التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيۡـًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (229)

{ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ { 229 } فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ { 230 } } .

تعليق على الآية

{ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ . . . } إلخ

والآية التالية لها

في الآيتين تنبيه على أن الطلاق الذي يصح الرجعة فيه يجب أن لا يكون أكثر من مرتين . وإن من واجب الزوج إذا طلق أن يمسك زوجته بإحسان أو يسرّحها بإحسان . وإنها لا تحلّ له إذا طلقها مرة ثالثة إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره ويطلقها الزوج الجديد ويظن الزوجان القديمان أنهما سيقيمان حدود الله . وأنه لا يجوز لزوج أن يأخذ شيئاً مما أعطاه لزوجته إلا إذا هي أرادت أن تفدي منه نفسها .

ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث في صدد نزولهما ، ففي صدد : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } روى الطبري عن ابن عباس أن رجلاً قال لامرأته : لا آويك ولا أدعك تحلّين . فقالت له : كيف تصنع ؟ فقال : أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك فمتى تحلين . فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية » {[348]} . وحيث روى الطبري عن قتادة : «أن الرجل كان يطلق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك فيراجع في العدة فجعل الله حدّ الطلاق ثلاث تطليقات » . وفي صدد : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } إلى آخر الآية . روى المفسرون أنها نزلت في شأن جميلة بنت أبيّ كانت عند ثابت بن قيس فنشزت عليه فأرسل إليها رسول الله : يا جميلة ماذا كرهت من ثابت ؟ قالت : والله ما كرهت منه ديناً ولا خلقاً إلا أني كرهت دمامتَه . فقال لها : أتردين الحديقة ؟ قالت : نعم ، فردت الحديقة وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما » {[349]} .

ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الآيات وما قبلها وما بعدها نزلت معاً جملة واحدة أو متتابعة لتوضيح الأحكام المتصلة بالزواج والطلاق . ولم ينزل كل منها لحدتها بناء على حوادث وقعت ، وإن كان يصح القول إن حكمة الله اقتضت تنزيلها في هذا الفصل بسبب مثل الحوادث المذكورة في الروايات . ويلحظ أن الحديثين الصحيحين اللذين أوردناهما في الذيل لا يذكران أن الآيات نزلت لحدتها بناء على الحوادث والله أعلم .

ولقد روى الطبري حديثاً عن ابن زيد جاء فيه : «إن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت قوله تعالى الطلاق مرتان فأين الثالثة ؟ فقال له : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » . وفي الجواب حكمة بالغة . وفيما يلي شرح وتعليق على مدى الآيات :

1- إن الجملة { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } ذات مغزى هام في صدد التطليق . ومما أثر من السنة النبوية والصحابة أن الزوج الذي يريد أن يطلق زوجته كان يطلقها للمرة الأولى طلقة رجعية ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها . ثم إذا لم تزل أسباب الطلاق عنه أو عادت ثانية يطلقها للمرة الثانية طلقة رجعية ثم يراجعها قبل انتهاء العدة ، فإذا لم تزل أسباب الطلاق أو عادت طلقها للمرة الثالثة ويكون الطلاق بائنا لا تحل المطلقة لمطلقها إلا بعد أن تنكح زوجا آخر . وينطوي في هذا كما هو واضح حكمة التنزيل الجليلة في إعطاء الفرصة للزوجين للتروي فإذا وقعت التطليقة الثالثة فيكون معنى ذلك تعذر التراضي والوفاق ويصبح الفراق أمراً ضرورياً لصالح الزوجين وتكون شريعة الطلاق بهذه الصورة في غاية الحكمة والصواب .

وهناك حديث رواه الشيخان والنسائي وأبو داود عن ابن عمر أنه طلّق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : مُرْه فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء » . وهذا الحديث مع نصّ الآيات قد يلهم عدم نفاذ الطلاق البات أو الطلاق الثلاث مرة واحدة ، كما أن نص الآية قد يلهم أن هذا النوع من الطلاق ليس هو طلاقاً قرآنياً . ويدعم هذا القول بقوة آية سورة الطلاق الأولى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً { 1 } } والفقرة الأخيرة قوية المغزى في صدد احتمال تراجع الزوجين أثناء العدة ، وحكمة الأمر بتطليق النساء لعدتهن وإحصاء العدة وعدم خروج النساء من بيوت مطلقيهم وعدم إخراجهم لتسهيل وقوع ذلك الاحتمال . ولقد روى النسائي بسند جيد عن محمود بن لبيد قال : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم برجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جمعاً ، فقام غضبان ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ، حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ألا أقتله . . . » ولقد روى مسلم وأبو داود وأحمد حديثاً عن ابن عباس جاء فيه : «كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلقة واحدة فقال عمر : إنّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناةٌ فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم » {[350]} . وفي الحديثين تدعيم لما قلنا .

