نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ} (15)

ولما ذكر ما يمكن أن يكون عليه حال الناهي من السداد ، ذكر ما يمكن أن يكون عليه من الفساد ، فقال مقرراً معجباً معيداً العامل لزيادة التعجيب على النمط الأول : " أرأيت إن كذب " أي هذا الناهي بالحق في وقت النهي - ولما كان لا يلزم من التكذيب التولي قال : " وتولى " أي عن الدين بنهيه هذا ، فكان على الضلال والهوى متمكناً في ذلك بحيث إنه لا يصدر عنه فعل إلا فاسداً { ألم يعلم بأن الله يرى } فيحاسب نفسه بما أرشد إليه سبحانه من البراهين فيعلم أن ما هو عليه من الرشد إن كان الله يقره عليه ويمكنه منه ، أو الغواية إن كان ينهاه عنه ولا يقره عليه ، كما فعل بهذا الذي أقسم : ليرضخن رأس هذا المصلي ، وأقدم عليه بصخرته وهو عند نفسه في غاية القدرة على ذلك بزعمه ، فمنعه الله منه ، ورده عنه ، فرجع على عقبيه خاسئاً ظاهراً عليه الجبن والرعب وغيرهما مما يتحاماه الرجال ، ويأنف منه الضراغمة الأبطال ، والاحتباك هنا بطلب " أرءيت " جملة ليس هو من التنازع ؛ لأنه يستدعي إضماراً والجمل لا تضمر ، إنما هو من باب الحذف لدليل ، فحذف الكون على الضلال ثانياً لدلالة الكون على الهدى عليه أولاً ، وحذف " ألم يعلم بأن الله يرى " أولاً لدلالة ذكره آخراً عليه .

ولما كان هذا الخبيث معرضاً عن هذا العلم الذي هو معترف به كله ، وإنما كان إعراضه لما عنده من الحظوظ والشهوات الموقعة له - بحكم الرد أسفل سافلين - إلى رتبة البهائم ، أتى بأعظم أدوات الردع فقال : { كلا } أي ليس عنده علم بشيء من ذلك لسفول رتبته عن رتبة البهائم ، ولا في يده شيء من الأشياء ، فهو لا يقدر على شيء مما رامه من الأذى ، فليرتدع عن تعاطي ذلك ؛ لأنه لا يضر إلا نفسه .

ولما كان نفي العلم عنه يوهم أنه في عداد الغافلين الذي لا ملامة عليهم ، بين أن انتفاء العلم عنه ليس عن غفلة يعذر صاحبها ، إنما هو عن تهاون في الخير ورضى بالعمى والتقليد ، فهو من قسم الضال الذي فرط في استعمال القوة العلمية المذكورة في الفاتحة ، فاستأنف الإخبار عنه في جواب من يقول : فما يفعل به ؟ معبراً بأداة الشك إقامة له ولغيره في محل الرجاء لانتهائه إبقاء للتكليف ومؤكداً لأنهم منكرون : { لئن لم ينته } أي يفتعل هذا الناهي لهذا العبد المطيع فيقف ويكف عما هو فيه من نهيه وتكذيبه وتوليه .

ولما كان الحال غير محتاج إلى أكثر من التأكد لإيقاع الفعل ، عبر بالحقيقة ولم ينقلها إشارة إلى أن هذا الناهي أقل من أن يحتاج فيه إلى فعل شديد ، بل أقل نفحة من العذاب تكفي في إهلاكه ، وما كان أصل التأكيد إلاّ تطيبباً لقلوب الأولياء وتكذيباً للأعداء فقال : { لنسفعاً } أي والله لنأخذن ونقبضن قبضاً وأخذاً بشدة وعنف مع الجر والاجتذاب واللطم والدفع والغيظ أخذ من يعض مأخوذه ويذله ويسود وجهه ويقذره { بالناصية * } أي بالشعر الذي في مقدم رأسه وهو أشرف ما فيه ، والعرب لا تأنف من شيء أنفتهم من أخذ الناصية ، وإذا انتهكت حرمة الأشرف فما بالك بغيره ، واستغنى بتعريف العهد عن الإضافة .