التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيٓ أَوۡلِيَآءَۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ نُزُلٗا} (102)

{ أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا102قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا 103 الذين ضل سعيهم1 في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا 104 أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا 105 ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا 106 إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس 2 نزلا 107 خالدين فيها لا يبغون عنها حولا3 108 } [ 102-108 ] .

عبارة الآيات واضحة ، وهي كما هو المتبادر تتمة أو استمرار للحملة التي بدئت من آخر الفصل السابق وجعلت قصة ذي القرنين وسيلة لها .

وفيها تنديد وتسفيه وإنذار للكافرين المشركين وبيان لمصيرهم الأخروي واستطراد إلى بيان مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات مقابلة لمصير الكافرين جريا على الأسلوب القرآني .

وفيها بنوع خاص تقرير لأثر الإيمان والكفر في أعمال الناس مما تكرر تقريره في المناسبات السابقة وفيه توضيح أكثر . فالكافر المشرك المكذب بالآخرة لا يصدر في أعماله الحسنة عن وازع إيماني ووجداني ، وهي بالإضافة إلى حبوطها عند الله بسبب كفر صاحبها وشركه معرضة للتقلب والانقباض والتبدل عند أي طارئ وهاجس وسبب دنيوي ، بعكس المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يضل ثابتا مستمرا عليها ؛ لأنه يرجوا بها رضوان الله ووجهه والتقرب إليه وثوابه الأخروي . وفي هذا ما فيه من تدعيم للدعوة النبوية وتلقين مستمر المدى .

ويلفت النظر إلى قوة الأسلوب الذي عبر به عن هذا المعنى في الآيات [ 103 ] وما بعدها . فهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بما يعملون مع أنهم الأخسرون أعمالا ؛ لأنهم كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا . وقوة التدعيم للدعوى النبوية في هذا الأسلوب بالنسبة لظرف الدعوة أيضا ظاهرة .

ولقد روى الطبري عن ابن جريح أن المقصود بكلمة { عبادي } في الآية الأولى هم الملائكة وعيسى عليه السلام . وروى البغوي عن ابن عباس أنهم الشياطين . وعن مقاتل أنهم الأصنام . والكلمة تشمل كل ما خلقه الله فتكون العبارة كما هو المتبادر عامة المدى شاملة لكل ما اتخذه المشركون شركاء من دون الله إطلاقا .

ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب قولين في المقصود من الآية : { هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا 103 } أحدهما أنهم أهل الصوامع ، وثانيهما الخوارج الذين عرفوا بالحرورية الذين قاتلهم في حروراء حينما خرجوا عليه بعد حرب صفين ؛ لأنه رضي بالتحكيم وقالوا : لا حكم إلا الله واعتبروه ومن رضي بالتحكيم مرتدين .

وروى عن مصعب بن سعد قال : ( سألت أبي عن هذه الآية : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا 103 الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا } أهم الحرورية ؟ قال : لا ، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى . أما اليهود فكذبوا محمدا ، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب . ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وكان سعد يسميهم الفاسقين ) {[1339]} . وروى الطبري إلى هذا أنهم القسيسون والرهبان .

وحديث مصعب رواه البخاري والحاكم أيضا ، ولقد توقف ابن كثير في هذه الأقوال وقال : إن الآية عامة الشمول وهو حق . ومن العجيب أن تقال في الآية [ 105 ] التي تأتي بعدها تفسير صريح عن المقصودين وهم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا . وهذا تعبير شامل ليس فيه أي محل لجعله وصفا لطائفة معينة .

ولقد روى الطبري بطرقه أحاديث عديدة فيها تنويه ووصف للفردوس منها حديث عن سمرة بن جندب قال : ( أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها ) . وحديث عن معاذ بن جبل قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض ، أعلى درجة منها الفردوس ) . وحديث عن أبي بكر بن عبد الله بن عيسى عن أبيه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما ) وحديث عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى ومنه تفجير أنهار الجنة ) . وقد روى الطبري بعض هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة . وشيء من هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة . وشيء من هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ؛ حيث روى البخاري والترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس ){[1340]} .

والفردوس في أصلها معربة عن الرومية وفي معنى البستان أو البستان ذي الزهر والثمر أو ذي الأعناب على ما ذكره المفسرون . والأحاديث في صدد وصف مشهد من مشاهد الجنة التي يجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما هو الشأن بالنسبة لما هو وارد منها في القرآن . مع الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة . ويلمح من الأحاديث أن قصد التشويق والترغيب من هذه الحكمة ، وهو ما يلمح في الأحاديث القرآنية .

ولقد روى الطبري في سياق جملة { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } حديثا عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن جناح بعوضة ، ثم قرأ : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } ) . وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري قال : ( يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) . وروى ابن كثير حديثا رواه البزار عن عبد الله بن بريدة قال : ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له ، فلما قام قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا ) . والحديث الأول من هذه الأحاديث رواه الشيخان بصيغة مقاربة في فصل التفسير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } {[1341]} .

والإيمان بالمشهد الأخروي الذي يثبت خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأن لذكر ذلك حكمة . وقصد بيان كون الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمن بالله واليوم الآخر هي النافعة لصاحبها يوم القيامة دون سواها وبخاصة دون المظاهر الخادعة ، وقصد الحث على ذلك من الحكمة الملموحة في الأحاديث وهو الملموح في الآيات أيضا .


[1339]:انظر التاج ج 4 ص 102-103.
[1340]:التاج ج5 ص 366.
[1341]:التاج ج 4 ص 153.