على أن هناك حديثاً رواه أبو داود والترمذي والشافعي عن ركانة بن عبد يزيد أنه : «أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إني طلقت امرأتي البتة . فقال : ما أردت بها ؟ قال : واحدة . قال : والله قال : والله . قال : فهو ما أردت » {[351]} . واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم تطليقه البات تطليقة رجعية . وهناك حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن فاطمة بنت قيس قالت : «إن زوجها طلّقها ثلاثاً ولم يجعل لها نفقة ، فشكت أمرها إلى رسول الله فقال لها : ليس لك عليه نفقة » {[352]} .

وهناك حديث يرويه الخمسة عن عائشة قالت : «إنّ امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن رفاعة طلّقني فبثّ طلاقي وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي ، وإنما معه مثل الهُدبة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته » {[353]} . والشاهد في الحديث أن زوجاً طلق زوجته باتاً فاعتبرت نفسها أنها صارت حرة فتزوجت غيره ، ولم يرو اعتراض لرسول الله على ذلك .

فقد يكون في هذه الأحاديث ما يلهم توضيحاً وتعديلاً نبويين لما لم يأت بصراحة قطعية في القرآن ؛ حيث يمكن أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من الرجل ؛ لأن طلاقه كان اعتباطياً ، وإنه لم يعترض على طلاق بنت قيس ؛ لأنه عرف أنه كان تصميماً ، وأنه كان يمكن أن يجيز طلاق ركانة البات لو قال : إنه أراد طلاقا باتاً . ففي كل هذا ما يمكن أن يكون سنداً لنفاذ التطليق الثلاث أو البات مرة واحدة إذا كان هناك تصميم من الزوج على ذلك . ولعل عمر بن الخطاب حين أجاز ذلك أجازه بالاستناد إلى الآثار النبوية من جهة وبالنسبة لمن يكون مصمماً على الفراق البات من جهة ثانية ؛ لأن الحكمة من المراجعة هي إفساح المجال للوفاق والتراضي ، وتصميم الزوج على الفراق البات تفسير بأن ذلك متعسر . وهنا يكون حكم الجملة القرآنية : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } بحيث يقال : إن نفاذ الطلاق الثلاث أو البات مرة واحدة منوط بنية الزوج فإن قال : إني أريد الفراق البات أجيز عليه وإن قال : إنه ليس في نيته الفراق البات اعتبر تطليقة رجعية واحدة والله أعلم .

ومع ذلك فإن الآيات وصراحتها ومداها هنا وفي سورة الطلاق مع بعض الأحاديث التي أوردنها أقوى من هذه الآثار التي تذكر أو تسند إجازة الطلاق الثلاث والطلاق البات . والتي ليس فيها صراحة قطعية شاملة والله تعالى أعلم .

2- وجملة { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } التي وردت في الآية [ 229 ] ثم تكررت في الآية [ 231 ] وفي آية سورة الطلاق الثانية قد جاءت حقا في صدد موقف الزوج الذي طلق زوجته طلاقاً رجعياً كما هو النص والسياق . غير أنها فيما نعتقد مطلقة المدى بطلاق وبدون طلاق . وأنها احتوت مبدأين عظيمي الروعة في الأساس الذي يجب أن تكون عليه العلاقة الزوجية وهي الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان . فالله تعالى قد خلق الإنسان من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن كل من الزوجين للآخر على أساس المودة والرحمة وكل معاملة وسلوك تعورف على أنهما حق وواجب ومتسقان مع المودة والرحمة ، فإذا تعذر تحقيق هذا المبدأ الإيجابي فهناك المبدأ السلبي وهو التسريح بإحسان أي الفراق بالحسنى من غير مضارة ولا أذى ولا تهجير ولا إرهاق ولا تشاتم ولا شقاق .

ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن مخالفة الزوج لهذين المبدأين اللذين انطويا في الجملة إثم ديني عظيم عند الله ، وقد عبرت الآية [ 231 ] التي تأتي بعد قليل عن ذلك تعبيراً قوياً جداً . فعدم الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان سواء أفي حالة الزواج من حيث الأصل أم في حالة المراجعة في الطلاق الرجعي يعني أن الزوج يتلاعب بآيات الله ويحتال عليها ويتخذها هزواً والعياذ بالله . وقد يبرر هذا أن يقال : إن من حق المرأة التي تتعرض لذلك أن ترفع أمرها للقضاء ليضع الأمر مع الزوج في نصابه الحق بتحقيق أحد المبدأين وحماية الزوجة من الأذى والإعنات والضرر والعدوان . وتدعم هذا فيما يتبادر لنا آية سورة النساء هذه : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً { 35 } } {[354]} ، ثم آيات سورة النساء هذه : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً { 128 } وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً { 129 } وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً { 130 } } {[355]} .

وهناك اصطلاح فقهي يعرف ببيت الطاعة ، وتسير بعض الحكومات الإسلامية في تطبيقه . ومبدؤه : أن للزوج حقّ مراجعة القضاء إذا امتنعت زوجته عن مساكنته لسبب من الأسباب ، وأن للقاضي أن يجبر الزوجة على مساكنة زوجها إذا ما استعدّ للإنفاق عليها وهيأ لها بيتاً تتوفر فيه الحياة والأمن والطمأنينة . ويتم ذلك بواسطة الشرطة حين اقتضاء الأمر . حيت تقبض الشرطة على الزوجة فتأخذها عنوة إلى هذا البيت . ونعتقد أن هذا متناقض مع المبدأ القرآني الجليل : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وأن الزوجين إذا تشاقا وتنازعا فإما أن يصطلحا ويتوافقا بالرضاء والمعروف والحب أو يتفارقا بالرضاء والمعروف والحب . وكل ما يكون للزوج إذا ما لم يرد أن يطلقها أن يمتنع عن الإنفاق عليها والله تعالى أعلم . وسنزيد هذا الأمر شرحاً في مناسبات آتية .

3- ولقد نبهت الآية [ 230 ] على عدم جواز محاولة الزوج استرداد شيء من المال الذي أعطاه لزوجته في سياق طلاقها أو إرجاعها . أو بكلمة أخرى نهت عن اتخاذ الطلاق وسيلة إلى ابتزاز مالها ، وهذا مناف للمبدأين اللذين احتوتهما جملة : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وفي ذلك حماية ربانية للزوجات يجب على الأزواج أن يلتزموا بها . ومع ذلك فقد احتوت الآية فرصة للزوجة لاسترداد حريتها إذا شذّ زوجها عن المبدأين ، ولم ترد أن ترفع أمرها إلى القضاء لإجباره على ذلك . وفي فداء نفسها بشيء من المال . وقد أجازت الآية ذلك بالمعنى القوي الذي انطوى في جملة : { إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } .

4- وتسمى هذه الفرصة في الفقه : خلعاً ، وقد روي حديثان فيهما خبر حادثين للخلع . أحدهما رواه الترمذي وصححه جاء فيه : «اختلعت الربيع بنت معوذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرها أن تعتدّ بحيضة » {[356]} . وثانيهما : حديث جميلة زوجة ثابت بن قيس الذي أوردناه في الفقرة الأولى من هذا البحث ؛ حيث أمرها برد حديقته إليه وهي مهرها على ما يستفاد من نصّ الحديث مقابل تطليقه إياها تطليقة . ولقد روى أصحاب السنن حديث جميلة بشيء من الفرق حيث جاء فيه : «اختلعت امرأة ثابت بن قيس فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدّتها حيضةً » {[357]} . ويتبادر لنا أن حديث أصحاب السنن هو الأكثر اتساقاً مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم لجميلة بأن ترد عليه حديقته . وبالتالي أن مسألة جميلة كانت هي أيضا خلعاً وافتداء لنفسها توافقاً مع الآية التي نحن في صددها . ونرى أنه يصح أن تسمى هذه الفرصة ( بالحق المقابل ) لحق الزوج في فراق زوجته بالطلاق . فحكمة الله اقتضت أن يكون الطلاق في يد الزوج فيطلق زوجته إذا كرهها أو ساءت معاشرتها أو لسبب ما . فجاءت هذه الآية لتعطي رخصة للمرأة بأن تخلص هي أيضا من زوجها إذا كرهته أو ساءت معاشرته أو لسبب ما . وفي الأحاديث أن الزوجات راجعن النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأزواج بالتطليق وأخذ الفداء . وهذا يلهم أن للزوجة إذا لم يقبل الزوج أخذ فداء وخلاص زوجته منه بالتي هي أحسن أن تراجع الحاكم ، وأن للحاكم أن يأمر الزوج بقبول الفداء والتطليق . وفي كل ذلك ما فيه من تسوية وعدل وإنصاف .

