أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

{ ما ننسخ من آية أو ننسها } نزلت لما قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . والنسخ في اللغة : إزالة الصورة عن الشيء وإثباتها في غيره ، كنسخ الظل للشمس والنقل ، ومنه التناسخ . ثم استعمل لكل واحد منهما كقولك : نسخت الريح الأثر ، ونسخت الكتاب . ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها ، أو الحكم المستفاد منها ، أو بهما جميعا . وإنساؤها إذهابها عن القلوب ، وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية . وقرأ ابن عامر ما ننسخ من أنسخ أي نأمرك أو جبريل بنسخها ، أو نجدها منسوخة . وابن كثير وأبو عمرو " ننسأها " أي نؤخرها من النسء . وقرئ " ننسها " أي ننس أحدا إياها ، و " ننسها " أي أنت ، و " تنسها " على البناء للمفعول ، و " ننسكها " بإضمار المفعولين { نأت بخير منها أو مثلها } أي بما هو خير للعباد في النفع والثواب ، أو مثلها في الثواب . وقرأ أبو عمرو بقلب الهمزة ألفا . { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ ، أو بما هو خير منه . والآية دلت على جواز النسخ وتأخير الإنزال إذ الأصل اختصاص أن وما يتضمنها بالأمور المحتملة ، وذلك لأن الأحكام شرعت ، والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلا من الله ورحمة ، وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص ، كأسباب المعاش فإن النافع في عصر قد يضر في عصر غيره . واحتج بها من منع النسخ بلا بدل ، أو ببدل أثقل . ونسخ الكتاب بالسنة ، فإن الناسخ هو المأتي به بدلا والسنة ليست كذلك والكل ضعيف ، إذ قد يكون عدم الحكم ، أو الأثقل أصلح . والنسخ قد يعرف بغيره ، والسنة مما أتى به الله تعالى ، وليس المراد بالخير والمثل ما يكون كذلك في اللفظ . والمعتزلة على حدوث القرآن فإن التغير والتفاوت من لوازمه . وأجيب : بأنهما من عوارض الأمور المتعلقة بالمعنى القائم بالذات القديم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }( 106 )

وقوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها } الآية( {[1057]} ) ، النسخ في كلام العرب على وجهين : أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر ، والثاني الإزالة ، فأما الأول فلا مدخل له في هذه الآية ، وورد في كتاب الله تعالى في قوله تعالى : { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون }( {[1058]} )

[ الجاثية : 29 ] ، وأما الثاني الذي هو الإزالة فهو الذي في هذه الآية ، وهو منقسم في اللغة على ضربين : أحدهما يثبت الناسخ بعد المنسوخ( {[1059]} ) كقولهم نسخت الشمس الظل ، والآخر لا يثبت كقولهم «نسخت الريح الأثر » ، وورد النسخ في الشرع حسب هذين الضربين ، والناسخ حقيقة هو الله تعالى ، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخاً( {[1060]} ) إذ به يقع النسخ ، وحد الناسخ عند حذاق أهل السنة : الخطاب( {[1061]} ) الدال على ارتفاع الحكم الثابت ، بالخطاب المتقدم على وجهٍ لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه . ( {[1062]} )

والنسخ جائز على الله تعالى عقلاً لأنه ليس يلزم عنه محال ولا تغيير صفة من صفاته تعالى ، وليست الأوامر متعلقة بالإرادة فيلزم من النسخ أن الإرادة تغيرت ، ولا النسخ لطروّ علم ، بل الله تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم الأول ويعلم نسخه بالثاني . والبداء( {[1063]} ) لا يجوز على الله تعالى لأنه لا يكونه إلا لطروّ علم أو لتغير إرادة ، وذلك محال في جهة الله تعالى ، وجعلت اليهود النسخ والبداء واحداً ، ولذلك لم يجوزوه فضلُّوا .

