اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين مكة المشرفة ، الآمن أهلها أن يحاربوا كما قال تعالى {[7506]} { أو لم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم } وأما المقسمات بها قبل ففيها أقوال للسلف لاحتمال موادها لكل منها فعن مجاهد والحسن وغيرهما أن ( التين ) الذي يؤكل و ( الزيتون ) الذي يعصر ، قالوا : وخصهما لكثرة فوائدهما وعظم منافعهما .
وعن قتادة : ( التين ) الجبل الذي عليه دمشق و ( الزيتون ) الذي عليه بيت المقدس .
وعن كعب وابن زيد : ( التين ) مسجد دمشق و ( الزيتون ) بيت المقدس .
وعن ابن عباس : ( التين ) مسجد نوح الذي بني على الجودي و ( الزيتون ) بيت المقدس " .
فظهر أنهما الشجرتان المعلومان ، أو جبلان ، أو مسجدان ، وصوب ابن جرير الأول منها وعبارته{[7507]} : والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال ( التين ) هو التين الذي يؤكل و ( الزيتون ) هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت لأن ذلك هو المعروف عند العرب ، ولا يعرف جبل يسمى تينا ولا جبل يقال له زيتون إلا أن يقول قائل : أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون ، والمراد من الكلام القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون ، فيكون ذلك مذهبا وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة على ظاهر التنزيل ولا من قول من لا يجوز خلافه ، لأن دمشق بها منابت التين وبيت المقدس منابت الزيتون انتهى كلامه وفيه نظر لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، كيف وجبل الزيتون هو من جبال فلسطين معروف ذلك عند علماء أهل الكتاب والمؤلفين في تقويم البلاد .
قال صاحب ( الذخيرة ) في تعداد جبال فلسطين : ويتصل بجبال إسرائيل جبل الزيتون ، قال : وقد دعي كذلك لكثرة الزيتون فيه ، وهو قريب المسافة من أورشليم ، وفيه صعد المسيح لكي يرتفع إلى السماء انتهى .
ويسمى أيضا طور زيتا إلى الآن ، على أن فيما صوبه ابن جرير تبقى المناسبة بينهما وبين طور سنين والبلد الأمين وحكمة جمعهما معهما في نسق واحد غير مفهومة كما قاله الإمام ، فالأرجح أنهما موضعان أو موضع واحد معظم ، ويكون المقسم به ثلاثة مواضع مقدسة .
قال ابن كثير وقال بعض الأئمة هذه محال ثلاثة بعث الله من كل واحد منها نبيا مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار فالأول محل التين والزيتون وهو بيت المقدس الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام .
والثاني طور سنين وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران ، والثالث مكة ، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا وهو الذي أرسل فيه محمد صلى الله عليه وسلم وفي التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة : جاء الله من طور سيناء ، يعني الذي كلم الله عليه موسى وأشرق من ساعير يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله عنه عيسى واستعلن من جبال فاران يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمدا صلى الله عليه وسلم فذكرهم مخبرا عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان ولهذا أقسم بالأشراف ثم بالأشرف منه ثم بالأشرف منهما انتهى كلام ابن كثير .
ومراده ببعض الأئمة شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان فإنه ذكر ذلك في كتابه ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) ونحن ننقلهما زيادة في إيضاح المقام ، واهتماما بتحقيقه قال رحمه الله ( فصل شهادة الكتب المتقدمة بنبوته صلى الله عليه وسلم ) وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية جاء الله من طور سيناء وبعضهم يقول في الترجمة تجلى الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران قال ابن كثير من العلماء و ( اللفظ لأبي محمد بن قتيبة ) ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض لأن مجيء الله من طور سيناء إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح الإنجيل وكان المسيح من ساعير أرض الجليل بقرية تدعى ناصرة ، وباسمها تسمى من اتبعه نصارى ، وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبال فاران ، قال : وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة ، فإن ادعوا أنها غير مكة وليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم قلنا أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران ؟ وقلنا دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران ، والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح أوليس استعلن وعلن بمعنى واحد وهما ظهر وانكشف فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه ؟
وقال أبو هاشم بن ظفر : ساعير جبل بالشام منه ظهرت نبوة المسيح عليه السلام ، قلت : وبجانب بيت لحم القرية التي ولد فيها المسيح قرية تسمى إلى اليوم ساعير ولها جبال تسمى جبال ساعير ، وعلى هذا فيكون ذكر الجبال الثلاثة ، جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه وفيه كان أول نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وحوله من الجبال جبال كثيرة ، وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم وفيه كان ابتداء نزول القرآن والبرية التي بين مكة وطور سيناء تسمى برية فاران ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي . فعلم أن ليس المراد باستعلائه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن وهذه الكتب نور الله وهداه .
وقال في الأول جاء أو ظهر وفي الثاني أشرق وفي الثالث : استعلن وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك ، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى ، وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء لهذا قال واستعلن من جبال فاران فإن محمدا صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه في شرق الأرض وغربها ، أعظم مما ظهر بالكتابيين المتقدمين كما يظهر نور الشمس إذا استعلنت في مشارق الأرض ومغاربها ولهذا سماه الله سراجا منيرا وسمى الشمس سراجا وهاجا ، والخلق محتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السرج الوهاج ، فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت ، بل قد يتضررون به بعض الأوقات وأما السراج المنير فيحتاجون إليه في كل وقت وكل مكان ليلا ونهارا سرا وعلانية وقد قال صلى الله عليه وسلم{[7508]} " زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها " وهذه الأماكن الثلاثة ، أقسم الله بها في القرآن في قوله { والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين } فأقسم بالتين والزيتون وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك ، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل وأقسم بطور سيناء وهو الجبل الذي كلم موسى وناداه فيه من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة وأقسم بهذا البلد الأمين وهو مكة الذي أسكن إبراهيم وإسماعيل وأمه هاجر فيه وهو الذي{[7509]} جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حوله وجعله آمنا خلقا وأمرا قدرا وشرعا .
