قوله : ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ) [ 227 ] أي : فعليكم إمساك ، هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه ؛ وذلك أن الرجل كان يطلق امرأته ما شاء من الطلاق ، فإذا كادت تحل راجعها ، فنسخ الله ذلك بأنه إذا طلق ثلاثاً( {[7449]} ) ، لم تحل له إلا بعد نكاح وزوج آخر( {[7450]} ) .
وقيل : إنها منسوخة بقوله : ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ )( {[7451]} )( {[7452]} ) وقيل : هي محكمة ، وقوله : ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) تبيين( {[7453]} ) لقوله : ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ )( {[7454]} ) .
ومن قال : إنما محكمة منهم ، قال( {[7455]} ) : " لا ينبغي أن يطلق إلا اثنتين( {[7456]} ) ، ثم إن شاء طلق الثالثة أو أمسك( {[7457]} ) لقوله : ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ) . قاله عكرمة( {[7458]} ) .
وقال الشافعي : " يطلقها في كل طهر لم يجامعها فيه ما شاء( {[7459]} ) " .
وقال أكثر الناس : " يطلقها في كل طهر طلقة( {[7460]} ) واحدة( {[7461]} ) " .
ومعنى ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ) : أي : الطلاق الذي يجوز معه الرجعة وتملك المرأة بعده مرتان ، فهو تبيين( {[7462]} ) للعدد .
/[ وقوله( {[7463]} ) ] : ( اَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) [ 227 ] .
هي الثالثة( {[7464]} ) التي لا ملك للرجل على المرأة بعدها ، روي ذلك عن النبي [ عليه السلام ]( {[7465]} ) .
وقيل : عنى ( اَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) : يتركها فلا يراجعها حتى توفي عدتها .
وعن ابن عباس : ( تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) : " لا يظلمها من حقها شيئا( {[7466]} ) " ( {[7467]} ) .
قال ابن عباس : " ( وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثاقاً غَلِيظاً )( {[7468]} ) هو ( فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ )( {[7469]} ) ، أي صحبة حسنة ، أو ( تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) ، لا يظلمها من( {[7470]} ) حقها شيئاً " ( {[7471]} ) .
قوله : ( وَلاَ يَحِلُّ لَكُمُ أَن تَاخُذُوا مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ) [ 227 ] .
أي مما أعطيتموهن إذا أردتم/فراقهن .
قوله : ( اِلاَّ أَنْ يَّخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ) [ 227 ] .
اختار أبو عبيد الضم في ( يَّخَافَا( {[7472]} ) ) على قراءة حمزة( {[7473]} ) ، واحتج بقوله : ( فَإِن خِفْتُمُ ) [ البقرة : 229 ] فجعل الخوف لغيرهما ، ولم يقل " فإن خافا( {[7474]} ) " . وفيه حجة لمن جعل الخلع إلى السلطان( {[7475]} ) " .
والخوف هنا عند أبي عبيدة بمعنى اليقين( {[7476]} ) . وهذا النص إنما هو في الخلع الذي يكون بين الزوجين ، فيأخذ( {[7477]} ) منهما ما اتفقا عليه ، ويتركها لقوله : ( فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) .
ولا يحل للزوج أن يأخذ من المرأة شيئاً على طلاقها إذا كانت المضارة من قبله( {[7478]} ) ، وإنما يأخذ منها على الطلاق إذا( {[7479]} ) كانت هي( {[7480]} ) التي كرهته ، وأحبت فراقه من غير مضارة منه لها .
وهذه الآية عند بعضهم منسوخة ، ولا يجوز أن يأخذ منها شيئاً نسخها قوله : ( وَإِنَ اَرَدتُّمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمُ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً )( {[7481]} )( {[7482]} ) .
وأكثر الناس على أنها محكمة ، وأن له أن يأخذ منها ما اتفقا عليه ، وتلك الآية في النساء إنما هي لمن أراد الاستبدال ، وهذه لمن خيف منهما ألا يقيما حدود الله ، فهما محكمتان( {[7483]} ) .
وروي أن هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي [ بن ]( {[7484]} ) سلول وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس( {[7485]} ) ، وكانت تبغضه ويحبها ، فأتت أباها فردها ولم يشكها ، فصارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت : " إن ثابتاً( {[7486]} ) [ يظلمني ويضربني ]( {[7487]} ) . فأحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتاً فقال : " والله يا رسول الله ما على وجه الأرض أحد أحب إلي منها سواك " . فقال للمرأة : " مَا تَقُولِينَ ؟ . فقالت : " يا رسول الله( {[7488]} ) ، ما كنت لأخبرك بخبر ينزل عليه الوحي بإبطاله ، هو كما وصف ، وفرق بيني وبينه " . فقال ثابت : " فترد إلي الحديقة التي جعلتها لها " . فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بردها ، ثم طلقها ، وكان ذلك أول خلع كان في الإسلام( {[7489]} ) . والخلع جائز بغير سلطان( {[7490]} ) ، وإنما يكون الخلع والافتداء إذا كان النشوز( {[7491]} ) من قبل المرأة( {[7492]} ) .
