( 3 ) الجنة : مرادفة لكلمة الجن ، ومعناها في الأصل الخفي المستتر غير الظاهر .
{ قل أعوذ برب الناس( 1 ) ملك الناس( 2 ) إله الناس( 3 ) من شر الوسواس1 الخناس2 ( 4 ) الذي يوسوس في صدور الناس( 5 ) من الجنة3 والناس( 6 ) } [ 1-6 ] .
في آيات السورة أمر رباني موجه للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من وسوسة الإنس والجن ، وإغرائهم وإغوائهم .
وهي مثل سابقتها في معرض تعليم المسلمين الاستعاذة بالله وحده ، ونبذ ما سواه من كل وسوسة ظاهرة وخفية ، من جن وإنس .
والمتبادر أن المقصود من وسوسة الإنس هو ما يحاوله ويقوم به ذوو الأخلاق السيئة ، والسرائر الفاسدة ، من إغراء وإغواء ، وإيحاء ، وتلقين بالشرور والمنكرات والبغي ، وإقامة العثرات في سبيل الخير والصلاح ، والحق والبر .
أما وسوسة الجنة فالمقصود منها كما هو المتبادر أيضا وسوسة تلك العناصر الخفية التي توسوس في صدور الناس ، وتغريهم بالشر والفساد والمنكرات والبغي والكفر ، وعبادة غير الله ، وجحود نعمته . وتزينه لهم ، وتمنعهم عن الإيمان والخير والمعروف والبر ، والتي سماها القرآن بأسماء إبليس وجنوده وذريته وقبيله والشيطان والشياطين ، مما هو مستفيض في فصول القرآن المكية والمدنية استفاضة تغني عن التمثيل .
وروح الآيات تلهم أن السامعين يعرفون ما يفعله الوسواس الخناس من الجنة والناس .
وقد تضمنت السورة أهدافا جليلة ، وتلقينات بليغة . فالوساوس سواء أكانت تلك التي تأتي في أعماق النفس وعناصر الشر الخفية ، أم تلك التي تأتي عن طريق وألسنة الشر وأعوان السوء من البشر ، من شأنها أن تثير مختلف الهواجس ونوازع الشر والإثم ، وتسبب نتائج خطيرة في علاقات الناس ببعضهم ، وتزلزل فكرة الخير والمعروف والثقة والتضامن والسكينة والطمأنينة فيهم . فالأمر بالاستعاذة بالله منها ومن شر مسببيها يتضمن التحذير والتنبيه والتنديد من جهة ، والدعوة إلى الازورار عن الموسوسين ونبذهم من جهة ، وتلقين تغليب نوازع الخير وإقامة الناس علاقاتهم فيما بينهم على أساس الروح الطيبة ، والنية الحسنة ، وحسن الظن ، والتواثق من جهة ، وعدم الاستسلام لسوء الظن الذي تثيره الوساوس ، وعدم الإصغاء إلى كل كلمة يقولها المرجفون والدساسون ، وكل خبر يذيعونه ، وعدم الاندماج فيما ينصبونه من مكايد ، ويحيكونه من مؤامرات من جهة .
