التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النصر

فيها أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتسبيح بحمد الله واستغفاره إذا ما جاء نصر الله وفتحه ، ورأى الناس يدخلون في دينه .

والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها نزلت بعد سورة التوبة ، وبكلمة أخرى آخر السور المدنية نزولا . ومع أن روايات الترتيب الأخرى تذكر ترتيبها كسابعة السور المدنية نزولا ، أو كسادسة عشرة ، أو كثامنة عشرة ( 1 ){[1]} . بل إن هناك رواية بأنها مكية ( 2 ){[2]} . فإن هناك روايات وأحاديث عديدة بطرق مختلفة تؤيد ترتيب المصحف الذي اعتمدناه . ففي فصل التفسير من صحيح البخاري في سياق هذه السورة : حديث ابن عباس جاء فيه : ( كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه من قدم علمتم ، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم ، فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم . قال : ما تقولون في قول الله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح } ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم . فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا . قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلمه به ، قال : { إذا جاء نصر الله والفتح } ، وذلك علامة أجلك ، { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول ) ( 3 ){[3]} . وقد روى الطبري في سياقها حديثا عن ابن عباس جاء فيه : ( لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " نعيت إلي نفسي ، كأني مقبوض في تلك السنة " ) . وروى الطبري والبغوي أحاديث بطرق مختلفة عن ابن عباس بالمعنى نفسه بدون عزو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وروى الطبري عن الضحاك قوله : كانت هذه السورة آية لموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وروي مثل هذا عن مجاهد وعطاء أيضا . وقد ذكر الزمخشري أنها آخر السور نزولا ، وأنها نزلت في حجة الوداع في منى ، وذكر النيسابوري – مع ذكره القول : إنها مكية – أنها نزلت في أواسط أيام التشريق ( 1 ){[4]} في منى في حجة الوداع ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعش بعدها إلا سبعين يوما ، وأن السورة تسمى لذلك سورة التوديع ، وأن أكثر الصحابة متفقون على أنها دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أخرجه البزار والبيهقي أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام التشريق ، فعرف أنه الوداع ، فأمر براحلته ، وخطب خطبته الشهيرة بخطبة الوداع .

ولقد روى الطبري بطرقه عن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر قبل أن يموت من قوله : " سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك " . فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها . قال : " جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها : { إذا جاء نصر الله والفتح } " إلى آخر السورة ) وعن أم سلمة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ، ولا يذهب ولا يجيء ، إلا قال : " سبحان الله وبحمده " ، فقلت : يا رسول الله ، إنك تكثر من سبحان الله وبحمده . لا تذهب ولا تجيء ، ولا تقوم ولا تقعد ، إلا قلت : سبحان الله وبحمده ، قال : " إني أمرت بها " فقال : { إذا جاء نصر الله والفتح } إلى آخر السورة ) والحديثان يؤيدان -إذا صحا- كون السورة نزلت بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فضلا عما انطوى فيهما من صورة رائعة لعمق شعوره بواجبه نحو الله حمدا واستغفارا .

وبناء على ذلك كله رجحنا ترتيب المصحف الذي اعتمدناه ، وجعلنا ترتيب هذه السورة بعد سورة التوبة ، وآخر السور المدنية .

ونص السورة وروحها يؤيدان ذلك على ما سوف يأتي شرحه . أما القول : إنها مكية ، فهو غريب ، ينقضه نصها وروحها ، والروايات الكثيرة الأخرى التي أوردناها .

وما قلنا من أن السورة هي آخر السور نزولا لا يعني أن لا يكون نزل بعدها قرآن . وكل ما هناك أنه لم ينزل سور جديدة تامة . وأن ما يحتمل أن يكون من قرآن قد نزل بعدها قد ألحق بسور أخرى بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم . والله أعلم .

وترجيح كون هذه السورة آخر السور نزولا ، وترجيح كون سورة الفاتحة أولى السور نزولا ، يدعمان بعضهما ، ويلهمان معجزة قرآنية ربانية . ففي سورة الفاتحة براعة استهلال للدعوة الإسلامية والقرآن ، وفي سورة النصر هتاف رباني بما تم من نصر الله للدعوة الإسلامية .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ( 1 ) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ( 2 ) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ( 3 ) } ( 1 – 3 ) .

