ولما ذكر الرجعة{[10569]} ولم يبين لها غاية تنتهي{[10570]} بها فكانت الآية كالمجمل{[10571]} عرض سؤال : هل هي ممتدة{[10572]} كما كانوا يفعلون في الجاهلية متى راجعها في العدة له أن يطلقها ما دام يفعل ذلك ولو ألف مرة أو{[10573]} منقطعة ؟ فقال : { الطلاق } أي المحدث عنه وهو الذي تملك فيه الرجعة . قال الحرالي : لما كان الطلاق لما يتهيأ رده قصره الحق تعالى على المرتين اللتين يمكن فيهما تلافي النكاح بالرجعة - انتهى . وقال{[10574]} تعالى : { مرتان{[10575]} } دون طلقتان تنبيهاً{[10576]} - على أنه ينبغي أن تكون{[10577]} {[10578]}مرة بعد مرة{[10579]} كل طلقة{[10580]} في مرة لا أن يجمعهما في مرة .
ولما كان له بعد الثانية في العدة حالان إعمال وإهمال وكان الإعمال إما بالرجعة وإما بالطلاق بدأ بالإعمال لأنه الأولى بالبيان{[10581]} لأنه أقرب{[10582]} إلى أن يؤذي به وأخر الإهمال إلى أن تنقضي العدة لأنه مع فهمه من آية الأقراء {[10583]}سيصرح به في قوله في الآية الآتية { أو سرحوهن بمعروف }[ البقرة : 231 ] فقال معقباً بالفاء{[10584]} { فإمساك } أي إن راجعها في عدة الثانية . قال الحرالي{[10585]} : هو من المسك{[10586]} وهو إحاطة تحبس الشيء ، ومنه المسك - بالفتح - للجلد { بمعروف } قال الحرالي{[10587]} فصرفهم بذلك عن ضرار الجاهلية الذي كانوا عليه بتكرير الطلاق إلى غير حد فجعل له حداً يقطع قصد الضرار - انتهى { أو تسريح } أي إن طلقها الثالثة ، {[10588]}ولا يملك بعد هذا التسريح عليها الرجعة لما كان عليه حال أهل الجاهلية{[10589]} . قال الحرالي : سمى{[10590]} الثالثة{[10591]} تسريحاً لأنه إرسال لغير معنى الأخذ كتسريح الشيء الذي لا يراد إرجاعه . وقال أيضاً{[10592]} : هو إطلاق الشيء على وجه لا يتهيأ للعود ، فمن أرسل البازي مثلاً ليسترده فهو مطلق ، ومن أرسله لا ليسترجعه{[10593]} فهو مسرح{[10594]} انتهى . {[10595]}ويجوز أن يراد بالتسريح عدم المراجعة من الثانية لا أنه طلقة ثالثة{[10596]} ، ولما كان مقصود النكاح حسن الصحبة وكانت من الرجل الإمتاع{[10597]} بالنفس والمال وكان الطلاق منعاً للإمتاع بالنفس قال : { بإحسان } تعريضاً بالجبر بالمال لئلا يجتمع منعان : منع النفس{[10598]} وذات اليد - أفاده الحرالي وقال : ففيه بوجه ما تعريض بما صرحت به آية المتعة الآتية - انتهى . ومن ذلك بذل{[10599]} الصداق{[10600]} كاملاً وأن لا يشاححها{[10601]} في شيء لها فيه حق مع {[10602]}طيب المقال{[10603]} وكرم الفعال{[10604]} .