والمنسوخ عند أئمتنا : الحكم الثابت نفسه : لا ما ذهبت إليه المعتزلة ، من أنه مثل الحكم الثابت فيما يستقبل( {[1064]} ) ، والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة( {[1065]} ) ، وأن الحسن صفة نفسية للحسن ، ومراد الله تعالى حسن ، وقد قامت الأدلة على أن الأوامر لا ترتبط بالإرادة ، وعلى أن الحسن القبح في الأحكام إنما هو من جهة الشرع لا بصفة نفسية . ( {[1066]} )

والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به( {[1067]} ) ، لأن المخصص لم يتناوله العموم قط ، ولو ثبت قطعاً تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخاً لا تخصيصاً . والنسخ لا يجوز في الإخبار ، وإنما هو مختص بالأوامر والنواهي( {[1068]} ) ، وردّ بعض المعترضين الأمر خبراً بأن قال : أليس معناه : «واجب عليكم أن تفعلوا كذا » ؟ فهذا خبر ، والجواب أن يقال : إن في ضمن المعنى إلا أن أنسخه عنكم وأرفعه ، فكما تضمن لفظ الأمر ذلك الإخبار كذلك تضمن هذا الاستثناء .

وصور النسخ تختلف ، فقد ينسخ الأثقل إلى الأخف كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين( {[1069]} ) ، وقد ينسخ الأخف إلى الأثقل كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان( {[1070]} ) ، وقد ينسخ المثل بمثلة ثقلاً وخفة كالقبلة ، وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى ، والنسخ التام أن تنسخ التلاوة والحكم وذلك كثير ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : «كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر » ، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم ، وقد ينسخ الحكم دون التلاوة كصدقة النجوى ، وكقوله تعالى : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا }( {[1071]} ) [ الممتحنة : 11 ] ، والتلاوة والحكم حكمان ، فجائز نسخ أحدهما دون الآخر .

وينسخ القرآن بالقرآن ، والسنة بالسنة( {[1072]} ) ، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي ، وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد ، وهذا كله متفق عليه ، وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة( {[1073]} ) ، وذلك موجود في قوله صلى الله عليه وسلم : «لا وصية لوارث » ، وهو ظاهر مسائل مالك رحمه الله ، وأبى ذلك الشافعي رحمه الله ، والحجة عليه من قوله إسقاطه الجلد في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم ، فإنه لا مسقط لذلك إلا السنة . فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك حذاق الأئمة على أن السنة تنسخ بالقرآن ، وذلك موجود في القبلة فإن الصلاة إلى الشام لم تكن قط في كتاب الله ، وفي قوله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار }( {[1074]} ) [ الممتحنة : 10 ] ، فإن رجوعهن إنما كان يصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش ، والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلاً( {[1075]} ) ، واختلفوا هل وقع شرعاً ، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء في التحول إلى القبلة( {[1076]} ) ، وأبى ذلك قوم ، ولا يصح نسخ نص بقياس إذ من شروط القياس أن لا يخالف نصاً ، وهذا كله في مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما بعد موته واستقرار الشرع فأجمعت أنه لا نسخ .

ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد النبي صلى عليه وسلم ، فإذا وجدنا إجماعاً يخالف نصاً فنعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن .

وقال بعض المتكلمين : «النسخ الثابت متقرر في جهة كل أحد علم الناسخ أو لم يعلمه » ، والذي عليه الحذاق أنه من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول ، فإذا بلغه الناسخ طرأ عليه حكم النسخ ، والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله ، وهو موجود في كتاب الله تعالى في قصة الذبيح .

وقرأ جمهور الناس «ما نَنْسخ » بفتح النون ، من نسخ ، وقرأت طائفة «نُنسخ » ، بضم النون من «أنسخ » ، وبها قرأ ابن عامر وحده من السبعة ، قال أبو علي الفارسي : ليست لغة لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى ، لا هي للتعدية لأن( {[1077]} ) المعنى يجيء ما نكتب من آية أي ما ننزل فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً ، وليس الأمر كذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخاً ، كما تقول : أحمدت الرجل وأبخلته بمعنى وجدته محموداً أو بخيلاً ، قال أبو علي : وليس نجده منسوخاً إلا بأن ننسخه فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وقد خرج قرأة هذه القرءاة المعنى على وجهين( {[1078]} ) أحدهما أن يكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله ، فيجيء الضميران في { منها } و

{ مثلها } عائدين على الضمير في { ننسأها }( {[1079]} ) ، والمعنى الآخر أن يكون { ننسخ } من النسخ بمعنى الإزالة ويكون التقدير ما ننسخك أي نبيح لك نسخه ، كأنه لما نسخها الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً ، و { ما } شرطية وهي مفعولة ب { ننسخ } ، و { ننسخ } جزم بالشرط .