وبعض الروايات تذكر أنها نزلت مع سورة الفلق في مناسبة حادث سحر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة . وقد علقنا على هذا الحادث في سياق السورة السابقة . ولا تبدو صلة ظاهرة بين هذه السورة وبين الحادث المذكور ؛ بل إن روايات نزول السورتين متتابعتين ، وفي ظرف واحد تبعد السورتين معا عن ذلك الحادث . ومعظم روايات ترتيب السور تسلك هذه السورة كما تسلك السورة السابقة في سلك السور المكية المبكرة في النزول . وروح السورة وأسلوبها يجعلان النفس مطمئنة إلى ذلك ، ولا سيما أن مضمونها عام شامل ، وفيها صورة لما كان يجري بين الكفار إزاء الدعوة النبوية ؛ حيث كان زعماؤهم يبثون الدعاية والوساوس ضدها ، ويكيدون لها ، ويتآمرون عليها ليلا ونهارا على ما حكته آيات قرآنية مكية عديدة أوردنا أمثلة منها في المناسبات السابقة . هذا إلى ما ذكرته آيات كثيرة مكية ومدنية من وساوس الشيطان وإبليس اللذين عنتهما كلمة " الجنة " في السورة على الأرجح ، ونزغاتهما وإغراءاتهما للكفار ، وتزيينهما لهم مواقف الجحود والعناد والبغي ، مثل ما جاء في آية سورة فصلت هذه : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم36 } ، وآية سورة ( ص ) هذه : { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين82 إلا عبادك منهم المخلصين83 }{[2656]} ، وآية سورة فاطر هذه : { إن الشيطان لكم عدوا فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير6 } ، ومثل آية سورة العنكبوت هذه : { وعاد وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين } ، وآيات سورة المؤمنين هذه : { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين97 وأعوذ بك رب أن يحضرون98 } ، وآية سورة الكهف هذه { وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا50 } .
وبمناسبة ورود كلمة { الجنة } لأول مرة نقول : إن هذه الكلمة وبعض متشابهاتها وتفرعاتها اللفظية مثل جن وجنين تنطوي على معنى الاستتار والخفاء في اللغة العربية . وهذا يسوغ القول : إن معنى الخفي والمستور وغير المرئي بالنسبة إلى الجن والجنة مما كان مستقرا ومفهوما في أذهان العرب قبل الإسلام . ولعل مما يصح قوله : أن إطلاق التسمية مقتبس من المعنى اللغوي الذي يمكن أن تكون صيغته الفصحى متطورة عن جذر قديم أطلق على العناصر الخفية الشريرة التي كان الاعتقاد بوجودها طورا بشريا عاما مشتركا بين الأمم منذ أقدم الأزمنة ، ومن جملتهم العرب قبل الإسلام في مختلف أطوارهم ، كما هو الشأن إزاء العناصر الخفية الخيرة . ولقد كان لأهل الكتاب الذين كان العرب يتصلون بهم في جزيرتهم وخارجها عقائد متطورة فيهم ، فمن المحتمل كثيرا أن يكون ذلك قد تسرب إلى العرب فأدخل تطورا ما على عقائدهم فيهم أيضا .
ولقد احتوى القرآن آيات كثيرة حول الجن وماهيتهم أولا ، وحول عقائد العرب فيهم ثانيا .
ومجمل ما جاء عن ماهيتهم أنهم مخلوقات نارية على ما تفيده آية سورة الحجر هذه : { والجان خلقناه من قبل من نار السموم27 } ، وآية سورة الرحمان هذه { وخلق الجان من مارج من نار15 } ، وأنهم طوائف وطبقات على ما تفيده آية سورة الجن هذه التي تحكي أقوالهم : { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا11 } ، وأن منهم طبقة إبليس وذريته الذين يوسوسون للناس ، ويزينون لهم الشر والإثم والتمرد على الله على ما تفيده آيات سورتي ( ص ) والكهف التي أوردناها قبل قليل ، وأن منهم من ينزل على الناس ويلقون إليهم ببعض الأقوال والأخبار والأفكار على ما تفيده آيات سورة الشعراء هذه { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين221 تنزل على كل أفاك أثيم222 يلقون السمع وأكثرهم كاذبون223 } ، وأن منهم من كان يصعد إلى السماء ، ويحاول استراق السمع على ما تفيده آيات سورة الجن هذه : { وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا8 وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا9 } ، وأن منهم من كان تحت تسخير سليمان عليه السلام يعملون له ما يشاء ، ويقومون بأعمال أضخم من أعمال البشر على ما تفيده آيات سورة سبأ هذه : { ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير12 يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات } [ 13 ] ، وآيات سورة ( ص ) هذه : { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب36 والشياطين كل بناء وغواص37 وآخرين مقرنين في الأصفاد38 } ، وأن منهم من سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ، وذهبوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين به ، كما تفيده آيات سورة الجن هذه : { قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا1 يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا2 } ، وآيتا سورة الأحقاف هذه : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين29 قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم30 } ، وأنهم صائرون إلى ما هو صائر إليه الإنس من الحياة الأخروية ومنازلها جنة ونارا ، وكراهة وهوانا ، وفق أعمالهم ، كما تفيده آية سورة الأعراف هذه : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون179 } ، وآية سورة الأحقاف هذه : { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم31 } . وأنهم إلى ذلك كله عناصر خفية لا يمكن رؤيتها ولا الشعور بماديتها عادة على ما تفيده آية سورة الأعراف هذه : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون }{[1]} .
