر: 2 3]. وفعل {ينظر} يجوز أن يكون من نظر العين أي البصر،

والمعنى: يوم يرى المرء ما قدمته يداه. ومعنى نظر المرء ما قدمت يداه: حصول جزاء عمله له، فعبر عنه بالنظر لأن الجزاء لا يخلو من أن يكون مرئياً لِصاحِبِه من خير أو شر، فإطلاق النظر هنا على الوجدان على وجه المجاز المرسل بعلاقة الإِطلاق ونظيره قوله تعالى: {ليروا أعمالهم} [الزلزلة: 6]، وقد جاءت الحقيقة في قوله تعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً} [آل عمران: 30] الآية، و (ما) موصولة صلتها جملة {قدمت يداه}. ويجوز أن يكون مِن نظر الفكر، وأصله مجاز شاع حتى لحق بالمعاني الحقيقية كما يقال: هو بخير النظرين. ومنه التَنظُّر: توقُع الشيء، أي يوم يترقب ويتأمل ما قدمت يداه، وتكون (ما) على هذا الوجه استفهامية وفعل {ينظر} معلقاً عن العمل بسبب الاستفهام، والمعنى: ينظر المرء جوابَ من يسأل: ما قدمت يداه؟ ويجوز أن يكون من الانتظار كقوله تعالى: {هل ينظرون إلاَّ تأويله} [الأعراف: 53]. وتعريف {المرء} تعريف الجنس المفيد للاستغراق...

وشمل {ما قدمت يداه} الخير والشر. وخُص بالذكر من عموم المرء الإِنسانُ الكافر الذي يقول: {يا ليتني كنت تراباً} لأن السورة أقيمت على إنذار منكري البعث فكان ذلك وجه تخصيصه بالذكر، أي يوم يتمنى الكافر أنه لم يخلق من الأحياء فضلاً عن أصحاب العقول المكلفين بالشرائع، أي يتمنى أن يكون غير مدرك ولا حسّاس بأن يكون أقل شيء مما لا إدراك له وهو التراب، وذلك تلهف وتندم على ما قدمت يداه من الكفر...

.