واختلف القراء في قراءة قوله { ننسها } ، فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر وجمهور من الناس «نُنْسِها » بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين وترك الهمزة ، وهذه من أنسى المنقول من نسي ، وقرأت ذلك فرقة كما تقدم إلا أنها همزت بعد السين ، فهذه بمعنى التأخير ، تقول العرب أنسأت الدين وغيره أنسؤه إنساء إذا أخرته ، وقرأت طائفة «أو نَنْسَها » بفتح النون الأولى وسكون الثانية وفتح السين ، وهذه بمعنى الترك ، ذكرها مكي ولم ينسبها ، وذكرها أبو عبيد البكري في كتاب اللآلي( {[1080]} ) عن سعد بن أبي وقاص ، وأراه وهمَ ، وقرأ سعد بن أبي وقاص( {[1081]} ) «أو تُنْسَها » بتاء على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ونون بعدها ساكنة وفتح السين ، هكذا قال أبو الفتح وأبو عمرو الداني ، فقيل لسعد إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب ، وتلا

{ سنقرئك فلا تنسى }( {[1082]} ) [ الأعلى : 6 ] ، { واذكر ربك إذا نسيت }( {[1083]} ) [ الكهف : 24 ] ، وقرأ سعيد بن المسيب فيما ذكر عنه أيضاً «أو تُنْسَها » بضم التاء أولاً وفتح السين وسكون النون بينهما ، وهذه من النسيان ، وقرأ الضحاك بن مزاحم وأبو رجاء «نُنَسِّها » بضم النون الأولى وفتح الثانية وسين مكسورة مشددة ، وهذه أيضاً من النسيان .

وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس وإبراهيم النخغي وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعبيد ابن عمير وابن كثير وأبو عمرو «نَنْسَأها » بنون مفتوحة وأخرى بعدها ساكنة وسين مفتوحة وألف بعدها مهموزة ، وهذه من التأخير ، تقول العرب : نسأت الإبل عن الحوض أَنْسَؤُها نَسْأَ أي أخرتها ، وكذلك يقال : أنسأ الإبل إذا زاد في ظمئها يوماً أو يومين أو أكثر من ذلك بمعنى أخرها عن الورد ، وقرأت فرقة مثل هذه القراءة إلا أنها بتاء مفتوحة أولاً على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وإسناد الفعل إليه ، وقرأ أبو حيوة مثل ذلك إلا أنه ضم التاء أولاً ، وقرأ أبي بن كعب «أو نُنْسِك » بضم النون الأولى وسكون الثانية وسين مكسورة وكاف مخاطبة ، وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة «أو ننسكها » مثل قراءة أبيّ إلا أنه زاد ضمير الآية .

وقرأ الأعمش «ما ننسك من آية أو ننسخها نجىء بمثلها » وهكذا ثبتت في مصحف عبد الله بن مسعود .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذه القراءات( {[1084]} ) لا تخلو كل واحدة منها أن تكون من النسء أو الإنساء بمعنى التأخير ، أو تكون من النسيان .

والنسيان في كلام العرب يجيء في الإغلب ضد الذكر ، وقد يجيء بمعنى الترك ، فالمعاني الثلاثة مقولة في هذه القراءات ، فما كان منها يترتب في لفظة النسيان( {[1085]} ) الذي هو ضد الذكر .

فمعنى الآية : ما ننسخ من آية أو نقدر نسيانك لها فتنساها حتى ترتفع جملة وتذهب فإنا نأتي بما هو خير منها لكم أو مثله في المنفعة .

وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى الترك فإن الآية معه تترتب فيها أربعة معان :

أحدها : ما ننسخ على وجوه النسخ( {[1086]} ) أو نترك غير منزل عليك فإنا لا بد أن ننزل رفقاً بكم خيراً من ذلك أو مثله حتى لا ينقص الدين عن حد كماله .

والمعنى الثاني أو نترك تلاوته وإن رفعنا حكمه فيجيء النسخ على هذا رفع التلاوة والحكم( {[1087]} ) .

