السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا} (2)

ولما عبر عن المعنى : بالمجيء عبر عن المرئي بالرؤية فقال تعالى : { ورأيت } ، أي : ببصرك الناس ، أي : العرب الذي كانوا حقيرين عند جميع الأمم ، فصاروا بك هم الناس ، كما دلت عليه لام الكمال ، وصار سائر أهل الأرض لهم أتباعاً ، بالنسبة إليهم رعاعاً حال كونهم { يدخلون } شيئاً فشيئاً متجدّداً دخولهم مستمرّاً { في دين الله } ، أي : شرع من لم تزل كلمته هي العليا { أفواجاً } ، أي : جماعات كثيفة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها ، بعد ما كانوا يدخلون واحداً واحداً ، واثنين اثنين .

وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم ، فقيل له في ذلك فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «دخل الناس في دين الله أفواجاً ، وسيخرجون منه أفواجاً » . وقال عكرمة ومقاتل : أراد بالناس أهل اليمن ، وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين ، بعضهم يؤذنون ، وبعضهم يقرؤون القرآن ، وبعضهم يهللون ، فسر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك . قال أبو هريرة : لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الله أكبر ، جاء نصر الله والفتح ، وجاء أهل اليمن ، قوم رقيقة قلوبهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية » وقال : «أجد نفس ربكم من قبل اليمن » ، وفي هذا تأويلات :

أحدها : أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجاً .

الثاني : أنّ الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل اليمن وهم الأنصار . وعن الحسن لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أقبلت العرب بعضها على بعض ، فقالوا : أمّا إذ ظفر بأهل الحرم فليس به يدان ، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل ، ومن كل من أرادهم ، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجاً من غير قتال ، أمّة بعد أمّة . قال الضحاك : والأمة أربعون رجلاً .

تنبيه : دين الله تعالى هو الإسلام لقوله تعالى : { إنّ الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] ، وقال تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } [ آل عمران : 85 ] ، وإضافة الدين إلى الاسم الدال على الإلهية إشارة على أنه يجب أن يعبد لكونه إلهاً ، وللدّين أسماء أخر منها الصراط ، قال تعالى : { صراط الله } [ الشورى : 53 ] ، ومنها النور { يريدون ليطفئوا نور الله } [ التوبة : 32 ] ، ومنها الهدى قال تعالى : { هدى الله يهدي به من يشاء } [ الأنعام : 88 ] ، ومنها العروة الوثقى قال تعالى : { ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } [ البقرة : 256 ] ، ومنها الحبل المتين قال تعالى : { واعتصموا بحبل الله } [ آل عمران : 103 ] ، ومنها صبغة الله ، ومنها فطرة الله .

تنبيه : جمهور الفقهاء وأكثر المتكلمين على أنّ إيمان المقلد صحيح ، واحتجوا بهذه الآية قالوا : إنّ الله تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج ، وجعله من أعظم المنن على نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلو لم يكن إيمانهم صحيحاً لما ذكره في هذا المعرض ، ثم إنا نعلم قطعاً أنهم كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدليل ، ولإثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ، ولإثبات الصفات والتنزيهات بالدليل والعلم بأنّ أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري ، فعلمنا أنّ إيمان المقلد صحيح .

فإن قيل : إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل ؛ لأنّ أصول هذه الدلائل ظاهرة ؛ بل كانوا جاهلين بالتفاصيل ؟

أجيب بأنّ الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان ، فإنّ الدليل إذا كان مثلاً من عشر مقدمات فمن علم تسعة منها ، وكان في المقدّمة العاشرة مقلداً ، كان في النتيجة مقلداً لا محالة .