ولما كان سبحانه وتعالى قد خيره بين شيئين : الرجعة والتسريح الموصوفين وكانت الرجعة أقرب إلى الخير بدأ بها ولكنها لما كانت قد تكون لأجل الافتداء بما أعطيته المرأة وكان أخذه أو شيئاً منه مشاركاً للسراح في أنه يقطع عليه ما كان له من ملك الرجعة {[10605]}ولا يملك بعد هذا التسريح عليها الرجعة كما كان عليه حال أهل الجاهلية{[10606]} وكان الافتداء قد يكون في الأولى{[10607]} لم يفرعها{[10608]} بالقابل{[10609]} قال مشيراً إلى أن من إحسان التسريح سماح الزوج بما أعطاها عاطفاً على ما تقديره : فلا يحل لكم مضارتهن{[10610]} : { ولا يحل لكم } أي أيها المطلقون {[10611]}أو المتوسطون من الحكام وغيرهم لأنهم لما كانوا آمرين عدوا آخذين{[10612]} { أن تأخذوا } إحساناً في السراح { مما آتيتموهن } من صداق وغيره { شيئاً } {[10613]}أي بدون مخالفة{[10614]} . قال الحرالي : لأن إيتاء الرجل للمرأة إيتاء نحلة لإظهار مزية{[10615]} الدرجة لا في مقابلة الانتفاع فلذلك أمضاه ولم يرجع منه شيئاً ولذلك لزم في النكاح الصداق لتظهر مزية الرجل بذات اليد كما ظهرت في ذات النفس - انتهى .
ولما كان إسناد الخوف إلى ضمير الجمع ربما ألبس قال : { إلا{[10616]} أن يخافا } نصاً على المراد بالإسناد إلى الزوجين ، وعبر عن الظن بالخوف تحذيراً من عذاب الله{[10617]} ، وعبر في هذا الاستثناء إن قلنا إنه منقطع{[10618]} بأداة المتصل تنفيراً من الأخذ ومعنى البناء للمفعول في قراءة حمزة وأبي جعفر ويعقوب إلا أن يحصل{[10619]} لهما {[10620]}أمر من{[10621]} حظ أو شهوة يضطرهما إلى الخوف من التقصير في الحدود ، ولا مفهوم للتقييد بالخوف لأنه لا يتصور من عاقل أن يفتدي بمال من غير{[10622]} أمر محوج ومتى حصل المحوج كان الخوف ومتى خاف أحدهما خافا لأنه متى خالفه الآخر حصل التشاجر {[10623]}المثير للحظوظ المقتضية للإقدام على ما لا يسوغ{[10624]} والله سبحانه وتعالى أعلم { ألا يقيما } أي في الاجتماع { حدود الله } العظيم فيفعل كل منهما ما وجب عليه من الحق .
قال الحرالي : وفي إشعاره أن الفداء في حكم الكتاب مما أخذت الزوجة من زوجها لا من غير ذلك من مالها ، والحدود جمع حد وهو النهاية في المتصرف المانع من الزيادة عليه - انتهى . ثم زاد الأمر بياناً لأنه في مقام التحديد فقال مسنداً{[10625]} إلى ضمير الجمع حثاً على التحقق ليحل الفداء حلاً{[10626]} نافياً لجميع الحرج : { فإن خفتم } أي{[10627]} أيها المتوسطون بينهما من الحكام وغيرهم من الأئمة بما ترون منهما وما{[10628]} يخبرانكم به عن أنفسهما{[10629]} { ألا يقيما حدود الله } وتكرير الاسم الأعظم يدل على رفعة زائدة لهذا المقام ، وتعظيم كبير لهذه الأحكام ، وحث عظيم على التقيد في هذه الرسوم بالمراعاة والالتزام ، وذلك لأن{[10630]} كل إنسان مجبول على تقديم نفسه على غيره ، والشرع كله مبني على العدل الذي هو الإنصاف ومحبة المرء لغيره ما يحب لنفسه { فلا جناح } أي ميل بإثم { عليهما } {[10631]}وسوغ ذلك أن الظن شبهة فإنك لا تخاف ما لا تظنه{[10632]} { فيما افتدت به } أي{[10633]} لا{[10634]} على الزوج بالأخذ ولا عليها بالإعطاء سواء كان ذلك مما{[10635]} آتاها أو من غيره أكثر منه أو لا {[10636]}لأن الخلع عقد معاوضة فكما{[10637]} جاز لها أن تمتنع من أول العقد حتى ترضى ولو بأكثر من مهر المثل فكذا في الخلع يجوز له أن لا يرضى إلا بما في نفسه كائناً ما كان ويكون ذلك عما كان يملكه عليها من الرجعة ، فإذا أخذه بانت المرأة فصارت أحق بنفسها فلا سبيل عليها إلا بإذنها .