والمعنى الثالث أو نترك حكمه وإن رفعنا تلاوته فالنسخ أيضاً ، على هذا رفع التلاوة والحكم .

والمعنى الرابع أو نتركها غير منسوخة الحكم ولا التلاوة ، فالنسخ على هذا المعنى هو على جميع وجوهه ، ويجيء الضميران في { منها أو مثلها } عائدين على المنسوخة فقط( {[1088]} ) ، وكان الكلام إن نسخنا أو أبقينا فإنا نأتي بخير من المنسوخة أو مثلها .

وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى التأخير فإن الآية معه تترتب فيها المعاني الأربعة التي في الترك ، أولها ما ننسخ أو نؤخر إنزاله( {[1089]} ) ، والثاني ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر حكمه وإن أبقينا تلاوته ، والثالث ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر تلاوته وإن أبقينا حكمه ، والرابع ما ننسخ أو نؤخره مثبتاً لا ننسخه( {[1090]} ) ، ويعود الضميران كما ذكرنا في الترك( {[1091]} ) ، وبعض هذه المعاني أقوى من بعض ، لكن ذكرنا جميعها لأنها تحتمل ، وقد قال «جميعها » العلماء إما نصاً وإما إشارة فكملناها .

وقال الزجاج : إن القراءة «أو نُنْسِها » بضم النون وسكون الثانية وكسر السين لا يتوجه فيها معنى الترك لأنه لا يقال أنسأ بمعنى ترك ، وقال أبو علي وغيره : ذلك متجه لأنه بمعنى نجعلك تتركها( {[1092]} ) ، وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا نسي قرآناً ، وقال أبو علي وغيره : ذلك جائز وقد وقع ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بتنسئة ، واحتج الزجاج بقوله تعالى : { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك }( {[1093]} ) [ الإسراء : 86 ] ، أي لم نفعل ، قال أبو علي معناه لم نذهب بالجميع .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : على معنى إزالة النعمة كما توعد ، وقد حكى الطبري القول عن أقدم من الزجاج ، ورد عليه ، والصحيح( {[1094]} ) في هذا أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله ، تعالى أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآناً جائز .

فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من أصحابه ، وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر( {[1095]} ) لأنه قد بلغ وأدى الأمانة ، ومنه الحديث حين أسقط آية ، فلما فرغ من الصلاة قال : أفي القوم أبيّ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : فلم لم تذكرني ؟ قال : حسبت أنها رفعت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم ترفع ولكني نسيتها . ( {[1096]} )

ولفظة خير في الآية صفة تفضيل ، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف ، وفي آجل إن كانت أثقل ، وبمثلها إن كانت مستوية ، وقال قوم «خير » في الآية مصدر و «من » لابتداء الغاية .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : ويقلق هذا القول لقوله تعالى { أو مثلها } إلا أن يعطف المثل على الضمير في { منها } دون إعادة حرف الجر ، وذلك( {[1097]} ) معترض .

وقوله تعالى : { ألم تعلم أن } ظاهره الاستفهام ومعناه التقرير( {[1098]} ) ، والتقرير محتاج إلى معادل كالاستفهام المحض ، فالمعادل هنا على قول جماعة { أم تريدون } [ البقرة : 18 ] ، وقال قوم { أم } هنا منقطعة ، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره أم علمتم ، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة أمته ، وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي .

ومعنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء ويفعل في أحكامه ما يشاء ، هو قدير على ذلك وعلى كل شيء ، وهذا( {[1099]} ) لإنكار اليهود النسخ .

وقوله تعالى { على كل شيء } لفظ عموم معناه الخصوص ، إذ لم تدخل فيه الصفات القديمة بدلالة العقل ولا المحالات لأنها ليست بأشياء ، والشيء في كلام الموجود( {[1100]} ) ، و { قدير } اسم فاعل على المبالغة من «قَدَر » بفتح العين «يقدِر » بكسرها . ومن العرب من يقول قَدِرَ بكسر العين يقدَر بفتحها .