قال ابن عباس : " هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة للرجل ، فله أن يأخذ ما أعطته ويفارقها ، فإن كانت راضية به ، فلا يحل له( {[7493]} ) أن يضارر بها حتى تفتدي منه ، فإن فعل كان ما أخذ حراماً " ( {[7494]} ) .
وإنما الخلع إذا كان الشيء المنكر من قبلها ؛ /فتقول : " لا أغتسل لك من جنابة ، ولا أَبَرُّ لَكَ قسماً " ( {[7495]} ) ثم افتدت منه وخالعها ، فذلك جائز حسن .
وقال القاسم بن( {[7496]} ) محمد : " لا يحل الخلع حتى يخافا جميعاً ألا يقيما حدود الله في العشرة الواجبة بينهما " .
وقال زيد بن أسلم : " إذا خافت المرأة ألا تؤدي حق زوجها/وخاف الرجل ألا يؤدي حق زوجته( {[7497]} ) ، فلا جناح( {[7498]} ) في الفدية " .
قال مالك : " الأمر عندنا أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ، ولم تُؤتَ من قبله وأحبت فراقه فحلال ما افتدت به( {[7499]} ) " .
قال : " ولم أرَ أحداً ممن/يُقتدى( {[7500]} ) به ، يكره أن يفتدي( {[7501]} ) بأكثر من صداقها( {[7502]} ) " .
وقال أبو حنيفة : " لا يكون بأكثر مما ساق إليها( {[7503]} ) " .
والخلع طلقة بائنة عند جماعة من الصحابة والتابعين ، وهي قول مالك والشافعي وغيرهما من الفقهاء( {[7504]} ) .
وعدتها عدة المطلقة عند مالك والشافعي وغيرهما( {[7505]} ) .
وهو مروي عند جماعة من الصحابة والتابعين( {[7506]} ) .
ولا سبيل لزوج المختلعة إليها إلا بخطبة ونكاح جديد عند مالك والأوزاعي . وهو قول عطاء وطاوس( {[7507]} ) والحسن( {[7508]} ) والنخعي والثوري .
وقال ابن المسيب : " يَرُدُّ عليها ما أخذ منها ، وليشهد على رجعتها " . وكذلك قال الزهري .
قال مالك : " عليها أن تكمل بقية عدتها " . وكذلك قال الحسن وعطاء ، ثم بعد ذلك يراجعها بنكاح جديد إن شاء .
وقوله : ( فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ) . [ 227 ] .
أي لا جناح عليها( {[7509]} ) فيما أعطت إذا كان النشوز من قبلها . ولا جناح عليه فيما أخذ إذا كان الضرر من قبلها .
وقيل : ( فَلاَ جُنَاحَ/عَلَيْهِمَا ) : هو مخاطبة للزوج وحده فيما أخذ( {[7510]} ) منها ليتركها ، وهذا كما قال : ( يُخْرَجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ )( {[7511]} ) ، وإنما يخرج من الملح لا من العذب . وكما قال : ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا )( {[7512]} ) ، وإنما الناسي صاحب موسى . وتقول : " عندي( {[7513]} ) دابتان أركبهما وأسفي عليهما " ، وإنما تركب إحداهما( {[7514]} ) .
وقوله : ( فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) . [ 227 ] .
قيل : من صداقها الذي كان أعطاها ، لقوله : ( مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ) . والذي أعطاها هو الصداق فرجع آخر الآية على( {[7515]} ) أولها وكان ذلك أبين وأليق بالكلام . قال ذلك الأوزاعي( {[7516]} ) .
وكره الشعبي أن يأخذ منها إلا ما ساق أو دونه( {[7517]} ) " ( وروي )( {[7518]} ) ذلك عن علي رضي الله عنه( {[7519]} ) . وأكثر الناس على أن له( {[7520]} ) أن يأخذ ما رضيت به من قليل كان أو كثير لعموم الآية . وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة( {[7521]} ) .
قوله : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) [ 227 ] . أي هذه حدوده .
" وتلك " إشارة إلى الآيات التي تقدمتن قوله : ( وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُومِنّ ) إلى : ( فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ )( {[7522]} ) .
فمعنى : ( فَلاَ تَعْتَدُوهَا ) أي لا [ { تجاوزوها إلى ما لم يأمركم به ، ومن تجاوزها } ]( {[7523]} ) فهو ظالم .
وقد قال الضحاك : " معناه : من طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم " ( {[7524]} ) ، وأنكر ذلك غيره( {[7525]} ) .