والجملة صريحة بأن هذه الرخصة أو الفرصة إنما تكون عند غلبة الخوف والظن من عدم قيام الزوجين بما يجب عليهما من حقوق الزوجية اتجاه بعضهما . وقد أول المفسرون ذلك بالشقاق والنشوز ، والمعنى يتسع لأكثر من ذلك من مضارة وإعنات وضرب وإهمال ومرض وعاهة دائمة ودمامة وكراهية الخ وفي حديث جميلة تدعيم لذلك .

ولقد أورد ابن كثير حديثاً رواه الإمام أحمد عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه : «أيّما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير بأس فحرام عليها رائحة الجنّة » ، وأورد الطبري حديثاً رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المختلعات المنتزعات هنّ المنافقات » . والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ، ولا مانع من صحتها لأنها تتسق مع روح التلقينات القرآنية . وفيها تلقين زجري بليغ يوزن به شكوى الزوجات وظروف رغبتهن في الاستفادة من فرصة افتداء النفس التي أتاحتها الآية [ 230 ] وسميناها ( الحق المقابل ) وتكون واردة بالنسبة لمن لا يكون لديها سبب معقول من سوء سيرة وخلق ومعاملة واضطهاد وعجز عن الإنفاق وغيره من الواجبات الزوجية .

5- وهناك خلاف بين الفقهاء والمؤولين فيما إذا كان الخلع فسخاً أو طلاقاً ، فالذين يذهبون إلى أنه فسخ يعتبرون الزوجة قد بانت عن زوجها ولم يعد له حق المراجعة لها ، وأصبحت مالكة لنفسها تتزوج بمن تشاء بعد عدتها مع جواز تراجع الزوجين إذا تراضيا بعقد ومهر جديدين ودون أن تنكح زوجاً آخر . ولا يعد ذلك في عداد مرات التطليقات الثلاث التي لا يجوز أن تعود الزوجة إلى زوجها بعدها دون أن تنكح زوجاً آخر . والذين يذهبون إلى أنه طلاق اعتبروه طلاقا عاديا رجعيا يصح للزوج أن يعود إلى زوجته أثناء عدتها ويعد في عدد مرات التطليقات الثلاث . والجمهور على المذهب الأول . والأحاديث المروية باعتداد المخلوعة بحيضة واحدة تدعم هذا المذهب ؛ حيث تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الخلع فسخاً وبينونة فلم يفرض على الزوجة التربص بنفسها ثلاثة قروء التي هي عدة للمراجعة ، وإنما فرض عليها عدة لاستبراء رحمها فقط وهي حيضة واحدة . وهذا المذهب هو الأوجه فيما نراه . فالفدية باب فتحه الله للزوجة للتخلص من زوجها الذي يشذ عن مبدأ الإمساك بإحسان أو التسريح بإحسان أو الذي تكرهه ولا تطيق الحياة معه لسبب ما أخلاقي أو جسماني أو سلوكي . فكيف يكون له بعد أخذ الفدية حق للمراجعة ؟ وقد يكون أصحاب المذهب الثاني استندوا إلى حديث جميلة الأول الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه الزوج بتطليقها تطليقة . وقد علقنا على ذلك ، ورأينا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم برد المهر على الزوج وهو الحديقة عملية خلع وفسخ ، وليست عملية طلاق عادي والله تعالى أعلم .

6- وهناك من قال إن جملة { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً . . . } إلخ نسخت بآية سورة النساء { وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً { 20 } وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً { 21 } } . وفد فنّد الطبري القول وتفنيده في محلّه ، فذلك مقام وهذا مقام آخر .

7- لقد قال الزمخشري : إن الخطاب في جملة { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } هو للأئمة والحكام . وهذا القول ظاهر الوجاهة ، فحلّ الأمر عن طريق القضاء هو أدعى إلى حسن التقدير . ويدعم هذا حديث جميلة زوجة ثابت الذي ذكر أنها راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرها فتوسط وحلّ المشكلة وكان هو قاضي المسلمين .