[1057]:- هذه آية عظيمة من آيات الأحكام، تتناول النسخ في شريعة الإسلام، وترد على من ينكره من اليهود وأشباههم- ولمعرفة الناسخ والمنسوخ مقام كبير، لما يترتب على من ينكره من اليهود وأشباههم- ولمعرفة الناسخ والمنسوخ مقام كبير، لما يترتب على ذلك من وضع الأحكام في مواضعها، ولذلك حذر علماء الإسلام من الجهل به والخطأ فيه، ومن المعقول أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي، فهذه الخلية الإنسانية تتنقل في أطوار وأحوال كل واحد منها ينسخ ما قبلها، وإذا كان هذا النسخ موجودا في الكائنات فكيف يستنكر إبدال حكم سابق بحكم لاحق في أمة هي في حال نمو وتدرج من أدنى إلى أرقى؟ وفوق ذلك فالله قادر على كل شيء، ومالك لكل شيء، يفعل ما يريد، ويحكم كما يشاء، فالنسخ يهيء النفوس لما هو أرقى وأسمى.
[1058]:- أي: نأمر بنسخه وإثباته. وهي من الآية 29 من سورة الجاثية.
[1059]:- أي يقوم مقامه ويحل محله.
[1060]:- أي مجازا لأنه سبب النسخ.
[1061]:- يخرج عن الخطاب القياس والإجماع، فإنهما لا ينسخان ولا ينسخ بهما- ويشمل الخطاب سائر الدلالات، وقوله: على وجه أي مغاير للخطاب السابق، ولولا ذلك الوجه لكان الحكم السابق ثابتا وقائما.
[1062]:- قيد في الناسخ، إذ لو كان متصلا بالمنسوخ لكان بيانا لغاية الحكم لا ناسخا له، أو لكان آخر الكلام يرفع أوله.
[1063]:- البداء بفتح الباء والمد: اسم من بدا له في الأمر: ظهر له ما لم يظهر أولا، والفرق بين النسخ والبداء أن الحكم الثاني معلوم عند الحكم الأول في النسخ، وفي البداء إنما ظهر في ثاني حال.
[1064]:- تعرض ابن عطية رحمه الله لمباحث جليلة لها علاقة بالنسخ، ولأقسام النسخ والنسء لأن من الآيات ما هو من قبيل المنسوخ، ومنها ما هو من قبيل المنسوء، كما قال تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) والأولى بهذه المباحث علم الأصول. ولهذا لم يتكلم أبو (ح) في حقيقة النسخ كما فعل ابن عطية، وأما القرطبي فقد نقل كلام ابن عطية في الموضوع.
[1065]:- فقد يأمر الله بالشيء و لا يريده، وفي جمع الجوامع: "والأمر غير الإرادة خلافا للمعتزلة".
[1066]:- يعني أن الحُسن والقبح في الأحكام إنما يدرك بالشرع، وليس صفة ذاتية تُدرك بمجرد العقل.
[1067]:- كثيرا ما يتوسعون في تسمية التخصيص نسخا، وبذلك وسعوا دائرة النسخ، ولو كانوا يتحرون في التسمية لما اتسع ذلك، والحق أن النسخ بمعناه الخاص قليل جدا، وقد أوضح ابن عطية رحمه الله الفرق بين التخصيص والنسخ، والنسخ في اصطلاح السلف أعم منه في اصطلاح الخلف، وهذا أبو مسلم الصبهاني المعتزلي يسمي النسخ تخصيصا، وقال أبو اسحق الشاطبي في الموافقات: "الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد يطلقون على تقييد المطلق وتخصيص العام- بدليل متصل أو منفصل- نسخا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي- بدليل شرعي متأخر- نسخا، لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد وهو بيان المراد". انتهى.
[1068]:- الخبر الحقيقي لا يدخله نسخ سواء كان مما يتغير كإيمان زيد وكفر عمرو أو مما لا يتغير كالإخبار بوجود الله وصفاته، وأما نسخ تلاوة الخبر، أو نسخ تكليفنا به، كما إذا كلفنا بأن نخبر بشيء ثم ورد نسخ التكليف بذلك- فكل من هذين جائز، لأنه من التكليف فيدخله النسخ، وكذلك الخبر الذي يتضمن الأمر فإنه يدخل النسخ، وابن عطية رحمه الله أطلق القول ولم يقيد، ونحوه قول أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره هنا حيث قال: «واعلم أن النسخ إنما يعرض للأوامر والنواهي دون الأخبار، لأن الخبر إذا نسخ صار المخبر كاذبا». انتهى.