ولما كانت أحكام النساء تارة بالمرافقة وتارة بالمفارقة وكانت مبنية على الشهوات تارة على{[10638]} البهيمية وتارة على السبعية وكان سبحانه وتعالى قد حد فيها حدوداً تكون بها المصالح وتزول{[10639]} المفاسد منع سبحانه وتعالى من تعدى تلك الحدود أي الأحكام التي بينها في ذلك ولم يذكر قربانها كما مضى في آية الصوم فقال : { تلك } أي الأحكام العظيمة التي تولى الله بيانها{[10640]} من أحكام الطلاق والرجعة والخلع وغيرها{[10641]} { حدود الله } أي شرائع{[10642]} الملك الأعظم{[10643]} الذي له جميع العزة{[10644]} من الأوامر والنواهي التي بينها فصارت كالحدود المعروفة في الأراضي .
ولما كانت شرائع الله ملائمة للفطرة الأولى السليمة عن نوازع{[10645]} النقائص وجواذب الرذائل أشار إلى ذلك سبحانه بصيغة الافتعال في قوله : { فلا تعتدوها } أي لا تتكلفوا مجاوزتها ، وفيه أيضاً إشارة إلى العفو عن المجاوزة من غير تعمد .
ولما أكد الأمر تارة بالبيان وتارة بالنهي زاد في التأكيد بالتهديد فقال عاطفاً على ما تقديره : فمن تعدى شيئاً منها فقد ظلم : { ومن يتعد{[10646]} } أي يتجاوز { حدود الله } أي {[10647]}المحيط بصفات الكمال التي{[10648]} بينها وأكد أمرها وزاد تعظيمها بتكرير اسمه الأعظم . قال الحرالي : ففيه ترجية{[10649]} فيما يقع من تعدي الحدود من دون ذلك من حدود أهل العلم ووجوه السنن وفي إعلامه{[10650]} إيذان بأن وقوع الحساب يوم الجزاء على حدود القرآن التي لا مندوحة لأحد بوجه من وجوه السعة في مخالفتها ولذلك تتحقق التقوى والولاية مع{[10651]} الأخذ بمختلفات السنن ومختلفات أقوال العلماء - انتهى . وإليه يرشد الحصر في قوله : { فأولئك } أي المستحقون للابعاد { هم الظالمون * } أي العريقون{[10652]} في الظلم بوضع الأشياء في غير مواضعها فكأنهم يمشون في الظلام . قال الحرالي : وفي إشعاره تصنيف الحدود ثلاثة أصناف : حد الله سبحانه وتعالى ، وحد النبي صلى الله عليه وسلم ، وحد العالم ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " ما جاء من الله فهو الحق ، وما جاء مني فهو السنة ، وما جاء من أصحابي فهو السعة " فأبرأ العباد من الظلم من حافظ على أن لا يخرج عن حدود العلماء ليكون أبعد أن يخرج من حدود السنة ليكون أبعد أن يخرج من حدود الكتاب ، فالظالم المنتهي ظلمه الخارج عن الحدود الثلاثة : حد العالم{[10653]} ، وحد السنة ، وحد الله - انتهى . ولما بين قسمي الطلاق البائن{[10654]} - وكان نظر الطلاق إلى العدد أشد من نظره إلى العوض قدم قسمه {[10655]}في قوله { أو تسريح بإحسان{[10656]} } ثم فرع عليه{[10657]} فقال موحداً لئلا يفهم الحكم على الجمع أن الجمع{[10658]} قيد في الحكم وأفهم التكرير للجمع شدة الذم لما كانوا يفعلون في الجاهلية من غير هذه الأحكام :