ثم قال ( ابن تيمية ) فقوله تعالى { والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين } إقسام منه بالأمكنة الشريفة العظيمة الثلاثة ، التي ظهر فيها نوره وهداه وأنزل فيها كتبه الثلاثة : التوراة والإنجيل والقرآن كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله جاء الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران .
ولما كان ما في التوراة خبرا عنها أخبر بها على ترتيبها الزماني فقدم الأسبق فالأسبق وأما في القرآن فإنه أقسم بها تعظيما لشأنها وذلك لتعظيم قدرته سبحانه وآياته وكتبه ورسله فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة ، فختمها بأعلى الدرجات فأقسم أولا بالتين والزيتون ثم بطور سنين ثم بمكة ، لأن أشرف الكتب الثلاثة القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل وكذلك الأنبياء فأقسم بها على وجه التدريج كما في قوله {[7510]} { والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا } فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة فأقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح ثم بالجاريات يسرا وقد قيل إنها السفن ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله {[7511]} { فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس } فسماها جواري كما سمى الفلك جواري في قوله {[7512]} { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام } والكواكب فوق السحاب ثم قال {[7513]} { فالمقسمات أمرا } وهي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله .
واستظهر بعض المعاصرين أن قوله تعالى { والتين } يعني به شجرة ( بوذا ) مؤسس الديانة البوذية ، التي تحرفت كثيرا عن أصلها الحقيقي لأن تعاليم بوذا لم تكتب في زمنه وإنما رويت كالأحاديث بالروايات الشفهية ، ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعها .
ثم قال والراجح عندنا بل المحقق إذا صح تفسيرنا لهذه الآية أنه كان نبيا صادقا ويسمى ( سكياموتي ) أو ( جوماني ) وكان في أول أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة وتحتها نزل عليه الوحي وأرسله الله رسولا فجاءه الشيطان ليفتنه هناك فلم ينجح معه ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين وتسمى عندهم ( النية المقدسة ) وبلغتهم ( أجابالا ) .
قال ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده { لقد حلقنا الإنسان في أحسن تقويم } إلى آخر السورة ، قال ولا يزال أهل الأديان الأربعة هم أعظم أمم الأرض وأكثرهم عددا وأرقاهم والترتيب في ذكرها في الآية هو باعتبار درجة صحتها بالنسبة لأصولها الأولى فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان تحريفا عن أصلها كما يبدأ الإنسان بالقسم بالشيء الصغير ثم يرتقي للتأكيد إلى ما هو أعلى ، ثم النصرانية وهي أقل من البوذية تحريفا ثم اليهودية وهي أصح من النصرانية ثم الإسلامية وهي أصحها جميعا وأبعدها عن التحريف والتبديل بل إن أصولها الكتاب والسنة العملية المتواترة ، لم يقع فيها تحريف مطلقا ومن محاسن هذه الآية الشريفة غير ذلك ، ذكر ديني الفضل ( البوذية والمسيحية ) أولا ثم ديني العدل ( اليهودية والإسلامية ) ثانيا للإشارة إلى الحكمة بتربية الفضل والمسامحة مع الناس أولا ، ثم بتربية الشدة والعدل وكذلك بدأ الإسلام باللين والعفو ثم بالشدة والعقاب ولا يخفى على الباحثين التشابه العظيم بين بوذا وعيسى ودينيهما وكذلك التشابه بين موسى ومحمد ودينيهما فلذا جمع الأولان معا والآخران كذلك ، وقدم البوذية على المسيحية لقدم الأولى كما قدم الموسوية على المحمدية لهذا السبب بعينه ومن محاسن الآية أيضا الرمز والإشارة إلى ديني الرحمة بالفاكهة والثمرة ، وإلى ديني العدل بالجبل والبلدة الجبلية ( مكة ) وهي البلد الأمين ومن التناسب البديع من ألفاظ الآية أن التين والزيتون ينبتان كثيرا في أودية الجبال كما في جبل الزيتون بالشام وطور سيناء وهما مشهوران بها فهذه الآية قسم بأول مهابط الوحي وأكرم أماكن التجلي الإلهي على أنبيائه الأربعة الذين بقيت شرائعهم للآن وأرسلهم الله لهداية الناس الذين خلقهم في أحسن تقويم انتهى بحروفه والله أعلم .
لم ينصرف { سنين } كما لا ينصرف { سيناء } لأنه جعل اسما للبقعة أو الأرض فهو علم أعجمي ولو جعل اسما للمكان أو المنزل أو اسما لمذكر لا يصرف لأنك سميت به مذكرا وقرأ العامة { سينين } بكسر السين وقرأ بعض السلف بفتحها وآخرون ( سيناء ) بالكسر والفتح ممدودا قال السمين وهذه لغات اختلفت في هذا الاسم السرياني على عادة العرب في تلاعبها بالأسماء الأعجمية .