[1069]:- أي نسخ قوله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) الآية، بقوله تعالى: (الآن خفف الله عنهك و علم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) الآية.
[1070]:- نسخ صيام عاشوراء برمضان موجود في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، والأيام المعدودة في قول ابن عباس هي ثلاثة أيام من كل شهر، وكان ذلك في أول الإسلام.
[1071]:- نسخ هذا الحكم، وصرنا بعده لا نعطي الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار شيئا، بل ننتظر، فإن عثرنا عليها استتبناها، فإن تابت وإلا قُتلت، وكذلك التي فرت إلينا لا نعطي الكفار شيئا. والآية هي رقم 11 من سورة الممتحنة.
[1072]:- يريد (والله أعلم) أن السنة المتواترة تنسخ بالسنة المتواترة.
[1073]:- قال مختصره رحمه الله: «ويعني بالسنة الناسخة للقرآن الخبر المتواتر القطعي، وقد أشار إلى أن هذا الحديث متواتر، ذكره عند تفسير قوله تعالى: (إذا حضر أحدكم الموت)» انتهى.
[1074]:- من الآية 10 من سورة الممتحنة.
[1075]:- المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن، ولا الخبر المتواتر، لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون. وإنما قبلوا تخصيص المتواتر بالآحاد، ولم يقبلوا نسخه به، لأن الأول بيان وجمع، بخلاف النسخ فإنه رفع وإبطال.
[1076]:- روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، و كانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة)، هذا لفظ الإمام مسلم في المساجد ومواضع الصلاة- وهذا الذي قاله أبو المعالي إنما يأتي على قول ابن عباس إن استقبال بيت المقدس كان بوحي متلو- روي عنه أنه قال: أول ما نسخ من القرآن القبلة.
[1077]:- تعليل لقوله: "ولا هي للتعدية"، يعني أن المعنى يتغير بذلك، ويصير: ما نُنسخك من آية يا محمد، وإنساخه إياها إنزالها عليه- فيؤول المعنى إلى أن كل آية أنزلت أتي بخير منها أو مثلها، و بذلك يصبح القرآن كله منسوخا، وهذا غير واقع، لأنه لم يُنسخ منه إلا القليل.
[1078]:- كلاهما الهمزة فيه للتعدية، إلا أنه من الوجه الأول مأخوذ من نسخ الكتاب بمعنى الإنزال، وفي الوجه الثاني من النسخ بمعنى الإزالة، تأمل.
[1079]:- أي عائدين على المنسوء لا على المنسوخ من اللوح المحفوظ، بخلاف ما سبق، فإن الضميرين عائدان على المنسوخ والمنسوء، لكن على هذا الوجه يبقى ما ننسخ من آية بدون جواب، إذ لا رابط يربط بين الشرط والجواب، وذلك لا يجوز.
[1080]:- شرح أمالي القالي لأبي عبيد البكري الوزير المتوفي سنة 487هـ.
[1081]:- أحد العشرة المبشرين بالجنة، وواحد من الفرسان المعدودين في الفتوحات الإسلامية الأولى، روى عن النبي صلى الله عليه و سلم كثيرا من الأحاديث، توفي سنة 55 هـ.
[1082]:- الآية رقم 6 من سورة الأعلى.
[1083]:- من الآية رقم 24 من سورة الكهف.
[1084]:- هي إحدى عشرة قراءة بدون قراءة الأعمش.
[1085]:- يؤيد هذا ما روي عن قتادة أنه قال: كانت الآية تنسخ بالآية، وينسي الله نبيه من ذلك شيئا. وقبل الدخول في سياق ابن عطية رحمه الله ننقل كلام العلامة القاسمي، نقلا عن الراغب الأصبهاني: في حل الآية الكريمة- قال: (ما ننسخ من آية) أي ما نبدل من آية بغيرها كنسخ آيات التوراة بآيات القرآن، أو ننسها، أي نذهبها من القلوب كما أخبر بقوله: (ونسوا حظا مما ذكروا به) وقرئ (أو ننسأها) أي نؤخرها ونتركها بلا نسخ كما أبقى كثيرا من أحكام التوراة في القرآن- (نأت بخير منها)، أي من المنسوخة المبدلة كما فعل في الآيات التي شرعت في الملة الحنيفية ما فيه من اليسر و رفع الحرج والعنت فكان خيرا من تلك الآصار والأغلال، (أو مثلها أي) مثل الآيات الموحدة قبل كما يرى في كثير من الآيات في القرآن الموافقة لما بين يديها مما اقتضت الحكمة بقاءه واستمراره- قال الراغب: فإن قيل: إن الذي ترك ولم ينسخ هو مثله، بل هو هو. فكيف قال: بمثلها؟ قيل: الحكم الذي أنزل في القرآن، وكان ثابتا في الشرع الذي قبلنا، يصح أن يقال: هو هو إذا اعتبر بنفسه، ولم يعتبر بلفظه، ويصح أن يقال: هو مثله إذا لم يعتبر بنفسه، بل بلفظه، ونحو ذلك أن يقال: ماء البئر هو ماء النهر إذا اعتبر جنس الماء، وتارة يقال: مثل ماء النهر إذا اعتبر قرار الماء. اهـ. على أن إرادة العين بالمثل شائعة كما في قولهم: مثلك لا يبخل.
[1086]:- وهي ثلاثة –نسخ التلاوة والحكم، أو نسخ أحدهما وبقاء الآخر.
[1087]:- أي أن قوله تعالى: (ما ننسخ من آية) يحمل على ذلك، وقوله: (أو ننسها) يحمل على بقاء التلاوة ورفع الحكم، والمعنى الثالث كذلك إلا أن المتروك فيه الحكم والمرفوع التلاوة.
[1088]:- أي دون قوله: (أو ننسها) لأن النسيان بمعنى الترك، أو ترك لفظها وحكمها.
[1089]:- هذا ضعيف، إذ لا فائدة في تأخير ما لم يعرفه الناس ولا علموه ولا سمعوه.
[1090]:- أي إلى مدة.
[1091]:- أي على المنسوخ دون المنسوء.
[1092]:- وليس بمعنى نتركك.
[1093]:- من الآية 86 من سورة الإسراء.
[1094]:- يشير القاضي ابن عطية رحمه الله إلى تأييد أبي علي الفارسي رحمه الله في أن النسيان جائز وواقع، ويؤكد ذلك ما سبق عن قتادة رحمه الله.
[1095]:- في الصحيحين، و غيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: (إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني). وبهذا الحديث الصحيح يرد حديث: (لا أنسى ولكن أنسى لأسن)، وقد ذكر الإمام مالك رحمه الله في الموطأ هذا الحديث بلاغا بغير إسناد، ونصه: (عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لأنسى وأنسى لأسن). فأثبت النوعين معا. قال أبو عمر: "حديث (إني لأنسى وأُنسى لأسن)، أحد الأحاديث الأربعة في الموطأ التي لا توجد في غيره مسندة ولامرسلة". وقال الحافظ في الفتح: "لا أصل له، فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد". وقال في الشفاء: إنه حديث صحيح، أي من جهة المعنى، وقد ورد في الصحيحن عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد، فقال: يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا، آية من سورة كذا). قال الحافظ بن حجر: "لم أقف على تعيين الآيات المذكورة". وفي رواية: زيادة كنت أسقطتها. وفي رواية أخرى: كنت أنسيتها.
[1096]:- روى أبو داود، على المسور بن يزيد المالكي أنه قال: (شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة فترك شيئا لم يقرأه، فقال رجل: يا رسول الله تركت آية كذا كذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا ذكرتنيها، قال: كنت أراها نسخت). وفيه أيضا عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة، فقرأ فيها، فلبس عليه، فلما انصرف قال لأبي: أصليْت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك. اهـ وتأمل.
[1097]:- أي العطف من دون إعادة الجار لا يجوز، فالأحسن أنه أفعل تفضيل لا مصدر بمعنى خير من الخيور.
[1098]:- الاستفهام هنا للتقرير، والاستفهام التقريري كما هو معلوم لا يحتاج إلى معادل، وما أكثر ذلك في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[1099]:- أي قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) جاء ردا لإنكار اليهود النسخ.
[1100]:- حسا كالأجسام او حكما كالأقوال، نحو رأيت شيئا، وقلت شيئا، والمراد بالموجود الممكن.