{ كان الناس أمة واحدة } متفقين على الحق فيما بين آدم وإدريس أو نوح أو بعد الطوفان ، أو متفقين على الجهالة والكفر في فترة إدريس أو نوح . { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } أي فاختلفوا فبعث الله ، وإنما حذف لدلالة قوله فيما اختلفوا فيه . وعن كعب ( الذي علمته من عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون ) . { وأنزل معهم الكتاب } يريد به الجنس ولا يريد به أنه أنزل مع كل واحد كتابا يخصه ، فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب . يخصهم وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم . { بالحق } حال من الكتاب ، أي ملتبسا بالحق شاهدا به . { ليحكم بين الناس } أي الله أو النبي المبعوث ، أو كتابه . { فيما اختلفوا فيه } في الحق الذي اختلفوا فيه ، أو فيما التبس عليهم . { وما اختلف فيه } في الحق ، أو الكتاب . { إلا الذين أوتوه } أي الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيجا للاختلاف سببا لاستحكامه . { من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم } حسدا بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا . { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه } أي للحق الذي اختلف فيه من اختلف . { من الحق } بيان لما اختلفوا فيه . { بإذنه } بأمره أو بإرادته ولطفه . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } لا يضل سالكه .
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 213 )
قال أبي بن كعب وابن زيد : المراد ب { الناس } بنو آدم حين أخرجهم الله نسماً من ظهر آدم ، أي كانوا على الفطرة .
وقال مجاهد : «الناس آدم وحده »( {[1983]} ) .
وقال ابن عباس وقتادة : { الناس } القرون التي كانت بين آدم ونوح ، وهي عشرة ، كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله تعالى نوحاً فمن بعده .
وقال قوم : الناس نوح ومن في سفينته ، كانوا مسلمين ثم بعد ذلك اختلفوا( {[1984]} ) .
وقال ابن عباس أيضاً : كان الناس أمة واحدة كفاراً ، يريد في مدة نوح حين بعثه الله( {[1985]} ) ، و { كان } على هذه الأقوال هي على بابها من المضي المنقضي ، وتحتمل الآية معنى سابعاً وهو أن يخبر عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق . لولا منّ الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم ، ف { كان } على هذا الثبوت لا تختص بالمضي فقط ، وذلك كقوله تعالى : { وكان الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 96-99-100-152 ، الفرقان : 70 ، الأحزاب : 5 - 59 ، الفتح : 14 ] ، والأمة الجماعة على المقصد الواحد ، ويسمى الواحد أمة إذا كان منفرداً بمقصد ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قس بن ساعدة : «يحشر يوم القيامة أمة وحده »( {[1986]} ) ، وقرأ أبي كعب «كان البشر أمة واحدة » ، وقرأ ابن مسعود «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث » ، وكل من قدر { الناس } في الآية مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا( {[1987]} ) ، وكل من قدرهم كفاراً كانت بعثة { النبيين } إليهم( {[1988]} ) ، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة نوح ، لأن الناس يقولون له : أنت أول الرسل ، والمعنى إلى تقويم كفار وإلا فآدم مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان ، و { مبشرين } معناه بالثواب على الطاعة ، و { منذرين } معناه من العقاب على المعاصي ، ونصب اللفظتين على الحال ، و { الكتاب } اسم الجنس ، والمعنى جميع الكتب .
وقال الطبري : «الألف واللام في الكتاب للعهد ، والمراد التوارة » ، و { ليحكم } مسند إلى الكتاب في قول الجمهور .
وقال قوم : المعنى ليحكم الله( {[1989]} ) ، وقرأ الجحدري( {[1990]} ) «ليُحَكم » على بناء الفعل للمفعول ، وحكى عنه مكي «لنحكم » .
قال القاضي أبو محمد : وأظنه تصحيفاً لأنه لم يحك عنه البناء للمفعول كما حكى الناس ، والضمير في { فيه } عائد على { ما } من قوله : { فيما } ، والضمير في { فيه } الثانية يحتمل العود على الكتاب ويحتمل على الضمير الذي قبله ، والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له ، وخصهم بالذكر تنبيهاً منه تعالى على الشنعة في فعلهم والقبح الذي واقعوه . و { البينات } الدلالات والحجج ، و { بغياً } منصوب على المفعول له ، والبغي التعدي بالباطل ، و { هدى } معناه أرشد ، وذلك خلق الإيمان في قلوبهم ، وقد تقدم ذكر وجوه الهدى في سورة الحمد ، والمراد ب { الذين آمنوا } .
من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم .
فقالت طائفة : معنى الآية : أن الأمم كذب( {[1991]} ) بعضهم كتاب بعض فهدى الله أمة محمد التصديق بجميعها .
وقالت طائفة : إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين من قولهم : إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً .
وقال ابن زيد : من قبلتهم ، فإن قبلة اليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى المشرق ، ومن يوم الجمعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ، فلليهود غد ، وللنصارى بعد غد »( {[1992]} ) ، ومن صيامهم( {[1993]} ) وجميع ما اختلفوا فيه .
وقال الفراء : في الكلام قلب ، واختاره الطبري ، قال : وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه . ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه وعساه غير الحق في نفسه ، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء .
قال القاضي أبو محمد : وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز( {[1994]} ) وسوء نظر ، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ورصفه ، لأن قوله { فهدى } يقتضي أنهم أصابوا الحق ، وتم المعنى في قوله { فيه } ، وتبين بقوله { من الحق } جنس ما وقع الخلاف فيه .
قال المهدوي : «وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماماً ، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وليس هذا عندي بقوي ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «لما اختلفوا عنه من الحق » أي عن الإسلام .
و { بإذنه } قال الزجّاج : معناه بعلمه ، وقيل : بأمره ، والإذن( {[1995]} ) هو العلم والتمكين ، فإن اقترن بذلك أمر صار أقوى من الإذن بمزية ، وفي قوله تعالى : { والله يهدي من يشاء } رد على المعتزلة في قولهم إن العبد يستبد بهداية نفسه .