تعليق على آيات السورة

ومداها وما روي في صددها

عبارة الآيات واضحة . والخطاب فيها موجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما عليه الجمهور بدون خلاف . وقد ذكرنا ما ورد في صدد نزولها في المقدمة فلا ضرورة للإعادة .

وواجب التسبيح لله وحمده واستغفاره أصلي غير منوط بوقت . وليس الذي هنا بسبيل ذلك كما هو المتبادر ، وإنما هو على سبيل تلقين توكيد وجوبه إذا ما أتم الله على نبيه نعمته ، ويسر له الفتح والنصر ، وأقبل الناس على دين الله أفواجا .

وكل هذا خطير يستوجب مضاعفة ذلك الواجب من دون ريب ، والآيات بهذا الاعتبار تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين كجماعات بمقابلة نعم الله عز وجل بالشكر والحمد والاستغفار ، وبخاصة إذا كانت عامة متصلة بمصلحة المسلمين ونصرهم وتوطد أمرهم وانتشار دين الله وكلمته . ثم لكل مسلم إذا ما صار في ظرف من الظروف موضع رعاية الله وعنايته في تحقيق أمر خطير في دينه ودنياه .

وأسلوب الآيات توقيتي إذا صح التعبير ، أي أنه يوجب التسبيح والاستغفار حينما يجيء نصر الله ، ويدخل الناس في دين الله أفواجا . غير أن روحها يلهم أن ذلك الواجب قد وجب ، وأن ذلك المجيء قد جاء . والروايات والأحاديث التي أوردناها في صدد نزولها تؤيد ذلك كما هو المتبادر .

ومعظم المفسرين على أن الفتح المذكور في السورة هو فتح مكة ، حتى إنهم جعلوا تفسيرها وسيلة لإيراد قصة هذا الفتح . ولقد تم هذا الفتح في رمضان في السنة الثامنة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الحديد ، في حين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى في أوائل السنة الحادية عشرة .

والروايات التي أوردناها في المقدمة ذكر فيها أن السورة قد نزلت قبل وفاته بمدة قصيرة ، أقل من ثلاثة أشهر ، وهذا يجعلنا نرجح أن يكون ما عنته الآيات ليس فتح مكة وحسب ؛ بل مجموعة الانتصارات والفتوحات الضخمة التي يسرها الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبيل وفاته ، والتي بلغت ذروتها بفتح مكة الذي شرحنا قصته في سورة الحديد ، وبغزوة تبوك الكبرى التي شرحنا قصتها في سورة التوبة ، وبفتح الطائف التي ظلت مستعصية إلى السنة الهجرية التاسعة ، والتي لم تقتض حكمة التنزيل أن يشار إليها في القرآن ، ثم بسبيل الوفود التي أخذت تتدفق من جميع أنحاء جزيرة العرب على المدينة المنورة خلال السنتين التاسعة والعاشرة لمبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والدخول في دين الله أفواجا ، واستمر تدفقها إلى قبيل وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم بتوطد سلطان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام في جميع أنحاء الجزيرة العربية يمنها وتهامتها وحجازها وشرقها وشمالها مما ذكرنا بعض فصوله في سياق تفسير سورة التوبة ، ومما أطنبت به كتب السيرة والتاريخ القديمة ( 1 ){[2564]} ، وإعلان كون المشركين نجسا وحظر دخولهم المسجد الحرام ، وحج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رأس حشد عظيم من المسلمين ، روي أنه بلغ أربعين ألفا أو أكثر – وهذا رقم عظيم في ذلك الوقت – حتى هتف الله تعالى بالمؤمنين ، أو هتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرددا هتاف الله – الذي نزل قبل هذا اليوم على ما محصناه في سياق أوائل سورة المائدة – { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } ( 3 ) .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.
[3]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[4]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[2564]:انظر طبقات ابن سعد ج 2 ص 25 – 121 و ج 3 ص 166 – 241 وابن هشام ج 4 جميعه وتاريخ الطبري ج 2 ص 351 وما بعدها، وملخص ذلك في الجزء السادس من كتابنا تاريخ الجنس العربي.