أما مجمل ما جاء في القرآن عن عقائد العرب في الجن ، فهو أنهم كانوا يعتقدون أن بينهم وبين الله نسبا وصهرا على ما تفيده آية سورة الصافات هذه : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون158 } ، وأنهم كانوا يتجهون إليهم ويشركونهم مع الله في العبادة والدعاء على ما تفيده آية سورة سبأ هذه : { قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون41 } ، وآية سورة الأنعام هذه : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم } [ 100 ] ، وأنهم كانوا يرونهم مصدر خوف وشر ، ويعوذون بهم اتقاء شرهم على ما تفيده آية سورة الجن هذه : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا6 } ، ولعل إشراكهم إياهم مع الله وعبادتهم لهم جاءت من هذا الخوف ومن الاعتقاد بقدرتهم على الأذى والضرر ، وأنهم كانوا يخالطون الناس في عقولهم ، فيكون من ذلك الجنون وأعراضه على ما تفيده آية سورة المؤمنون هذه : { أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون70 } ، وأنهم ينزلون على بعض الناس ويوحون إليهم ويوسوسون في صدور الناس ، على ما تفيده آية سورة التكوير هذه : { وما هو بقول شيطان رجيم25 } ، وآية سورة الشعراء هذه : { وما تنزلت به الشيطان210 } ، وآية سورة الأعراف هذه : { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون30 } .
فالصورة القرآنية عن الجن سواء أكانت بما جاء عن ماهيتهم وأعمالهم ، أم حكاية عن عقائد العرب فيهم ، هي صورة مخلوقات خفية غير مرئية ولا محسوسة المادة عادة ، فائقة القدرة ، متسلطة على البشر ، تثير فيهم الخوف والفزع ، وتؤثر في أفكارهم ، وتوجههم توجيها ضارا فاسدا باستثناء بعضهم الذين كانوا يؤمنون بالله ويخشونه .
وهذه الصورة تتفق في بعض الخطوط مع الصورة القرآنية للملائكة ، وتختلف عنها في بعض ، فهم سواء في الخفاء وعدم المادية والقدرة الفائقة . مفترقون من حيث كون الجن ناريين ، ومبعث خوف وقلق ومصدر شر وأذى ، ومن حيث كون غالبيتهم موضع سخط الله ونقمته لشرورهم وتمردهم على الله ، ومن حيث كون اتصالهم وتعاونهم مع ذوي النيات السيئة والأفكار الخبيثة والأخلاق المنحرفة ، في حين أن الملائكة مبعث طمأنينة وسكينة ، ومصدر أمن وخير ، وعون ورجاء ، ومختصون من الله ، مكرمون لديه ، يقومون بخدمته ، ويسبحون باسمه ، ويخضعون لأمره ويخشونه ، وفي حين أن اتصالهم مع الأنبياء والرسل الذين لهم الكرامة عند الله .
