اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّآ أَنذَرۡنَٰكُمۡ عَذَابٗا قَرِيبٗا يَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلۡكَافِرُ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ تُرَٰبَۢا} (40)

ثم إنه - تعالى - زاد في تخويف الكفَّار فقال تعالى : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } يعني العذاب في الآخرة ، وسماه قريباً ؛ لأن كل ما هو آت قريب . كقوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] .

وقال قتادة : عقوبة الدنيا ؛ لأنه أقرب العذابين{[59194]} .

وقال مقاتل : هي قتل قريش ب «بدر » ، وهذا خطاب لكفَّار قريش ، ولمشركي العرب ؛ لأنهم قالوا : لا نُبْعَثُ ، وإنَّما سمَّاهُ إنذاراً ؛ لأنَّه - تعالى - قد خوَّف بهذا الوصف نهاية التخويف ، وهو معنى الإنذار{[59195]} .

قوله : { يَوْمَ يَنظُرُ المرء } . يجوز أن يكون بدلاً من «يوم » قبله ، وأن يكون منصوباً ب «عذاباً » أي : العذاب واقع في ذلك اليوم .

وجوّز أبو البقاء أن يكون نعتاً ل «قريباً » ولو جعله نعتاً ل «عَذاباً » كان أولى .

والعامَّة : بفتح ميم «المرء » وهي الغالبة ، وابن أبي إسحاق{[59196]} : بضمها ، وهي لغة يتبعُون اللام الفاء .

وخطَّأ أبو حاتم هذه القراءة ، وليس بصواب لثبوتها لغة .

فصل في المراد ب «المرء »

أراد بالمرء : المؤمن في قول الحسن ، أي : ليجد لنفسه عملاً ، فأمَّا الكافر فلا يجد لنفسه عملاً ، فيتمنى أن يكون تراباً ، قال : { وَيَقُولُ الكافر } فعلم أنه أراد بالمرء المؤمن ، وقيل : المراد هنا أبيُّ بنُ خلفٍ ، وعُقبَةُ بنُ أبِي معيط ، ويَقول الكافِرُ : أبو جهل .

وقيل : هو عام في كل أحد يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسبَتْ .

قوله : { مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } . يجوز في «ما » أن تكون استفهامية معلقة ل «يَنْظُر » على أنَّه من النظر ، فتكون الجملة في موضع نصب على إسقاط الخافض ، وأن تكون موصولة مفعولة بها ، والنَّظر بمعنى الانتظارِ ، أي : ينتظر الذي قدمت يداه .

قوله تعالى : { وَيَقُولُ الكافر يا ليتني كُنتُ تُرَاباً } .

العامة : لا يدغمون تاء «كنت تراباً » قالوا : لأنَّ الفاعل لا يحذف ، والإدغامُ يشبه الحذف ، وفي قوله تعالى : { وَيَقُولُ الكافر } وضع الظاهر موضع المضمر شهادة عليه بذلك .

فصل في نزول هذه الآية

قال مقاتل : نزل قوله تعالى : { يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } في أبِي سلمةَ بْنِ عَبْدِ الأسدِ المخزوميِّ . ويقول الكافر : «يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً » في أخيه بْنِ عبدِ الأسدِ{[59197]} .

وقال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الكافر هنا إبليس - لعنة الله عليه - وذلك بأنه عاب آدم - عليه الصلاة والسلام - بأنه خلقَ من تُرابٍ ، وافتخر بأنه خلقَ من نار ، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه من آدم وبنوه من الثواب والراحة ، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب ، تمنى أنه كان بمكان آدم ، فيقول : يا ليتني كنت تراباً ، قال : ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر .

روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : «يُحْشَرُ الخَلقُ كُلُّهُمْ مِنْ دابَّةٍ ، وطَائِرٍ ، وإنْسَانٍ ، ثُمَّ يُقَالُ للبَهَائِمِ والطَّيْرِ : كُونُوا تُرَاباً ، عند ذلكَ يَقُولُ الكَافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً »{[59198]} .

وقيل : معنى «يا ليتني كنت تراباً » أي : لم أبعثْ .

وقال أبو الزناد : إذا قُضِيَ بين الناس ، وأمِرَ بأهْلِ الجنَّة إلى الجنَّة ، وأهْلِ النَّار إلى النار ، قيل لسائر الأمم ولو من الجن : عودوا تراباً ، فيعودون تراباً ، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم : يا ليتني كنت تراباً .

وقال ليث بن أبي سليم : مُؤمنو الجِنِّ يعُودُونَ تُرَاباً .

وقال عُمرُ بْنُ عبدِ العزِيْزِ والزُّهْرِيُّ والكلبيُّ ومجاهدٌ : مؤمنو الجِنِّ حول الجنَّةِ في رَبضِ ورحابٍ وليسوا فيها ، وهذا أصح ، فإنهم مُكَلَّفُونَ : يُثَابُونَ ويُعَاقَبُونَ كبَنِي آدمَ .

ختام السورة:

روى الثعلبي عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَرَأ { عَمَّ يتساءلون } سقاه الله تعالى بَرْدَ الشَّرابِ يَوْمَ القِيَامَةِ »{[1]} .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[59194]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/123).
[59195]:ينظر: المحرر الوجيز 5/429، والبحر المحيط 8/408، والدر المصون 6/469.
[59196]:ينظر: المحرر الوجيز 5/429، والبحر المحيط 8/408، والدر المصون 6/469.
[59197]:ينظر تفسير القرطبي (19/123).
[59198]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/419)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/507)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "البعث".