8- وهناك فرصة أخرى للزوجة لاسترداد حريتها من زوجها على ما يقرره بعض الأئمة وهي أن تشترط أن يكون أمر طلاقها بيدها ، ويقبل الزوج ذلك وتسمى الزوجة في هذه الحالة ( المنوفية ) {[358]} ، أي التي يفوض الزوج لها تطليق نفسها ، وهناك حديث رواه الترمذي والنسائي وأبو داود يفيد : أن ذلك كان مما جرى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة ( أمرك بيدك ) حيث جاء في الحديث عن حماد بن زيد : «قلت لأيوب هل علمت أن أحداً قال في ( أمرك بيدك ) إنها ثلاث إلى الحسن . فقال : لا . اللهم غفراً إلا ما حدثني عن قتادة عن كثير مولى بني مرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث ) . والحديث يفيد أولا : أن جعل الطلاق بيد الزوجة مما جرى وسوغ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم . وثانياً : أن المرأة إذا استعملت حقها فطلقت نفسها فيكون طلاقها باتاً .

9- والضمير في جملة { فَإِنْ طَلَّقَهَا } الأولى في الآية [ 230 ] عائد إلى الزوج الأول الذي طلق مرتين . وتعني أنه إن طلقها ثالث مرة فلا تحل له حتى تنكح زوجاً آخر كما جاء في الآية . أما الضمير في الجملة الثانية فهو عائد إلى الزوج الجديد . وهكذا هذه الآية قد فتحت باباً للمراجعة بين الزوجين المطلقين بعد التطليقة الثالثة أيضا إذا تأكدا من أنهما قد استفادا من تجربة الفراق ، وأنهما سوف يكونان على تراض ووفاق ويقيمان حدود الله . وهذا متسق مع التلقينات التي انطوت في الآيات نصا وروحاً .

ولمن نطلع على أثر نبوي في صدد الزواج الثاني الذي يقع بين مطلقين قديمين بعد أن تنكح الزوجة المطلقة زوجاً آخر ، ثم يطلقلها لسبب من الأسباب . ويتبادر لنا أن يكون محلا لجميع الحدود والشروط التي تنطوي في أصل التشريع على اعتبار أنه نكاح جديد والله أعلم .

10- والمتفق عليه أن عدة الزوجة التي يطلقها زوجها للمرة الثالثة أو التي يطلقها زوجها تطليقة ثم لا يراجعها أثناء عدتها ويكون طلاقها بائنا هي حيضة واحدة للاستبراء ؛ لأن القروء الثلاثة أو الأشهر الثلاثة هي عدة للمراجعة . فإذا لم يكن محل لها فيكفي حيضة واحدة لاستبراء الرحم .

11- والمتبادر أن ما جاء في الفقرتين السابقتين مباشرة ينسحب على الأوجه التي تطلّق طلاقاً باتاً أو طلاقاً ثلاثاً لمرة واحدة ويكون نافذاً في نطاق ما شرحناه في الفقرة ( 1 ) من هذا البحث .

12- والجمهور على أن الزواج الجديد يجب أن يكون تاماً ويقع فيه جماع . ولا يكفي أن يكون صوريا ، وهذا مستلهم من روح الآية التي هدفت على ما هو المتبادر إلى إعطاء فرصة للزوجين لتجربة جديدة لكل منهما أو لأحدهما ، حتى إذا صارت مراجعة كان ذلك نتيجة للتجربة . وهناك حديث يرويه الشيخان وأصحاب السنن عن عائشة قالت : «إن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن رفاعة طلّقني فبتّ طلاقي ، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي وإنما معه مثل الهدبة . قال رسول الله لعلّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة . لا . حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته » {[359]} . وحديث آخر رواه النسائي من بابه جاء فيه : «جاءت الغميصاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها أنه لا يصل إليها فلم يلبث أن جاء زوجها فقال : هي يا رسول الله كذابة ، وهو يصل إليها ، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول فقال رسول الله : ليس ذلك لك حتى تذوقي عسيلته » {[360]} .