وكما قلنا بالنسبة للملائكة نقول بالنسبة للجن : إن وجودهم في نطاق قدرة الله ، وإن لم تدرك عقول الناس مداه . وإن التصديق به واجب إيماني غيبي ؛ لأن نصوص القرآن قطعية في ذلك .
وذكر الجن بالأساليب المتنوعة التي ذكروا بها في القرآن ماهية وعقائد وصورا لم يرد في كتب اليهود والنصارى المنسوبة إلى الوحي الرباني كما هو شأن الملائكة ، ولذلك فإن هذا الأسلوب من خصوصيات القرآن أيضا .
ولعل ما كان من عقائد العرب في الجن ، وما كان من صور في أذهانهم لهم هو من حكمة هذه الخصوصية ، كما هو الشأن بالنسبة للملائكة أيضا . وعلى كل حال ، فإن مما هو جدير بالتنبيه أن القرآن -وهو يذكر الجن بما يذكر ، ويتحدث عنهم بما يتحدث- إنما يذكر ويتحدث عن مخلوقات وكائنات يعتقد العرب بها ، ويعترفون بوجودها بما يقارب ما جاء فيه . وهذه مسألة مهمة في صدد كل ما جاء عن الجن ؛ لأن الكلام عما هو معروف ومعترف به هو أقوى أثراً ونفوذاً كما لا يخفى .
ومما يتبادر أن ما ورد عن الجن والشياطين وإبليس من صور قرآنية بغيضة ، ومن حملات على الكفار في سياقها متصل بما في أذهان العرب عنهم ، وبسبيل تقرير كون الانحراف عن الحق ، والمكابرة فيه ، والاستغراق في الإثم والخبائث ، والانصراف عن دعوة الله ، هو من تلقيناتهم ووساوسهم ، ومظهرا من مظاهر الانحراف نحوهم ، وبسبيل التحذير من الاندماغ بهم ؛ لما في ذلك من مهانة ومسبة . ومن هنا يأتي الكلام قويا ملزما ولاذعا ، ويقوم البرهان على أن ذلك من الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسس الدعوة الإسلامية .
وهذا ملموح أيضا على ما هو المتبادر من آيات سورتي الجن والأحقاف التي تخبر النبي صلى الله عليه وسلم باستماع الجن للقرآن ، فآيات سورة الجن تفيد أن الذين استمعوا القرآن منهم ممن كانوا يعتقدون أن لله ولدا وصاحبة كما ترى فيها : { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا1 يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا2 وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا3 وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا4 } ، وآيات سورة الأحقاف تفيد أن الذين استمعوا هم من المتدينين بالديانة الموسوية على ما تفيده الآيات [ 29-30 ] التي أوردناها قبل قليل ، والصورة الأولى متصلة من ناحية بعقائد العرب المشركين ، ومن ناحية بعقيدة النصارى ؛ حيث يلمح أن هذا وذاك ينطويان من جهة ما على قصد التدعيم للرسالة المحمدية بالإخبار بأن بعض طوائف الجن الذين يدينون بالديانة الموسوية والديانة العيسوية وبعقائد العرب ، والذين لهم في أذهان العرب تلك الصورة الهائلة ، قد آمنوا بهذه الرسالة حينما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن{[2]} .
ولقد تزيد المفسرون المطولون في صدد ماهية الجن ، وأوردوا أقوالا متنوعة عنهم بسبيل ذلك{[3]} معظمها مغرب وغير موثق . ولما كان القرآن إنما ذكر الجن في معرض التنديد والتحذير والموعظة والتدعيم والتمثيل ، ثم لما كان الجن كائنات غيبية إيمانية لا يصح الكلام فيها إلا في نطاق ما جاء عنها في القرآن أو السنة النبوية الثابتة ، فإن من الواجب ملاحظة ذلك الهدف من جهة ، والوقوف عند الحد الذي وقف عنده القرآن من جهة أخرى ، فضلا عن انتفاء أي طائل في إرسال الكلام عنهم والتزيد فيه خارج ذلك .