التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا} (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

{ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ( 1 ) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ( 2 ) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ( 3 ) } ( 1 – 3 ) .

تعليق على آيات السورة

ومداها وما روي في صددها

عبارة الآيات واضحة . والخطاب فيها موجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما عليه الجمهور بدون خلاف . وقد ذكرنا ما ورد في صدد نزولها في المقدمة فلا ضرورة للإعادة .

وواجب التسبيح لله وحمده واستغفاره أصلي غير منوط بوقت . وليس الذي هنا بسبيل ذلك كما هو المتبادر ، وإنما هو على سبيل تلقين توكيد وجوبه إذا ما أتم الله على نبيه نعمته ، ويسر له الفتح والنصر ، وأقبل الناس على دين الله أفواجا .

وكل هذا خطير يستوجب مضاعفة ذلك الواجب من دون ريب ، والآيات بهذا الاعتبار تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين كجماعات بمقابلة نعم الله عز وجل بالشكر والحمد والاستغفار ، وبخاصة إذا كانت عامة متصلة بمصلحة المسلمين ونصرهم وتوطد أمرهم وانتشار دين الله وكلمته . ثم لكل مسلم إذا ما صار في ظرف من الظروف موضع رعاية الله وعنايته في تحقيق أمر خطير في دينه ودنياه .

وأسلوب الآيات توقيتي إذا صح التعبير ، أي أنه يوجب التسبيح والاستغفار حينما يجيء نصر الله ، ويدخل الناس في دين الله أفواجا . غير أن روحها يلهم أن ذلك الواجب قد وجب ، وأن ذلك المجيء قد جاء . والروايات والأحاديث التي أوردناها في صدد نزولها تؤيد ذلك كما هو المتبادر .

ومعظم المفسرين على أن الفتح المذكور في السورة هو فتح مكة ، حتى إنهم جعلوا تفسيرها وسيلة لإيراد قصة هذا الفتح . ولقد تم هذا الفتح في رمضان في السنة الثامنة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الحديد ، في حين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى في أوائل السنة الحادية عشرة .

والروايات التي أوردناها في المقدمة ذكر فيها أن السورة قد نزلت قبل وفاته بمدة قصيرة ، أقل من ثلاثة أشهر ، وهذا يجعلنا نرجح أن يكون ما عنته الآيات ليس فتح مكة وحسب ؛ بل مجموعة الانتصارات والفتوحات الضخمة التي يسرها الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبيل وفاته ، والتي بلغت ذروتها بفتح مكة الذي شرحنا قصته في سورة الحديد ، وبغزوة تبوك الكبرى التي شرحنا قصتها في سورة التوبة ، وبفتح الطائف التي ظلت مستعصية إلى السنة الهجرية التاسعة ، والتي لم تقتض حكمة التنزيل أن يشار إليها في القرآن ، ثم بسبيل الوفود التي أخذت تتدفق من جميع أنحاء جزيرة العرب على المدينة المنورة خلال السنتين التاسعة والعاشرة لمبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والدخول في دين الله أفواجا ، واستمر تدفقها إلى قبيل وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم بتوطد سلطان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام في جميع أنحاء الجزيرة العربية يمنها وتهامتها وحجازها وشرقها وشمالها مما ذكرنا بعض فصوله في سياق تفسير سورة التوبة ، ومما أطنبت به كتب السيرة والتاريخ القديمة ( 1 ){[2564]} ، وإعلان كون المشركين نجسا وحظر دخولهم المسجد الحرام ، وحج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رأس حشد عظيم من المسلمين ، روي أنه بلغ أربعين ألفا أو أكثر – وهذا رقم عظيم في ذلك الوقت – حتى هتف الله تعالى بالمؤمنين ، أو هتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرددا هتاف الله – الذي نزل قبل هذا اليوم على ما محصناه في سياق أوائل سورة المائدة – { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } ( 3 ) .


[2564]:انظر طبقات ابن سعد ج 2 ص 25 – 121 و ج 3 ص 166 – 241 وابن هشام ج 4 جميعه وتاريخ الطبري ج 2 ص 351 وما بعدها، وملخص ذلك في الجزء السادس من كتابنا تاريخ الجنس العربي.