ولنا تعليق على هذين الحديثين فشرط الجماع يكون لازماً في حالة إمكانه فعلا ، وهذا ما يفيده نصّ الحديثين . وهناك حالة ترد ، وهي عدم تمكن الزوج الجديد من مجامعة زوجته لعاهة أو قصور ، ولم نطلع على أثر نبوي في ذلك . ويتبادر لنا من نصّ الحديثين أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم كان سيختلف لو ثبت قول الزوجين ، وأنه كان يسمح لهما الرجوع إلى زوجيهما الأولين إذا ما طلقهما الزوجان الجديدان . أو اختلعا منهما . لأن نصّ القرآن هو نكاح زوج آخر أي تزوج زوج آخر . وهدف ذلك هو التجربة ، ويكون هذا النص قد تحقق ولو بغير جماع ما دام هذا غير مستطاع من قبل الزوج الجديد . وللزوجة مراجعة القاضي في حالة عدم استطاعة الزوج الجديد المجامعة وللقاضي أن يأمره بطلاقها أو خلعها أو يطلق عليه استئناساً بنص الحديثين والله تعالى أعلم . ويتبادر لنا أن هذا ينسحب على الزواج الجديد إذا مات الزوج الجديد قبل أن يتاح له جماع ، والله تعالى أعلم .

13- ونستطرد في هذه المناسبة إلى الزواج المعروف بالتحليل والتواطؤ فيه وروح الآية يلهم أنها انطوت على هدف إفساح الفرصة للتروي والتجربة كما قلنا قبل . وزواج التحليل والتواطؤ لا يضمن تحقيق هذا الغرض . وفيه على ما يبدو تحايل على التشريع القرآني وحكمته . وقد حرّمه بعض الأئمة وكرهه بعضهم . وقال بعضهم : إن المحلل والزوجة التي دخل عليها يرجمان . وأجازه بعضهم استناداً إلى ظاهر النص {[361]} من حيث إن زواج التحليل برغم أنه تواطؤ فهو زواج شرعي بعقد ومهر وتنفيذ وطلاق شرعي في النتيجة . ولعل هؤلاء لا يستلهمون روح الآيات التي تحت على الإبقاء على رابطة الزوجية واحترامها وتأمر بالتروي والمراجعة وتستهدفهما . ويفرضون أن يكون التطليق البات أو الثلاث النافذ كان نزوة وانفعالا . ومع ما يمكن أن في هذا من وجاهة ، فإن النفس تطمئن بكراهية هذا الزواج بل وحرمته ؛ لأنه تحايل بشع على كل حال .

وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن عبد الله قال : «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحِلَّ والمحلَّل له » . وفي تفسير ابن كثير أحاديث كثيرة في صدد ذلك رواها أئمة غير أصحاب الكتب الخمسة . منها حديث أخرجه الحافظ الجورجاني عن ابن عباس قال : «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحلّل فقال : لا . إلا نكاح رغبة لا دلسة . ولا استهزاء بكتاب الله ثم يذوق عسيلتها » . وحديث أخرجه الحاكم عن ابن عمر أنه قال : «كنّا نعدّ هذا النكاح سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم » . وحديث آخر أخرجه الحافظ الجورجاني عن عمر أنه قال : «لا أوتى بمحلّل ولا محلّل له إلا رجمتهما » . وحديث رواه البيهقي : «أن عثمان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلّها لزوجها ففرّق بينهما » وحديث أخرجه ابن ماجة عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : هو المحلّل ، لعن الله المحلّل والمحلّل له » .


[348]:هناك حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس جاء فيه: «كان الرجل إذا طلّق امرأته فهو أحق بمراجعتها وإن طلقها ثلاثاً فنسخ بقوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} التاج 2/310 ويلحظ أنه ليس في هذا الحديث أن الآية نزلت في مناسبة معينة
[349]:روى البخاري والنسائي هذا الحديث بدون ذكر أن الآية نزلت في هذا الشأن. انظر التاج 2/315
[350]:التاج 2/332
[351]:المصدر نفسه ص: 312
[352]:المصدر نفسه ص: 331
[353]:التاج 2/313
[354]:الآية الأولى نزلت في صدد قوامة الرجل على المرأة وحقه في تأديتها إذا نشزت، والآيات الأخرى نزلت في صدد الرجل الذي يريد أن يتزوج على امرأته ناشزا عنها. ولكن الآيات يصح أن تساق في المقام الذي سقناه فيها لتدعيم ما أردنا قوله ونؤجل شرح مدى الآيات إلى مناسباتها
[355]:المصدر السابق نفسه
[356]:التاج 2/316
[357]:انظر المصدر نفسه
[358]:انظر تفسير ابن كثير مثلا
[359]:التاج 2/313
[360]:انظر المصدر نفسه
[361]:انظر ابن كثير والخازن وغيرهم